معاني




فهرس معاني الكلمات001 الفاتحة ►002 البقرة ►003 آل عمران ►004 النساء ►005 المائدة ►006 الأنعام ►007 الأعراف ►008 الأنفال ►009 التوبة ►010 يونس ►011 هود ►012 يوسف ►013 الرعد ►014 إبراهيم ►015 الحجر ►016 النحل ►017 الإسراء ►018 الكهف ►019 مريم ►020 طه ►021 الأنبياء ►022 الحج ►023 المؤمنون ►024 النور ►025 الفرقان ►026 الشعراء ►027 النمل ►028 القصص ►029 العنكبوت ►030 الروم ►031 لقمان ►032 السجدة ►033 الأحزاب ►034 سبأ ►035 فاطر ►036 يس ►037 الصافات ►038 ص ►039 الزمر ►040 غافر ►041 فصلت ►042 الشورى ►043 الزخرف ►044 الدخان ►045 الجاثية ►046 الأحقاف ►047 محمد ►048 الفتح ►049 الحجرات ►050 ق ►051 الذاريات ►052 الطور ►053 النجم ►054 القمر ►055 الرحمن ►056 الواقعة ►057 الحديد ►058 المجادلة ►059 الحشر ►060 الممتحنة ►061 الصف ►062 الجمعة ►063 المنافقون ►064 التغابن ►065 الطلاق ►066 التحريم ►067 الملك ►068 القلم ►069 الحاقة ►070 المعارج ►071 نوح ►072 الجن ►073 المزمل ►074 المدثر ►075 القيامة ►076 الإنسان ►077 المرسلات ►078 النبأ ►079 النازعات ►080 عبس ►081 التكوير ►082 الإنفطار ►083 المطففين ►084 الانشقاق ►085 البروج ►086 الطارق ►087 الأعلى ►088 الغاشية ►089 الفجر ►090 البلد ►091 الشمس ►092 الليل ►093 الضحى ►094 الشرح ►095 التين ►096 العلق ►097 القدر ►098 البينة ►099 الزلزلة ►100 العاديات ►101 القارعة ►102 التكاثر ►103 العصر ►104 الهمزة ►105 الفيل ►106 قريش ►107 الماعون ►108 الكوثر ►109 الكافرون ►110 النصر ►111 المسد ►112 الإخلاص ►113 الفلق ►114 الناس ►

الجمعة، 18 فبراير 2022

مجموع فتاوى ابن تيمية – 14 – المجلد الرابع عشر (التفسير)

  1. مجموع فتاوى ابن تيمية – 14 – المجلد الرابع عشر

    (التفسير)

    شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
    فصــل في أسماء القرآن
    فصــل في الآيات الدالة على اتباع القرآن
    َسُئِلَ عن بعض الآحاديث هل هي صحيحة أم لا؟
    فصــل في صحة حديث الفاتحة
    فصــل في ذكر فضائل الفاتحة
    سورة الفاتحة
    فصــل في تفصيل حاجة الناس إلى الرب تبارك وتعالى
    فصــل في بيان أن الإنسان وجميع المخلوقات عباد لله
    فصــل في بيان أنه لا غنى عن الله تبارك وتعالى
    فصــل في بيان ما يصلح العباد من الأوامر والنواهي
    فصــل في ضرورة اقتفاء الصراط المستقيم
    سورة البقرة
    تفسير بعض آيات مشكلة
    فصــل في تفسيرقوله تعالى {ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق}
    فصــل في معنى المثل
    تفسير بعض المُشكل من الآيات
    فصــل في تقسيم ذمم أهل الكتاب
    َسُئِلَ عن معنى قوله تعالى {ما ننسخ من آية}
    تفسير قوله تعالى {يسألونك عن الشهر الحرام}
    سُئِلَ عن قوله تعالى {ْولا تنكحوا المشركات}
    فصــل فيما يبطل الصدقة
    فصــل في تفسير قوله تعالى {وإن تبدوا ما في أنفسكم}
    خواتيم سورة البقرة
    فصــل فى الدعاء المذكور في آخر ‏سورة البقرة‏‏
    سورة آل عمران
    فصــل في كيفية شهادة الرب تبارك وتعالى
    فصــل في بيان حال الشهادة
    فصــل في بيان ما يتبع الشهادة من العزة والحكمة
    فصــل فيما تضمنته أية الشهادة
    فصــل في قوله تعالى {وهو العزيز الحكيم}
    فصــل في أهمية شهادة أولي العلم
    فصــل في بيان عظمت شهادة الرب تبارك وتعالى
    فصــل شهادة الرب بالسمع والبصر
    فصــل في بيان أن الصدق في جانب الله معلوم بالفطرة
    فصــل في بيان قوله تعالى {لكن الله يشهد بما أنزل}
    فصــل في بيان أن من شهادة الرب تبارك وتعالى ما يجعله في القلوب من العلم
    سئل عن قوله تعالى {ومن دخله كان آمنا}
    ما قاله ابن تيمية في قوله تعالى {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه}
    سورة النساء
    سئل عن قوله تعالى {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن}
    فصــل في قوله تعالى {إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا}
    فصــل في حكمة الجمع بين الخيلاء والفخر والبخل في الآيات
    فصــل في قول الناس الآدمي جبار ضعيف
    تفسير قوله تعالى {ما أصابك من حسنة فمن الله}
    فصــل في قوله تعالى {ما أصابك من حسنة فمن الله}
    فصــل فيما يتناوله لفظ الحسنات والسيات في القرآن الكريم
    فصــل في المعصية الثابتة
    فصــل في معنى السيئات التي يعملها الإنسان
    فصــل ليس للقدرية أن يحتجوا بالآية {من يعمل سوءًا يجز به}
    فصــل في ظن طائفة أن في الآية إشكالا
    فصــل في تأويل قوله تعالى {وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك}
    فصــل في أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ليس سببا لشيء من المصائب
    فصــل في أن الكفار جعلوا ما أصابهم من المصائب بسبب ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم
    فصــل في ذكر كلام الجهمية
    فَصـل في قول من قال لم فرق بين الحسنات والسيئات؟
    فصــل في أن الحسنات من فضل الله ومنه
    فصــل في أن الحسنات يضاعفها الله تبارك وتعالى
    فصــل في اضطراب الناس في مضاعفة الحسنات
    فصــل المقصود من الآية هو أن يشكر الإنسان ربه على هذه النعم
    فصــل في أن ما يحصل للإنسان من الحسنات أمر وجودي أنعم الله به عليه
    فصــل في تنازع الناس في الترك
    فصــل في أن الثواب والعقاب على أمر وجودي
    فصــل منشأ السيئات من الجهل والظلم
    فصــل في أن الغفلة والشهوة أصل الشر
    فصــل في بيان تفضل الله على العباد
    فصــل في الذنوب عقوبة للإنسان على عدم فعله ما خلق له
    فصــل في قوله تعالى {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم}
    فصــل في أن السيئات ليس لها سبب إلا نفس الإنسان
    فصــل في أن السيئات خبيثة مذمومة
    فصــل في حتمية ألا يطلب العبد الحسنات إلا من الله تعالى
    فصــل في تفسير قوله تعالى {ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن}
    فصــل في تفسير قوله تعالى {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم}
    فصــل في أنه لا يجوز الجدال عن الخائن
    سُورَة المَائِدة
    فصــل في تفسير قوله تعالى {أوفوا بالعقود}
    فصــل في تفسير قوله تعالى قوله‏:‏ ‏{‏سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ‏}‏
    تفسير بعض الآيات المُشكلة
    فصــل في تفسير قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم}
    فصــل في بيان ما جاءت به الشريعة الإسلامية
    فصــل في تفسير قوله تعالى {عليكم أنفسكم}
    فصــل في تفسير قوله تعالى {فيقسمان بالله إن ارتبتم}
    سُورَة الأنْعَام
    تفسير قوله تعالى {ثم قضى أجلا}
    فصــل في أن الله عز وجل يرفع درجات من يشاء بالعلم
    تفسير بعض الآيات المُشكلة
    فصــل في تفسير قوله تعالى {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا}

     بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبى بعده‏.‏
    قَالَ شيخ الإِسلام ـ قدّس الله رُوحه وَنوّر ضريحه‏:‏
    فصــل
    أسْمَاء القُرآن
    القرآن، الفرقان، الكتاب، الهدى، النور، الشفاء، البيان، الموعظة، الرحمة، بصائر، البلاغ، الكريم،المجيد،العزيز، المبارك،التنزيل،المنزل،الصراط المستقيم، حبل اللّه، الذكر، الذكرى، تذكرة‏:‏‏{‏وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏ الحاقة‏:‏48‏]‏،‏{‏إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 54، 55‏]‏،‏{‏مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 79، وآل عمران‏:‏ 3‏]‏ و‏{‏تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏‏[‏يونس‏:‏37، يوسف‏:‏111‏]‏، المهيمن علىه، ‏{‏تَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏ يوسف‏:‏111‏]‏، ‏{‏تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏89‏]‏، المتشابه، المثاني، الحكيم‏:‏ ‏{‏تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏2‏]‏، محكم، المفصل‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏114‏]‏، البرهان‏:‏ ‏{‏قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏174‏]‏، على أحد القولين،الحق‏:‏‏{‏قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 108‏]‏، عربي مبين، أحسن الحديث، أحسن القصص على قول،كلام اللّه‏:‏ ‏{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏6‏]‏، العلم‏:‏‏{‏فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏61‏]‏، العلي الحكيم‏:‏‏{‏وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ‏}‏‏[‏الزخرف‏:‏ 4‏]‏، القيم‏:‏ ‏{‏يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ‏}‏‏[‏البينة‏:‏2، 3‏]‏، ‏{‏أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّمًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 1، 2‏]‏، وَحْي فى قوله‏:‏ ‏{‏إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏4‏]‏، حكمة فى قوله‏:‏‏{‏وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الْأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏4، 5‏]‏، وحُكْما فى قوله‏:‏ ‏{‏أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 37‏]‏،ونبأ على قول فى قوله‏:‏ ‏{‏عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ‏}‏‏[‏النبأ‏:‏2‏]‏،ونذير على قول‏:‏‏{‏هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى‏}‏‏[‏النجم‏:‏56‏]‏ فى حديث أبى موسى شافعا مشفعا وشاهداً مصدقا، وسماه النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏حُجَّة لك أو عليك‏)‏ وفى حديث الحارث عن على‏:‏‏(‏عِصْمَة لمن استمسك به‏)‏‏.‏
    وأما وصفه بأنه يقص وينطق ويحكم ويفتى ويبشر ويهدي فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏76‏]‏، ‏{‏هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 29‏]‏، ‏{‏قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ‏}‏ ‏[‏ النساء‏:‏ 127‏]‏ أي‏:‏ يفتيكم أيضا‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 9‏]‏‏.‏ 
     
    فصــل
    فى الآيات الدالة على اتباع القرآن
    قوله‏:‏ ‏{‏اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ‏}‏ ‏[‏ الفاتحة‏:‏ 6‏]‏، فإنه فى التفسير المرفوع عن النبى صلى الله عليه وسلم كتاب اللّه ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏[‏بياض بالأصل‏]‏‏.‏

    وَسُئِلَ ـ رحمه اللَّه ـ عن أحاديث، هل هي صحيحة وهل رواها أحد من المعتبرين بإسناد صحيح‏؟‏ إلخ ‏.‏
    فقال‏:‏

    فصــل
    وأما حديث فاتحة الكتاب، فقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏يقول اللّه تعالى‏:‏ قسمت الصلاة بينى وبين عبدي نصفين، نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد‏:‏‏{‏الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ قال اللّه‏:‏ حمدني عبدي، وإذا قال‏:‏ ‏{‏الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ‏}‏ قال اللّه‏:‏ أثْنَى علي عبدي، وإذا قال‏:‏‏{‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏قال اللّه‏:‏ مَجَّدَنى عبدي ‏.‏ وإذا قال‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ قال‏:‏ هذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال‏:‏ ‏{‏اهدِنَــــا
    الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ‏}‏ قال‏:‏ هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل‏)‏‏.‏
    وثبت فى صحيح مسلم عن ابن عباس قال‏:‏ بينما جبريل قاعد عند النبى صلى الله عليه وسلم سمع نقيضاً من فوقه فرفع رأسه، فقال‏:‏ ‏(‏هذا باب من السماء فتح اليوم ولم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك فقال‏:‏ هذا ملك نزل إلى الأرض، ولم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال‏:‏ أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبى قبلك‏:‏فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منها إلا أعطيته‏)‏، وفى بعض الأحاديث‏:‏ ‏(‏إن فاتحة الكتاب أعطيها من كَنْز تحت العرش‏)‏‏.‏ 
    فصــل
    قال الله تعالى في أم القرآن والسبع المثاني والقرآن العظيم‏:‏‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏5‏]‏،وهذه السورة هى أم القرآن،وهي فاتحة الكتاب،وهي السبع المثاني والقرآن العظيم،وهي الشافية،وهي الواجبة فى الصلوات،لا صلاة إلا بها،وهى الكافية تكفي من غيرها ولا يكفي غيرها عنها ‏.‏
    والصلاة أفضل الأعمال، وهي مؤلفة من كلم طيب وعمل صالح، أفضل كلمها الطيب وأوجبه القرآن، وأفضل عملها الصالح وأوجبه السجود، كما جمع بين الأمرين في أول سورة أنزلها على رسوله، حيث افتتحها بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ‏}‏‏[‏العلق‏:‏1‏]‏ وختمها بقوله‏:‏ ‏{‏وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏19‏]‏، فوضعت الصلاة على ذلك أولها القراءة وآخرها السجود ‏.‏
    ولهذا قال سبحانه فى صلاة الخوف‏:‏ ‏{‏فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 102‏]‏، والمراد بالسجود الركعة التى يفعلونها وحدهم بعد مفارقتهم للإمام، وما قبل القراءة من تكبير واستفتاح، واستعاذة، هي تحريم للصلاة، ومقدمة لما بعده، أول ما يبتدئ به كالتقدمة، وما يفعل بعد السجود من قعود، وتشهد فيه التحية للّه، والسلام على عباده الصالحين والدعاء والسلام على الحاضرين، فهو تحليل للصلاة ومعقبة لما قبله، قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مفتاح الصلاة الطُّهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم‏)‏‏.‏
    ولهذا لما تنازع العلماء أيما أفضل كثرة الركوع والسجود أو طول القيام أو هما سواء على ثلاثة أقوال عن أحمد وغيره، كان الصحيح أنهما سواء، القيام فيه أفضل الأذكار، والسجود أفضل الأعمال فاعتدلا؛ ولهذا كانت صلاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم معتدلة، يجعل الأركان قريباً من السواء، وإذا أطال القيام طولاً كثيراً - كما كان يفعل فى قيام الليل وصلاة الكسوف - أطال معه الركوع والسجود، وإذا اقتصد فيه اقتصد فى الركوع والسجود، وأم الكتاب، كما أنها القراءة الواجبة فهي أفضل سورة فى القرآن ‏.‏ قال النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏لم ينزل فى التوراة ولا الإنجيل ولا الزَّبُور ولا القرآن مثلها، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته‏)‏، وفضائلها كثيرة جداً ‏.‏
    وقد جاء مأثوراً عن الحسن البصري ـ رواه ابن ماجه وغيره ـ أن اللّه أنزل مائة كتاب وأربعة كتب، جمع علمها فى الأربعة، وجمع علم الأربعة فى القرآن، وجمع علم القرآن فى المفصَّل، وجمع علم المفصل فى أم القرآن، وجمع علم أم القرآن فى هاتين الكلمتين الجامعتين‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏5‏]‏ وإن علم الكتب المنزلة من السماء اجتمع فى هاتين الكلمتين الجامعتين ‏.‏
    ولهذا ثبت في الحديث الصحيح حديث‏:‏ إن اللّه تعالى يقول‏:‏‏(‏قسمت الصلاة بينى وبين عبدي نصفين، نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ قال اللّه‏:‏ حمدني عبدي، وإذا قال‏:‏‏{‏الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ‏}‏ قال اللّه‏:‏ أثْنَى علي عبدي، وإذا قال‏:‏‏{‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏ قال اللّه عز وجل‏:‏ مَجَّدَنى عبدي - وفى رواية‏:‏ فَوَّض إلى عبدى - وإذا قال‏:‏‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ قال‏:‏ فهذه الآية بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال‏:‏‏{‏اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ‏}‏ قال‏:‏ هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل‏)‏‏.‏
    فقد ثبت بهذا النص أن هذه السورة منقسمة بين اللّه وبين عبده وأن هاتين الكلمتين مقتسم السورة، فـ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ‏}‏ مع ما قبله للّه، و‏{‏وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ مع ما بعده للعبد وله ما سأل؛ ولهذا قال من قال من السلف‏:‏ نصفها ثناء ونصفها مسألة، وكل واحد من العبادة والاستعانة دعاء ‏.‏
    وإذا كان اللّه قد فرض علىنا أن نناجيه وندعوه بهاتين الكلمتين فى كل صلاة، فمعلوم أن ذلك يقتضى أنه فرض علىنا أن نعبده وأن نستعينه؛ إذ إيجاب القول الذى هو إقرار واعتراف ودعاء وسؤال هو إيجاب لمعناه ليس إيجابا لمجرد لفظ لا معنى له، فإن هذا لا يجوز أن يقع؛ بل إيجاب ذلك أبلغ من إيجاب مجرد العبادة والاستعانة؛ فإن ذلك قد يحصل أصله بمجرد القلب، أو القلب والبدن، بل أوجب دعاء اللّه ـ عز وجل ـ ومناجاته، وتكليمه ومخاطبته بذلك ليكون الواجب من ذلك كاملا صورة ومعنى بالقلب وبسائر الجسد ‏.‏
    وقد جمع بين هذين الأصلين الجامعين إيجاباً وغير إيجاب فى مواضع، كقوله فى آخر سورة هود‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏123‏]‏، وقول العبد الصالح شعيب‏:‏ ‏{‏وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 88‏]‏، وقول إبراهيم والذين معه‏:‏ ‏{‏رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏، وقوله ـ سبحانه ـ إذ أمر رسوله أن يقـول‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 30‏]‏‏.‏
    فأمر نبيـه بأن يقول‏:‏على الرحمن توكلت وإليه متاب،كما أمره بهما فى قوله‏:‏‏{‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏123‏]‏ والأمر له أمر لأمته، وأمره بذلك فى أم القرآن وفى غيرها لأمته ليكون فعلهم ذلك طاعة للّه وامتثالا لأمره، ولا يتقدموا بين يدى اللّه ورسوله؛ ولهذا كان عامة ما يفعله نبينا صلى الله عليه وسلم والخالصون من أمته من الأدعية والعبادات وغيرها إنما هو بأمر من اللّه؛ بخلاف من يفعل ما لم يؤمر به وإن كان حسناً أو عفواً، وهذا أحد الأسباب الموجبة لفضله وفضل أمته على من سواهم، وفضل الخالصين من أمته على المشوبين الذين شابوا ما جاء به بغيره، كالمنحرفين عن الصراط المستقيم ‏.‏
    وإلى هذين الأصلين كان النبى صلى الله عليه وسلم يقصد فى عباداته وأذكاره ومناجاته، مثل قوله فى الأضحية‏:‏ ‏(‏اللهم هذا منك ولك‏)‏، فإن قوله‏:‏ ‏(‏منك‏)‏ هو معنى التوكل والاستعانة، وقوله‏:‏‏(‏لك‏)‏ هو معنى العبادة، ومثل قوله في قيامه من الليل‏:‏ ‏(‏لك أسلمت، وبك آمنت، وعلىك توكلت، وإليك أنَبْت ، وبـك خاصمت، وإليك حاكمت، أعوذ بعزتك،لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذى لا يموت، والجن والإنس يموتون‏)‏ إلى أمثال ذلك ‏.‏
    إذا تقرر هذا الأصل، فالإنسان فى هذين الواجبين لا يخلو من أحوال أربعة هي القسمة الممكنة، إما أن يأتي بهما، وإما أن يأتى بالعبادة فقط، وإما أن يأتى بالاستعانة فقط، وإما أن يتركهما جميعاً‏.‏
    ولهذا كان الناس فى هذه الأقسام الأربعة، بل أهل الديانات هم أهل هذه الأقسام، وهم المقصودون هنا بالكلام‏.‏
    قسم يغلب عليه قصد التأله لله ومتابعة الأمر والنهى والإخلاص لله تعالى، واتباع الشريعة فى الخضوع لأوامره وزواجره وكلماته الكونيات، لكن يكون منقوصا من جانب الاستعانة والتوكل، فيكون إما عاجزاً وإما مفرطا،وهو مغلوب إما مع عدوه الباطن وإما مع عدوه الظاهر، وربما يكثر منه الجزع مما يصيبه، والحزن لما يفوته، وهذا حال كثير ممن يعرف شريعة الله وأمره، ويرى أنه متبع للشريعة وللعبادة الشرعية، ولا يعرف قضاءه وقدره، وهو حسن القصد،طالب للحق، لكنه غير عارف بالسبيل الموصلة، والطريق المفضية‏.‏
    وقسم يغلب عليه قصد الاستعانة بالله والتوكل علىه، وإظهار الفقر والفاقة بين يديه، والخضوع لقضائه وقدره وكلماته الكونيات، لكن يكون منقوصا من جانب العبادة وإخلاص الدين للّه،فلا يكون مقصوده أن يكون الدين كله للّه، وإن كان مقصوده ذلك فلا يكون متبعاً لشريعة اللّه ـ عز وجل ـ ومنهاجه، بل قصده نوع سلطان فى العالم، إما سلطان قدرة وتأثير،وإما سلطان كشف وإخبار، أو قصده طلب ما يريده ودفع ما يكرهه بأي طريق كان، أو مقصوده نوع عبادة وتأله بأي وجه كان همته فى الاستعانة والتوكل المعينة له على مقصوده، فيكون إما جاهلا وإما ظالما تاركا لبعض ما أمره اللّه به، راكبا لبعض ما نهى اللّه عنه، وهذه حال كثير ممن يتأله ويتصوف ويتفقر، ويشهد قدر اللّه وقضاءه، ولا يشهد أمر اللّه ونهيه، ويشهد قيام الأكوان باللّه وفقرها إليه، وإقامته لها ولا يشهد ما أمر به وما نهى عنه، وما الذي يحبه اللّه منه ويرضاه، وما الذي يكرهه منه ويسخطه ‏.‏
    ولهذا يكثر في هؤلاء من له كشف وتأثير وخرق عادة مع انحلال عن بعض الشريعة، ومخالفة لبعض الأمر، وإذا أوغل الرجل منهم دخل فى الإباحية والانحلال، وربما صعد إلى فساد التوحيد فيخرج إلى الاتحاد والحلول المقيد،كما قد وقع لكثير من الشيوخ، ويوجد فى كلام صاحب ‏(‏منازل السائرين‏)‏ وغيره ما يفضي إلى ذلك ‏.‏
    وقد يدخل بعضهم فى ‏(‏الاتحاد المطلق والقول بوحدة الوجود‏)‏ فيعتقد أن اللّه هو الوجود المطلق، كما يقول صاحب ‏(‏الفتوحات المكية‏)‏ في أولها‏:‏
    الرب حــق والعبــد حــــــق ** ياليــت شعـري مـــــن المكـلف
    إن قلـت عبــــد فــذاك ميــت ** أو قلــت رب أنـــــى يكـــلف
    وقسم ثالث مُعْرِضون عن عبادة اللّه وعن الاستعانة به جميعا ‏.‏
    وهم فريقان‏:‏ أهل دنيا وأهل دين، فأهل الدين منهم هم أهل الدين الفاسد الذين يعبدون غير اللّه، ويستعينون غير اللّه بظنهم وهوَاهم‏:‏ ‏{‏ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى‏}‏ ‏[‏ النجم‏:‏ 23 ‏]‏، وأهل الدنيا منهم الذين يطلبون ما يشتهونه من العاجلة بما يعتقدونه من الأسباب ‏.‏
    واعلم أنه يجب التفريق بين من قد يعرض عن عبادة اللّه والاستعانة به، وبين من يعبد غيره ويستعين بسواه ‏.‏
    فصــل
    قال الله ـ عز وجل ـ فى أول السورة‏:‏‏{‏الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِين‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏2‏]‏ فبدأ بهذين الاسمين‏:‏الله،والرب‏.‏
    و‏(‏الله‏)‏ هو الإله المعبود، فهذا الاسم أحق بالعبادة؛ ولهذا يقال‏:‏ الله أكبر، الحمد لله، سبحان الله لا إله إلا الله‏.‏
    و‏(‏الرب‏)‏ هو المربى الخالق الرازق الناصر الهادى‏.‏ وهذا الاسم أحق باسم الاستعانة والمسألة؛ ولهذا يقال‏:‏‏{‏رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ‏}‏‏[‏نوح‏:‏28‏]‏،‏{‏قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏‏[‏ الأعراف‏:‏23‏]‏،‏{‏رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏16‏]‏، ‏{‏ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏147‏]‏،‏{‏رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا‏}‏‏[‏البقرة‏:‏286‏]‏، فعامة المسألة والاستعانة المشروعة باسم الرب‏.‏
    فالاسم الأول يتضمن غاية العبد ومصيره ومنتهاه، وما خلق له، وما فيه صلاحه وكماله، وهو عبادة الله، والاسم الثانى يتضمن خلق العبد ومبتداه، وهو أنه يربه ويتولاه مع أن الثانى يدخل فى الأول دخول الربوبية فى الإلهية، والربوبية تستلزم الألوهية أيضاً، والاسم ‏(‏الرحمن‏)‏ يتضمن كمال التعلقين، وبوصف الحالين فيه تتم سعادته فى دنياه وأخراه‏.‏
    ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏30‏]‏،فذكر هنا الأسماء الثلاثة‏:‏‏(‏الرحمن‏)‏ و ‏(‏ربى‏)‏ و ‏(‏الإله‏)‏، وقال‏:‏ ‏{‏عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ‏}‏ كما ذكر الأسماء الثلاثة فى أم القرآن، لكن بدأ هناك باسم اللّه؛ ولهذا بدأ فى السورة بـ ‏{‏إيَّاكّ نّعًبٍد ‏}‏ فقدم الاسم وما يتعلق به من العبادة؛ لأن تلك السورة فاتحة الكتاب وأم القرآن، فقدم فيها المقصود الذي هو العلة الغائية، فإنها علة فاعلىة للعلة الغائية ‏.‏ وقد بسطت هذا المعنى فى مواضع؛ فى أول ‏(‏التفسير‏)‏ وفى ‏(‏قاعدة المحبة والإرادة‏)‏ وفي غير ذلك ‏.‏

    فصــل
    ولما كان علم النفوس بحاجتهم وفقرهم إلى الرب قبل علمهم بحاجتهم وفقرهم إلى الإله المعبود، وقصدهم لدفع حاجاتهم العاجلة قبل الآجلة، كان إقرارهم باللّه من جهة ربوبيته أسبق من إقرارهم به من جهة ألوهيته، وكان الدعاء له والاستعانة به والتوكل عليه فيهم أكثر من العبادة له، والإنابة إليه ‏.‏
    ولهذا إنما بعث الرسل يدعونهم إلى عبادة اللّه وحده لا شريك له، الذي هو المقصود المستلزم للإقرار بالربوبية، وقد أخبر عنهم أنهم ‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 87‏]‏، وأنهم إذا مسهم الضر ضل من يدعون إلا إياه وقال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏32‏]‏، فأخبر أنهم مقرون بربوبيته، وأنهم مخلصون له الدين إذا مسهم الضر في دعائهم واستعانتهم، ثم يعرضون عن عبادته في حال حصول أغراضهم ‏.‏
    وكثير من المتكلمين إنما يقررون الوحدانية من جهة الربوبية، وأما الرسل فهم دعوا إليها من جهة الألوهية، وكذلك كثير من المتصوفة المتعبدة وأرباب الأحوال إنما توجههم إلى اللّه من جهة ربوبيته؛ لما يمدهم به فى الباطن من الأحوال التى بها يتصرفون، وهؤلاء من جنس الملوك، وقد ذم اللّه ـ عز وجل ـ فى القرآن هذا الصنف كثيراً، فتدبر هذا فإنه تنكشف به أحوال قوم يتكلمون فى الحقائق، ويعملون عليها، وهم ـ لعمري ـ فى نوع من الحقائق الكونية القدرية الربوبية لا في الحقائق الدينية الشرعية الإلهية، وقد تكلمت على هذا المعنى في مواضع متعددة، وهو أصل عظيم يجب الاعتناء به، واللّه سبحانه أعلم ‏.‏

    فصــل
    وذلك أن الإنسان، بل وجميع المخلوقات، عباد للّه تعالى، فقراء إليه، مماليك له، وهو ربهم ومليكهم وإلههم، لا إله إلا هو، فالمخلوق ليس له من نفسه شىء أصلاً، بل نفسه وصفاته وأفعاله وما ينتفع به أو يستحقه ـ وغير ذلك ـ إنما هو من خلق اللّه،واللّه ـ عز وجل ـ رب ذلك كله ومليكه، وبارئه وخالقه ومصوره ‏.‏
    وإذا قلنا‏:‏ ليس له من نفسه إلا العدم، فالعدم ليس هو شيئا يفتقر إلى فاعل موجود، بل العدم ليس بشىء، وبقاؤه مشروط بعدم فعل الفاعل، لا أن عدم الفاعل يوجبه ويقتضيه كما يوجب الفاعل المفعول الموجود، بل قد يضاف عدم المعلول إلى عدم العلة، وبينهما فرق، وذلك أن المفعول الموجود إنما خلقـه وأبدعه الفاعـل، وليس المعدوم أبدعه عدم الفاعل، فإنه يفضى إلى التسلسل والدور؛ ولأنه ليس اقتضاء أحد العدمين للآخر بأولى من العكس؛ فإنه ليس أحد العدمين مميزاً لحقيقة استوجب بها أن يكون فاعلاً، وإن كان يعقل أن عدم المقتضى أولى بعدم الأثر من العكس، فهذا لأنه لما كان وجود المقتضى هو المفيد لوجود المقتضى صار العقل يضيف عدمه إلى عدمه إضافة لزومية؛ لأن عدم الشيء إما أن يكون لعدم المقتضى أو لوجود المانع‏.‏ وبعد قيام المقتضى لا يتصور أن يكون العدم إلا لأجل هاتين الصورتين أو الحالتين، فلما كان الشيء الذي انعقد سبب وجوده يعوقه ويمنعه المانع المنافى وهو أمر موجود، وتارة لا يكون سببه قد انعقد صار عدمه تارة ينسب إلى عدم مقتضيه، وتارة إلى وجود مانعه ومنافيه‏.‏
    وهذا معنى قول المسلمين‏:‏ ما شاء اللّه كان وما لم يشأ لم يكن؛ إذ مشيئته هي الموجبة وحدها لا غيرها، فيلزم من انتفائها انتفاؤه لا يكون شيء حتى تكون مشيئته، لا يكون شيء بدونها بحال، فليس لنا سبب يقتضى وجود شيء حتى تكون مشيئته مانعة من وجوده، بل مشيئته هي السبب الكامل، فمع وجودها لا مانع، ومع عدمها لا مقتضى ‏{‏مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 2‏]‏، ‏{‏وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 7‏]‏، ‏{‏قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُون‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 38‏]‏‏.‏
    وإذا عرف أن العبد ليس له من نفسه خير أصلاً، بل ما بنا من نعمة فمن اللّه، وإذا مسنا الضر فإليه نجأر، والخير كله بيديه، كما قال‏:‏‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏79‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏165‏]‏، وقال النبى صلى الله عليه وسلم فى سيد الاستغفار الذى فى صحيح البخارى‏:‏‏(‏اللهم أنت ربى لا إله إلا أنت، خلقتنى وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووَعْدك ما استطعت،أعوذ بك من شر ما صنعتُ، أبوءُ لك بنعمتك علىّ،وأبوءُ بذنبى،فاغفر لى فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت‏)‏، وقال فى دعاء الاستفتاح الذى فى صحيح مسلم‏:‏‏(‏لبيك وسعديك، والخير بيديك، والشر ليس إليك، تباركت ربنا وتعاليت‏)‏‏.‏
    وذلك أن الشر إما أن يكون موجوداً أو معدوماً ‏.‏فالمعدوم سواء كان عدم ذات أو عدم صفة من صفات كمالها أو فعل من أفعالها، مثل عدم الحياة، أو العلم، أو السمع أو البصر، أو الكلام، أو العقل، أو العمل الصالح على تنوع أصنافه، مثل معرفة الله ومحبته وعبادته والتوكل علىه، والإنابة إليه، ورجائه وخشيته، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وغير ذلك من الأمور المحمودة الباطنة والظاهرة، من الأقوال والأفعال‏.‏ فإن هذه الأمور كلها خيرات وحسنات وعدمها شر وسيئات، لكن هذا العدم ليس بشىء أصلاً، حتى يكون له بارئ وفاعل فيضاف إلى اللّه، وإنما هو من لوازم النفس التى هى حقيقة الإنسان قبل أن تخلق وبعد أن خلقت،فإنها قبل أن تخلق عدم مستلزم لهذا العدم، وبعد أن خلقت ـ وقد خلقت ضعيفة ناقصة ـ فيها النقص والضعف والعجز، فإن هذه الأمور عدمية، فأضيف إلى النفس من باب إضافة عدم المعلول إلى عدم علته، وعدم مقتضيه، وقد تكون من باب إضافته إلى وجود منافيه من وجه آخر سنبينه إن شاء اللّه تعالى‏.‏
    ونكتة الأمر‏:‏ أن هذا الشر والسيئات العدمية، ليست موجودة حتى يكون اللّه خالقها، فإن اللّه خالق كل شىء‏.‏
    والمعدومات تنسب تارة إلى عدم فاعلها، وتارة إلى وجود مانعها، فلا تنسب إليه هذه الشرور العدمية على الوجهين‏:‏
    أما الأول، فلأنه الحق المبين، فلا يقال‏:‏ عدمت لعدم فاعلها ومقتضيها ‏.‏
    وأما الثانى ـ وهو وجود المانع ـ فلأن المانع إنما يحتاج إليه إذا وجد المقتضى، ولو شاء فعلها لما منعه مانع، وهو ـ سبحانه ـ لا يمنع نفسه ما شاء فعله، بل هو فعال لما يشاء، ولكن اللّه قد يخلق هذا سبباً ومقتضياً ومانعاً، فإن جعل السبب تاماً لم يمنعه شيء،وإن لم يجعله تاماً منعه المانع لضعف السبب وعدم إعانة الله له، فلا يعدم أمر إلا لأنه لم يشأه، كما لا يوجد أمر إلا لأنه يشاؤه، وإنما تضاف هذه السيئات العدمية إلى العبد لعدم السبب منه تارة، ولوجود المانع منه أخرى ‏.‏
    أما عدم السبب فظاهر؛ فإنه ليس منه قوة ولا حول ولا خير ولا سبب خير أصالة، ولو كان منه شيء لكان سبباً فأضيف إليه لعدم السبب، ولأنه قد صدرت منه أفعال كان سببا لها بإعانة اللّه له، فما لم يصدر منه كان لعدم السبب ‏.‏
    وأما وجود المانع المضاد له المنافى، فلأن نفسه قد تضيق وتضعف، وتعجز أن تجمع بين أفعال ممكنة فى نفسها،متنافية في حقه، فإذا اشتغل بسمع شيء أو بصره، أو الكلام فى شيء أو النظر فيه أو إرادته، أو اشتغلت جوارحه بعمل كثير اشتغلت عن عمل آخر، وإن كان ذلك خيراً لضيقه وعجزه، فصار قيام إحدى الصفات والأفعال به مانعاً وصاداً عن آخر ‏.‏
    والضيق والعجز يعود إلى عدم قدرته، فعاد إلى العدم الذي هو منه، والعدم المحض ليس بشيء حتى يضاف إلى اللّه تعالى، وأما إن كان الشيء موجوداً كالألم وسبب الألم، فينبغي أن يعرف أن الشر الموجود ليس شراً على الإطلاق، ولا شراً محضاً، وإنما هو شر فى حق من تألم به، وقد تكون مصائب قوم عند قوم فوائد ‏.‏
    ولهذا جاء في الحديث الذي رويناه مسلسلاً‏:‏ ‏(‏آمنت بالقَدَر خيره وشره، وحلوه ومُرِّه‏)‏، وفى الحديث الذى رواه أبو داود‏:‏ ‏(‏لو أنفقت ملء الأرض ذَهَبا لما قَبِله منك حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك‏)‏، فالخير والشر هما بحسب العبد المضاف إليه كالحلو والمر سواء، وذلك أن من لم يتألم بالشيء ليس في حقه شراً، ومن تنعم به فهو في حقه خير، كما كان النبى صلى الله عليه وسلم يُعَلِّم من قصَّ عليه أخوه رؤيا أن يقول‏:‏ ‏(‏خيراً تلقاه وشراً توقاه، خيراً لنا وشراً لأعدائنا‏)‏، فإنه إذا أصاب العبد شر سُرَّ قلب عدوه، فهو خير لهذا وشر لهذا، ومن لم يكن له ولياً ولا عدواً فليس في حقه لا خيراً ولا شراً، وليس فى مخلوقات اللّه ما يؤلم الخلق كلهم دائماً، ولا ما يؤلم جمهورهم دائماً، بل مخلوقاته إما منعمة لهم أو لجمهورهم فى أغلب الأوقات، كالشمس والعافية، فلم يكن في الموجودات التى خلقها اللّه ما هو شر مطلقاً عاماً‏.‏
    فعلم أن الشر المخلوق الموجود شر مقيد خاص، وفيه وجه آخر هو به خير وحسن، وهو أغلب وجهيه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏7‏]‏،وقال تعالى‏:‏ ‏{‏صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏88‏]‏،وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 85‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً‏}‏ ‏[‏ آل عمران‏:‏191‏]‏
    وقد علم المسلمون أن اللّه لم يخلق شيئاً ما إلا لحكمة؛ فتلك الحكمة وجه حسنه وخيره، ولا يكون فى المخلوقات شر محض لا خير فيه، ولا فائدة فيه بوجه من الوجوه؛ وبهذا يظهر معنى قوله‏:‏ ‏(‏والشر ليس إليك‏)‏، وكون الشر لم يُضَف إلى اللّه وحده، بل إما بطريق العموم أو يضاف إلى السبب أو يحذف فاعله ‏.‏
    فهذا الشر الموجود الخاص المقيد سببه، إما عدم وإما وجود،فالعدم مثل عدم شرط أو جزء سبب؛ إذ لا يكون سببه عدماً محضاً؛ فإن العدم المحض لا يكون سبباً تاماً لوجود، ولكن يكون سبب الخير واللذة قد انعقد، ولا يحصل الشرط فيقع الألم، وذلك مثل عدم فعل الواجبات الذي هو سبب الذم والعقاب، ومثل عدم العلم الذي هو سبب ألم الجهل وعدم السمع والبصر والنطق الذي هو سبب الألم بالعمى والصمم والبكم، وعدم الصحة والقوة، الذي هو سبب الألم والمرض والضعف ‏.‏
    فهذه المواضع ـ ونحوها ـ يكون الشر ـ أيضاً ـ مضافاً إلى العدم المضاف إلى العبد، حتى يتحقق قول الخليل‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏80‏]‏، فإن المرض وإن كان ألماً موجوداً فسببه ضعف القوة، وانتفاء الصحة الموجودة، وذلك عدم هو من الإنسان المعدوم بنفسه، ولا يتحقق قول الحق‏:‏ ‏{‏وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏79‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ‏}‏‏[‏آل عمران‏:‏165‏]‏ ونحو ذلك فيما كان سببه عدم فعل الواجب، وكذلك قول الصحابى‏:‏ وإن يكن خطأ فمنى ومن الشيطان‏.‏
    يببن ذلك أن المحرمات جميعها من الكفر والفسوق والعصيان إنما يفعلها العبد لجهله أو لحاجته، فإنه إذا كان عالما بمضرتها وهو غنى عنها امتنع أن يفعلها، والجهل أصله عدم، والحاجة أصلها العدم‏.‏
    فأصل وقوع السيئات منه عدم العلم والغنى؛ ولهذا يقول فى القرآن‏:‏‏{‏مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏20‏]‏،‏{‏أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ‏}‏‏؟‏‏[‏يس‏:‏62‏]‏، ‏{‏إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏69،70‏]‏، إلى نحو هذه المعانى ‏.‏
    وأما الموجود الذى هو سبب الشر الموجود الذى هو خاص كالآلام، مثل الأفعال المحرمة من الكفر الذى هو تكذيب أو استكبار، والفسوق الذى هو فعل المحرمات ونحو ذلك، فإن ذلك سبب الذم والعقاب، وكذلك تناول الأغذية الضارة، وكذلك الحركات الشديدة المورثة للألم، فهذا الوجود لا يكون وجوداً تاماً محضاً؛ إذ الوجود التام المحض لا يورث إلا خيراً، كما قلنا‏:‏ إن العدم المحض لا يقتضى وجوداً، بل يكون وجوداً ناقصاً، إما فى السبب وإما فى المحل، كما يكون سبب التكذيب عدم معرفة الحق والإقرار به، وسبب عدم هذا العلم والقول عدم أسبابه،من النظر التام،والاستماع التام لآيات الحق وأعلامه‏.‏
    وسبب عدم النظر والاستماع، إما عدم المقتضى فيكون عدماً محضاً، وإما وجود مانع من الكبر أو الحسد فى النفس ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏23‏]‏، وهو تصور باطل، وسببه عدم غنى النفس بالحق فتعتاض عنه بالخيال الباطل ‏.‏
    والحسد ـ أيضاً ـ سببه عدم النعمة التى يصير بها مثل المحسود أو أفضل منه،فإن ذلك يوجب كراهة الحاسد لأن يكافئه المحسود، أو يتفضل عليه ‏.‏
    وكذلك الفسوق ـ كالقتل والزنا وسائر القبائح ـ إنما سببها حاجة النفس إلى الاشتفاء بالقتل والالتذاذ بالزنا،وإلا فمن حصل غرضه بلا قتل أو نال اللذة بلا زنا لا يفعل ذلك، والحاجة مصدرها العدم، وهذا يبين ـ إذا تدبره الإنسان ـ أن الشر الموجود إذا أضيف إلى عدم أو وجود فلابد أن يكون وجوداً ناقصاً، فتارة يضاف إلى عدم كمال السبب أو فوات الشرط، وتارة يضاف إلى وجود، ويعبر عنه تارة بالسبب الناقص والمحل الناقص، وسبب ذلك إما عدم شرط أو وجود مانع، والمانع لا يكون مانعاً إلا لضعف المقتضى، وكل ما ذكرته واضح بين، إلا هذا الموضع ففيه غموض يتبين عند التأمل وله طرفان‏:‏
    أحدهما‏:‏ أن الموجود لا يكون سببه عدماً محضاً ‏.‏
    والثانى‏:‏ أن الموجود لا يكون سبباً للعدم المحض، وهذا معلوم بالبديهة أن الكائنات الموجودة لا تصدر إلا عن حق موجود ‏.‏
    ولهذا كان معلوماً بالفطرة أنه لابد لكل مصنوع من صانع، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 35‏]‏، يقول‏:‏ أخلقوا من غير خالق خلقهم، أم هم خلقوا أنفسهم‏؟‏
    ومن المتكلمين من استدل على هذا المطلوب بالقياس، وضرب المثال، والاستدلال عليه ممكن ودلائله كثيرة، والفطرة عند صحتها أشد إقراراً به، وهو لها أبْدَه، وهى إليه أشد اضطرارا من المثال الذى يقاس به ‏.‏
    وقد اختلف أهل الأصول فى العلة الشرعية، هل يجوز تعلىل الحكم الوجودى بالوصف العدمى فيها مع قولهم‏:‏ إن العدمى يعلل بالعدمى‏؟‏ فمنهم من قال‏:‏ يعلل به، ومنهم من أنكر ذلك، ومنهم من فصل بين ما لا يجوز أن يكون علة للوجود فى قياس العلة،ويجوز أن تكون علته له فى قياس الدلالة فلا يضاف إليه فى قياس الدلالة، وهذا فصل الخطاب، وهو أن قياس الدلالة يجوز أن يكون العدم فيه علة وجزءاً من علة؛ لأن عدم الوصف قد يكون دليلا على وصف وجودى يقتضى الحكم ‏.‏
    وأما قياس العلة، فلا يكون العدم فيه علة تامة، لكن يكون جزءاً من العلة التامة وشرطا للعلة المقتضية التى ليست بتامة، وقلنا‏:‏ جزء من العلة التامة، وهو معنى كونه شرطاً في اقتضاء العلة الوجودية، وهذا نزاع لفظى، فإذا حققت المعانى ارتفع‏.‏ فهذا فى بيان أحد الطرفين وهو أن الموجود لا يكون سببه عدماً محضاً‏.‏
    وأما الطرف الثانى‏:‏ وهو أن الموجود لا يكون سبباً لوجود يستلزم عدماً، فلأن العدم المحض لا يفتقر إلى سبب موجود، بل يكفى فيه عدم السبب الموجود؛ ولأن السبب الموجود إذا أثر فلابد أن يؤثر شيئاً، والعدم المحض ليس بشىء، فالأثر الذي هو عدم محض بمنزلة عدم الأثر، بل إذا أثر الإعدام فالإعدام أمر وجودي فيه عدم، فإن جعل الموجود معدوماً والمعدوم موجوداً أمر معقول، أما جعل المعدوم معدوماً فلا يعقل إلا بمعنى الإبقاء على العدم، والإبقاء على العدم يكفي فيه عدم الفاعل، والفرق معلوم بين عدم الفاعل وعدم الموجب فى عدم العلة، وبين فاعل العدم، وموجب العدم، وعلة العدم ‏.‏ والعدم لا يفتقر إلى الثاني، يل يكفى فيه الأول ‏.‏
    فتبين بذلك الطرفان، وهو أن العدم المحض الذي ليس فيه شوب وجود لا يكون وجودا ما؛ لا سبباً ولا مسبباً، ولا فاعلا ولا مفعولا أصلا، فالوجود المحض التام الذي ليس فيه شوب عدم لا يكون سبباً لعدم أصلا، ولا مسبباً عنه،ولا فاعلاً له ولا مفعولاً، أما كونه ليس مسبباً عنه ولا مفعولاً له فظاهر، وأما كونه ليس سبباً له، فإن كان سبباً لعدم محض فالعدم المحض لا يفتقر إلى سبب موجود، وإن كان لعدم فيه وجود فذاك الوجود لابد له من سبب،ولو كان سببه تاماً وهو قابل لما دخل فيه عدم؛ فإنه إذا كان السبب تاماً والمحل قابلا، وجب وجود المسبب، فحيث كان فيه عدم فلعدم ما فى السبب أو فى المحل فلا يكون وجوداً محضاً ‏.‏
    فظهر أن السبب حيث تخلف حكمه إن كان لفوات شرط فهو عدم، وإن كان لوجود مانع فإنما صار مانعاً لضعف السبب، وهو أيضاً عدم قوته وكماله، فظهر أن الوجود ليس سبب العدم المحض، وظهر بذلك القسمة الرباعية، وهى أن الوجود المحض لا يكون إلا خيراً ‏.‏
    يبين ذلك أن كل شرٍّ فى العالم لا يخرج عن قسمين‏:‏ إما ألم وإما سبب الألم، وسبب الألم مثل الأفعال السيئة المقتضية للعذاب، والألم الموجود لا يكون إلا لنوع عدم، فكما يكون سببه تفرق الاتصال؛ وتفرق الاتصال هو عدم التأليف والاتصال الذى بينهما، وهو الشر والفساد ‏.‏
    وأمـا سبب الألم، فقد قررت فى قاعدة كبيرة‏:‏ أن أصل الذنوب هو عدم الواجبات لا فعل المحرمات، وإن فعل المحرمات إنما وقع لعدم الواجبات، فصار أصل الذنوب عدم الواجبات، وأصل الألم عدم الصحة؛ ولهذا كان النبى صلى الله عليه وسلم يعلمهم فى خطبة الحاجة أن يقولوا‏:‏ ‏(‏ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا‏)‏، فيستعيذ من شر النفس الذى نشأ عنها من ذنوبها وخطاياها، ويستعيذ من سيئات الأعمال التى هى عقوباتها وآلامها؛ فإن قوله‏:‏ ‏(‏ومن سيئات أعمالنا‏)‏ قد يراد به السيئات فى الأعمال، وقد يراد به العقوبات، فإن لفظ السيئات فى كتاب اللّه يراد به ما يسوء الإنسان من الشر، وقد يراد به الأعمال السيئة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏120‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 48‏]‏‏.‏
    ومعلوم أن شر النفس هو الأعمال السيئة،فتكون سيئات الأعمال هى الشر والعقوبات الحاصلة بها فيكون مستعيذاً من نوعى السيئات؛ الأعمال السيئة وعقوباتها، كما فى الاستعاذة المأمور بها فى الصلاة‏:‏ ‏(‏أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال‏)‏، فأمرنا بالاستعاذة من العذاب ـ عذاب الآخرة وعذاب البرزخ ـ ومن سبب العذاب، ومن فتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال‏.‏ وذكر الفتنة الخاصة بعد الفتنة العامة ـ فتنة المسيح الدجال ـ فإنها أعظم الفتن، كما فى الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏ما من خَلْق آدم إلى قيام الساعة فتنة أعظم من فتنة المسيح الدجال‏)‏‏.‏

    فصــل
    إذا ظهر أن العبد وكل مخلوق فقير إلى الله محتاج إليه ليس فقيراً إلى سواه، فليس هو مستغنياً بنفسه ولا بغير ربه، فإن ذلك الغير فقير أيضاً محتاج إلى الله، ومن المأثور عن أبى يزيد ـ رحمه الله ـ أنه قال‏:‏ استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق‏.‏ وعن الشيخ أبى عبد الله القرشى ‏[‏هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم، الأندلسى الصوفى، أحد العارفين وصاحب الكرامات والأحوال، له كلمات وجمل فى آداب المعاملات وطرائق أهل الرياضات جمعها بعض تلاميذه فى كتاب ـ الفصول ـ أقام بمصر مدة، وسكن القدس وتوفى بها سنة 995هـ عن خمس وخمسين سنة‏]‏ أنه قال‏:‏ استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون ‏.‏ وهذا تقريب وإلا فهو كاستغاثة العدم بالعدم؛ فإن المستغاث به إن لم يخلق الحق فيه قوة وحولا وإلا فليس له من نفسه شىء، قال سبحانه‏:‏ ‏{‏مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏255‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏28‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ‏}‏‏[‏البقرة‏:‏102‏]‏ واسم العبد يتناول معنيين‏:‏
    أحدهما‏:‏بمعنى العابد كرهاً،كما قال‏:‏‏{‏إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏93‏]‏،وقال‏:‏‏{‏وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا‏}‏‏[‏آل عمران‏:‏83‏]‏ وقال‏:‏‏{‏بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ‏}‏‏[‏البقرة‏:‏ 117، والأنعام‏:‏101‏]‏، ‏{‏كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 116،والروم‏:‏ 26 ‏]‏،وقال‏:‏‏{‏وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏15‏]‏‏.‏
    والثانى‏:‏ بمعنى العابد طوعاً وهو الذى يعبده ويستعينه، وهذا هو المذكور فى قوله‏:‏ ‏{‏وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏63‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا‏}‏‏[‏الإنسان‏:‏6‏]‏،وقوله‏:‏‏{‏نَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ‏}‏‏[‏الحجر‏:‏ 42‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏40‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏68‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 45‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏10‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 30، 44‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏1‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 19‏]‏ ‏.‏
    وهذه العبودية قد يخلو الإنسان منها تارة، وأما الأولى فوصف لازم،إذا أريد بها جريان القدر عليه وتصريف الخالق له،قال تعالى‏:‏‏{‏أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏83‏]‏، وعامة السلف على أن المراد بالاستسلام‏:‏ استسلامهم له بالخضوع والذل،لا مجرد تصريف الرب لهم،كما فى قوله‏:‏‏{‏وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏15‏]‏،وهذا الخضوع والذل هو ـ أيضاً ـ لازم لكل عبد لابد له من ذلك، وإن كان قد يعرض له أحياناً الإعراض عن ربه والاستكبار، فلابد له عند التحقيق من الخضوع والذل له،لكن المؤمن يسلم له طوعاً فيحبه ويطيع أمره،والكافر إنما يخضع له عند رغبة ورهبة، فإذا زال عنه ذلك أعرض عن ربه،كما قال‏:‏‏{‏وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ‏}‏‏[‏يونس‏:‏12‏]‏،وقال‏:‏‏{‏وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا‏}‏‏[‏الإسراء‏:‏67‏]‏‏.‏
    وفقر المخلوق وعبوديته أمر ذاتي له لا وجود له بدون ذلك، والحاجة ضرورية لكل المصنوعات المخلوقات، وبذلك هي أنها لخالقها وفاطرها؛ إذ لا قيام لها بدونه، وإنما يفترق الناس فى شهود هذا الفقر والاضطرار وعزوبه عن قلوبهم ‏.‏
    وأيضاً، فالعبد يفتقر إلى اللّه من جهة أنه معبوده الذي يحبه حب إجلال وتعظيم، فهو غاية مطلوبه ومراده ومنتهى همته، ولا صلاح له إلا بهذا، وأصل الحركات الحب، والذي يستحق المحبة لذاته هو اللّه، فكل من أحب مع اللّه شيئاً فهو مشرك، وحبه فساد؛ وإنما الحب الصالح النافع حب اللّه والحب للّه، والإنسان فقير إلى اللّه من جهة عبادته له ومن جهة استعانته به للاستسلام والانقياد لمن أنت إليه فقير وهو ربك وإلهك ‏.‏
    وهذا العلم والعمل أمر فطري ضروري؛ فإن النفوس تعلم فقرها إلى خالقها، وتذل لمن افتقرت إليه، وغناه من الصـمدية التى انفرد بها، فإنه ‏{‏يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏29‏]‏، وهو شهود الربوبية بالاستعانة والتوكل والدعاء والسؤال، ثم هذا لا يكفيها حتى تعلم ما يصلحها من العلم والعمل، وذلك هو عبادته والإنابة إليه؛ فإن العبد إنما خلق لعبادة ربه، فصلاحه وكماله ولذته وفرحه وسروره فى أن يعبد ربه وينيب إليه، وذلك قدر زائد على مسألته والافتقار إليه؛ فإن جميع الكائنات حادثة بمشيئته، قائمة بقدرته وكلمته، محتاجة إليه، فقيرة إليه، مسلمة له طوعاً وكرهاً، فإذا شهد العبد ذلك وأسلم له وخضع، فقد آمن بربوبيته، ورأى حاجته وفقره إليه صار سائلا له متوكلا عليه مستعيناً به،إما بحاله أو بِقَالِه، بخلاف المستكبر عنه المعرض عن مسألته‏.‏
    ثم هذا المستعين به السائل له، إما أن يسأل ما هو مأمور به، أو ما هو منهى عنه، أو ما هو مباح له،فالأول حال المؤمنين السعداء الذين حالهم‏:‏‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏5‏]‏، والثانى حال الكفار والفساق والعصاة الذين فيهم إيمان به وإن كانوا كفاراً، كما قال‏:‏ ‏{‏وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 106‏]‏ فهم مؤمنون بربوبيته، مشركون فى عبادته، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم لحُصَيْن الخزاعى‏:‏ ‏(‏يا حصين، كم تعبد‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ سبعة آلهة؛ ستة فى الأرض وواحدا فى السماء، قال‏:‏ ‏(‏فمن الذي تدع لرَغْبَتك ورَهْبَتك‏؟‏‏)‏، قال‏:‏ الذي فى السماء، قال‏:‏ ‏(‏أسلم حتى أعلمك كلمة ينفعك اللّه تعالى بها‏)‏، فأسلم، فقال‏:‏ ‏(‏قل‏:‏ اللهم ألهمني رشدي، وقِنِي شر نفسي‏)‏ رواه أحمد وغيره‏.‏
    ولهذا قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏186‏]‏، أخبر ـ سبحانه ـ أنه قريب من عباده، يجيب دعوة الداعى إذا دعاه، فهذا إخبار عن ربوبيته لهم، وإعطائه سؤلهم، وإجابة دعائهم؛ فإنهم إذا دعوه فقد آمنوا بربوبيته لهم، وإن كانوا مع ذلك كفاراً من وجه آخر، وفساقاً أو عصاة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا‏}‏ ‏[‏ الإسراء‏:‏67‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏12‏]‏،ونظائره في القرآن كثيرة، ثم أمرهم بأمرين فقال‏:‏‏{‏فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ‏}‏‏[‏البقرة‏:‏186‏]‏‏.‏فالأول أن يطيعوه فيما أمرهم به من العبادة والاستعانة، والثانى الإيمان بربوبيته وألوهيته،وأنه ربهم وإلههم‏.‏
    ولهذا قيل‏:‏ إجابة الدعاء تكون عن صحة الاعتقاد،وعن كمال الطاعة؛ لأنه عقب آية الدعاء بقوله‏:‏ ‏{‏فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي‏}‏ والطاعة والعبادة هى مصلحة العبد التى فيها سعادته ونجاته، وأما إجابة دعائه وإعطاء سؤاله، فقد يكون منفعة وقد يكون مضرة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏11‏]‏،وقال تعالى‏:‏‏{‏وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏11‏]‏، وقال تعالى عن المشركين‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏‏[‏الأنفال‏:‏32‏]‏،وقال‏:‏ ‏{‏إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏19‏]‏،وقال‏:‏‏{‏ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏55‏]‏، وقال‏:‏‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ‏}‏الآية ‏[‏الأعراف‏:‏175، 176‏]‏،وقال‏:‏‏{‏فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏61‏]‏، وقال النبى صلى الله عليه وسلم ـ لما دخل على أهل جابر ـ فقال‏:‏ ‏(‏لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير؛ فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون‏)‏‏.‏

    فصــل
    فالعبد كما أنه فقير إلى اللّه دائماً ـ فى إعانته وإجابة دعوته وإعطاء سؤاله وقضاء حوائجه ـ فهو فقير إليه فى أن يعلم ما يصلحه وما هو الذي يقصده ويريده، وهذا هو الأمر والنهي والشريعة، وإلا فإذا قضيت حاجته التى طلبها وأرادها ولم تكن مصلحة له كان ذلك ضرراً علىه، وإن كان في الحال له فيه لذة ومنفعة فالاعتبار بالمنفعة الخالصة أو الراجحة، وهذا قد عَرَّفه اللّه عباده برسله وكتبه‏.‏ علموهم، وزكوهم، وأمروهم بما ينفعهم، ونهوهم عما يضرهم، وبينوا لهم أن مطلوبهم ومقصودهم ومعبودهم يجب أن يكون هو الله وحده لا شريك له، كما أنه هو ربهم وخالقهم، وأنهم إن تركوا عبادته أو أشركوا به غيره خسروا خسراناً مبيناً، وضلوا ضلالا بعيداً، وكان ما أوتوه من قوة ومعرفة وجاه ومال وغير ذلك ـ وإن كانوا فيه فقراء إلى الله مستعينين به علىه، مقرين بربوبيته ـ فإنه ضرر علىهم، ولهم بئس المصير وسوء الدار‏.‏
    وهذا هو الذي تعلق به الأمر الديني الشرعى والإرادة الدينية الشرعية، كما تعلق بالأول الأمر الكونى القدري والإرادة الكونية القدرية ‏.‏
    والله ـ سبحانه ـ قد أنعم على المؤمنين بالإعانة والهداية؛ فإنه بين لهم هُدَاهم بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وأعانهم على اتباع ذلك علماً وعملا، كما مَنَّ علىهم وعلى سائر الخلق بأن خلقهم ورزقهم وعافاهم، ومَنَّ على أكثر الخلق بأن عرفهم ربوبيته لهم وحاجتهم إليه، وأعطاهم سؤلهم، وأجاب دعاءهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏29‏]‏، فكل أهل السموات والأرض يسألونه، فصارت الدرجات أربعة‏:‏
    قوم لم يعبدوه ولم يستعينوه،وقد خلقهم ورزقهم وعافاهم ‏.‏
    وقوم استعانوه فأعانهم ولم يعبدوه ‏.‏
    وقوم طلبوا عبادته وطاعته، ولم يستعينوه ولم يتوكلوا عليه ‏.‏
    والصنف الرابع‏:‏ الذين عبدوه واستعانوه فأعانهم على عبادته وطاعته، وهؤلاء هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وقد بين ـ سبحانه ـ ما خص به المؤمنين فى قوله‏:‏ ‏{‏حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 7‏]‏ والحمد لله رب العالمين، وصلى اللّه على أفضل المرسلين محمد وآله وصحبه أجمعين ‏.‏
    َقَالَ شيخ الإِسلام أبو العباس أَحمد بن تيمـية ـ رَحِمَـهُ اللَّهُ تعَالى‏:‏
    فصــل
    والعبد مضطر دائماً إلى أن يهديه الله الصراط المستقيم، فهو مضطر إلى مقصود هذا الدعاء؛ فإنه لا نجاة من العذاب ولا وصول إلى السعادة إلا بهذه الهداية، فمن فاته فهو إما من المغضوب علىهم، وإما من الضالين، وهذا الهدى لا يحصل إلا بهدى الله، وهذه الآية مما يبين فساد مذهب القَدَرِيّة ‏.‏
    وأما سؤال من يقول‏:‏ فقد هداهم فلا حاجة بهم إلى السؤال، وجواب من أجابه‏:‏ بأن المطلوب دوامها ـ كلام من لم يعرف حقيقة الأسباب، وما أمر الله به؛ فإن ‏(‏الصراط المستقيم‏)‏ أن يفعل العبد فى كل وقت ما أمر به فى ذلك الوقت من علم وعمل، ولا يفعل ما نهى عنه، وهذا يحتاج فى كل وقت إلى أن يعلم ويعمل ما أمر به في ذلك الوقت وما نهى عنه، وإلى أن يحصل له إرادة جازمة لفعل المأمور، وكراهة جازمة لترك المحظور، فهذا العلم المفصل والإرادة المفصلة لا يتصور أن تحصل للعبد فى وقت واحد، بل كل وقت يحتاج إلى أن يجعل الله فى قلبه من العلوم والإرادات ما يهتدى به فى ذلك الصراط المستقيم ‏.‏
    نعم، حصل له هدى مجمل بأن القرآن حق، والرسول حق، ودين الإسلام حق، وذلك حق، ولكن هذا المجمل لا يغنيه إن لم يحصل له هدى مفصل فى كل ما يأتيه ويذره من الجزئيات التى يحار فيها أكثر عقول الخلق، ويغلب الهوى والشهوات أكثر عقولهم لغلبة الشهوات والشبهات عليهم ‏.‏
    والإنسان خلق ظلوما جهولا، فالأصل فيه عدم العلم وميله إلى ما يهواه من الشر، فيحتاج دائماً إلى علم مفصل يزول به جهله، وعدل فى محبته وبغضه ورضاه وغضبه وفعله وتركه وإعطائه ومنعه وأكله وشربه ونومه ويقظته، فكل ما يقوله ويعمله يحتاج فيه إلى علم ينافى جهله، وعدل ينافى ظلمه، فإن لم يمن الله عليه بالعلم المفصل والعدل المفصل وإلا كان فيه من الجهل والظلم ما يخرج به عن الصراط المستقيم،وقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم - بعد صلح الحديبية وبيعة الرضوانِ‏:‏ ‏{‏إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا‏}‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 1، 2‏]‏، فإذا كان هذا حاله فى آخر حياته أو قريباً منها فكيف حال غيره‏؟‏
    و ‏(‏الصراط المستقيم‏)‏ قد فسر بالقرآن، وبالإسلام، وطريق العبودية، وكل هذا حق فهو موصوف بهذا وبغيره، فالقرآن مشتمل على مهمات وأمور دقيقة، ونواهٍ وأخبار وقصص وغير ذلك، إن لم يهد الله العبد إليها فهو جاهل بها ضال عنها، وكذلك الإسلام وما اشتمل عليه من المكارم والطاعات والخصال المحمودة، وكذلك العبادة وما اشتملت علىه‏.‏
    فحاجة العبد إلى سؤال هذه الهداية ضرورية فى سعادته ونجاته وفلاحه، بخلاف حاجته إلى الرزق والنصر، فإن الله يرزقه، فإذا انقطع رزقه مات، والموت لابد منه، فإذا كان من أهل الهدى به كان سعيداً قبل الموت وبعده، وكان الموت موصلا إلى السعادة الأبدية، وكذلك النصر إذا قدر أنه غلب حتى قتل فإنه يموت شهيداً، وكان القتل من تمام النعمة، فتبين أن الحاجة إلى الهدى أعظم من الحاجة إلى النصر والرزق، بل لا نسبة بينهما؛ لأنه إذا هدي كان من المتقين ‏{‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏2، 3‏]‏، وكان ممن ينصر الله ورسوله، ومن نصر الله نصره الله، وكان من جند الله، وهم الغالبون؛ ولهذا كان هذا الدعاء هو المفروض ‏.‏
    وأيضاً، فإنه يتضمن الرزق والنصر؛ لأنه إذا هدى، ثم أمر وهدى غيره بقوله وفعله ورؤيته، فالهدى التام أعظم ما يحصل به الرزق والنصر، فتبين أن هذا الدعاء جامع لكل مطلوب، وهذا مما يبين لك أن غير الفاتحة لا يقوم مقامها وأن فضلها على غيرها من الكلام أعظم من فضل الركوع والسجود على سائر أفعال الخضوع، فإذا تعينت الأفعال فهذا القول أولى، والله أعلم ‏.‏
    وصلى الله على نبيه محمد وسلم تسليما كثيراً ‏.‏
    قال شيخ الإسلام ـ رَحِمهُ اللَّه‏:‏
    فصــل
    وقد ذكرت فى مواضع ما اشتملت عليه سورة ‏(‏البقرة‏)‏ من تقرير أصول العلم وقواعد الدين‏:‏ أن الله ـ تعالى ـ افتتحها بذكر كتابه الهادى للمتقين، فوصف حال أهل الهدى، ثم الكافرين، ثم المنافقين‏.‏ فهذه ‏(‏جمل خبرية‏)‏ ثم ذكر ‏(‏الجمل الطلبية‏)‏ فدعا الناس إلى عبادته وحده، ثم ذكر الدلائل على ذلك من فرش الأرض وبناء السماء وإنزال الماء، وإخراج الثمار رزقا للعباد، ثم قرر ‏(‏الرسالة‏)‏ وذكر ‏(‏الوعد، والوعيد‏)‏ ثم ذكر مبدأ ‏(‏النبوة والهدى‏)‏ وما بثه فى العالم من الخلق والأمر، ثم ذكر تعلم آدم الأسماء، وإسجاد الملائكة له لما شرفه من العلم؛ فإن هذا تقرير لجنس ما بعث به محمد صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق، فقص جنس دعوة الأنبياء‏.‏
    ثم انتقل إلى خطاب بنى إسرائيل وقصة موسى معهم، وضمن ذلك تقرير نبوته، إذ هو قرين محمد، فذكر آدم الذى هو أول،وموسى الذى هو نظيره، وهما اللذان احتجا، وموسى قتل نفساً فغفر له، وآدم أكل من الشجرة فتاب علىه، وكان فى قصة موسى رد على الصابئة ونحوهم ممن يقر بجنس النبوات ولا يوجب اتباع ما جاؤوا به، وقد يتأولون أخبار الأنبياء، وفيها رد على أهل الكتاب بما تضمنه ذلك من الأمر بالإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وتقرير نبوته، وذكر حال من عَدَل عن النبوة إلى السِّحْر، وذكر النسخ الذى ينكره بعضهم، وذكر النصارى وأن الأمتين لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم ‏.‏كل هذا فى تقرير أصول الدين من الوحدانية والرسالة ‏.‏
    ثم أخذ ـ سبحانه ـ فى بيان شرائع الإسلام التى على ملة إبراهيم، فذكر إبراهيم، الذى هو إمام، وبناء البيت الذى بتعظيمه يتميز أهل الإسلام عما سواهم، وذكر استقباله، وقرر ذلك؛ فإنه شعار الملة بين أهلها وغيرهم؛ ولهذا يقال‏:‏ أهل القبلة، كما يقال‏:‏ ‏(‏من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم‏)‏‏.‏
    وذكر من ‏(‏المناسك‏)‏ ما يختص بالمكان، وذلك أن الحج له مكان وزمان، و‏(‏العمرة‏)‏ لها مكان فقط، والعكوف والركوع والسجود شرع فيه، ولا يتقيد به، ولا بمكان، ولا بزمان، لكن الصلاة تتقيد باستقباله، فذكر ـ سبحانه ـ هذه الأنواع الخمسة‏:‏ من العكوف، والصلاة، والطواف، والعمرة، والحج، والطواف يختص بالمكان، ثم أتبع ذلك ما يتعلق بالبيت من الطواف بالجبلين، وأنه لا جُنَاح فيه؛ جوابا لما كان عليه الأنصار فى الجاهلية من كراهة الطواف بهما لأجل إهلالهم لمناة، وجوابا لقوم توقفوا عن الطواف بهما‏.‏
    وجاء ذكر الطواف بعد العبادات المتعلقة بالبيت ـ بل وبالقلوب والأبدان والأموال ـ بعد ما أمروا به من الاستعانة بالصبر والصلاة اللذين لا يقوم الدين إلا بهما، وكان ذلك مفتاح الجهاد المؤسس على الصبر؛ لأن ذلك من تمام أمر البيت؛ لأن أهل الملل لا يخالفون فيه، فلا يقوم أمر البيت إلا بالجهاد عنه، وذكر الصبر على المشروع والمقدور، وبين ما أنعم به على هذه الأمة من البشرى للصابرين؛ فإنها أعطيت ما لم تعط الأمم قبلها، فكان ذلك من خصائصها وشعائرها كالعبادات المتعلقة بالبيت؛ ولهذا يقرن بين الحج والجهاد لدخول كل منهما فى سبيل الله، فأما الجهاد فهو أعظم سبيل الله بالنص والإجماع، وكذلك الحج فى الأصح، كما قال‏:‏ الحج من سبيل الله‏.‏
    وبين أن هذا معروف عند أهل الكتاب بذمه لكاتم العلم، ثم ذكر أنه لا يقبل ديناً غير ذلك‏.‏ ففى أولها‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 22‏]‏، وفى أثنائها‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 165‏]‏، فالأول نهي عام، والثانى نهي خاص، وذكرها بعد البيت لينتهى عن قصد الأنداد المضاهية له ولبيته من الأصنام والمقابر ونحو ذلك، ووحد نفسه قبل ذلك، وأنه لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، ثم ذكر ما يتعلق بتوحيده من الآيات‏.‏
    ثم ذكر الحلال والحرام، وأطلق الأمر فى المطاعم؛ لأن الرسول بعث بالحنيفية وشعارها وهو البيت، وذكر سماحتها في الأحوال المباحة، وفي الدماء بما شرعه من القصاص، ومن أخذ الدية، ثم ذكر العبادات المتعلقة بالزمان، فذكر الوصية المتعلقة بالموت، ثم الصيام المتعلق برمضان، وما يتصل به من الاعتكاف ذكره في عبادات المكان وعبادات الزمان، فإنه يختص بالمسجد وبالزمان استحباباً أو وجوبا بوقت الصيام، ووسطه أولاً بين الطواف والصلاة؛ لأن الطواف يختص بالمسجد الحرام، والصلاة تشرع فى جميع الأرض، والعكوف بينهما ‏.‏
    ثم أتبع ذلك بالنهى عن أكل الأموال بالباطل، وأخبر أن المحرم نوعان‏:‏ نوع لعينه كالميتة، ونوع لكسبه كالربا والمغصوب‏.‏ فاتبع المعنى الثابت بالمحرم الثابت تحريمه لعينه، وذكر فى أثناء عبادات الزمان المنتقل الحرام المنتقل؛ ولهذا أتبعه بقوله‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 189‏]‏، وهى أعلام العبادات الزمنية، وأخبر أنه جعلها مواقيت للناس فى أمر دينهم ودنياهم وللحج؛ لأن البيت تحجه الملائكة والجن، فكان هذا أيضا فى أن الحج موقت بالزمان كأنه موقت بالبيت المكانى؛ ولهذا ذكر بعد هذا من أحكام الحج ما يختص بالزمان، مع أن المكان من تمام الحج والعمرة ‏.‏
    وذكر المُحْصَر، وذكر تقديم الإحلال المتعلق بالمال وهو الهدى عن الإحلال المتعلق بالنفس وهو الحلق، وإن المتحلل يخرج من إحرامه فيحل بالأسهل فالأسهل؛ ولهذا كان آخر ما يحل عين الوطء ‏[‏فى المطبوعة‏:‏ الوطئ ـ والصواب ما أثبتناه‏]‏، فإنه أعظم المحظورات ولا يفسد النسك بمحظور سواه ‏.‏
    وذكر ‏(‏التمتع بالعمرة إلى الحج‏)‏ لتعلقه بالزمان مع المكان؛ فإنه لا يكون متمتعاً حتى يحرم بالعمرة فى أشهر الحج، وحتى لا يكون أهله حاضرى المسجد الحرام ـ وهو الأفقى ـ فإنه الذى يظهر التمتع فى حقه لترفهه بسقوط أحد السفرين عنه، أما الذي هو حاضر فسيان عنده تمتع أو اعتمر قبل أشهر الحج، ثم ذكر وقت الحج، وأنه أشهر معلومات، وذكر الإحرام والوقوف بعرفة ومزدلفة؛ فإنه هذا مختص بزمان ومكان؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏197‏]‏، ولم يقل‏:‏ ‏(‏والعمرة‏)‏ لأنها تفرض فى كل وقت، ولا ريب أن السنة فرض الحج فى أشهره، ومن فرض قبله خالف السنة، فإما أن يلزمه ما التزمه كالنذر ـ إذ ليس فيه نقد للمشروع، وليس كمن صلى قبل الوقت ـ وإما أن يلزم الإحرام ويسقط الحج ويكون معتمراً، وهذان قولان مشهوران ‏.‏
    ثم أمر عند قضاء المناسك بذكره، وقضائها ـ والله أعلم ـ قضاء التَّفَث ‏[‏التَّفَث‏:‏ قيل‏:‏ الشَّعَث وما كان من نحو قص الأظفار والشارب وحلق العانة وغير ذلك‏.‏ انظر‏:‏ القاموس المحيط، مادة‏:‏ تفث‏]‏، والإحلال؛ ولهذا قال بعد ذلك‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏203‏]‏، وهذا أيضاً من العبادات الزمانية المكانية ‏.‏ وهو ذكر الله تعالى مع رمى الجمار ومع الصلوات، ودل على أنه مكانى قوله‏:‏ ‏{‏فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏203‏]‏، وإنما يكون التعجيل والتأخير فى الخروج من المكان؛ ولهذا تضاف هذه الأيام إلى مكانها فيقال‏:‏ أيام مِنى، وإلى عملها فيقال‏:‏ أيام التشريق، كما يقال‏:‏ ليلة جَمْع ‏[‏أى مِنى‏]‏، وليلة مزدلفة، ويوم عرفة، ويوم الحج الأكبر، ويوم العيد، ويوم الجمعة، فتضاف إلى الأعمال وأماكن الأعمال؛ إذ الزمان تابع للحركة، والحركة تابعة للمكان ‏.‏
    فتدبر تناسب القرآن وارتباط بعضه ببعض، وكيف ذكر أحكام الحج فيها فى موضعين، مع ذكر بيته وما يتعلق بمكانه، وموضع ذكر فيه الأهلة فذكر ما يتعلق بزمانه، وذكر أيضاً القتال فى المسجد الحرام والمقاصة فى الشهر الحرام؛ لأن ذلك مما يتعلق بالزمان المتعلق بالمكان؛ ولهذا قرن ـ سبحانه ـ ذكر كون الأهلة مواقيت للناس والحج ‏.‏
    وذكر أن ‏(‏البر‏)‏ ليس أن يشقى الرجل نفسه، ويفعل ما لا فائدة فيه، من كونه يبرز للسماء، فلا يستظل بسقف بيته، حتى إذا أراد دخول بيته لا يأتيه إلا من ظهره، فأخبر أن الهلال الذى جعل ميقاتاً للحج شرع مثل هذا، وإنما تضمن شرع التقوى، ثم ذكر بعد ذلك ما يتعلق بأحكام النكاح والوالدات، وما يتعلق بالأموال والصدقات والربا والديون وغير ذلك، ثم ختمها بالدعاء العظيم المتضمن وضع الآصار والأغلال والعفو والمغفرة والرحمة وطلب النصر على القوم الكافرين الذين هم أعداء ما شرعه من الدين فى كتابه المبين ‏.‏
    والحمد لله رب العالمين ‏.
    قال شيخ الإِسَلام‏:‏
    هـذا تفسير آيات أشكلت حتى لا يوجد في طائفة من ‏(‏كتب التفسير‏)‏ إلا ما هو خطأ‏:‏
    منها قوله‏:‏ ‏{‏بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏81‏]‏، ذكر أن المشهور أن ‏(‏السيئة‏)‏ الشرك، وقيل‏:‏ الكبيرة يموت عليها، قاله عكرمة‏.‏ قال مجاهد‏:‏ هي الذنوب تحيط بالقلب ‏.‏
    قلت‏:‏ الصواب ذكر أقوال السلف، وإن كان فيها ضعيف فالحجة تبين ضعفه، فلا يعدل عن ذكر أقوالهم لموافقتها قول طائفة من المبتدعة، وهم ينقلون عن بعض السلف أن هذه الآية أخطأ فيها الكاتب كما قيل فى غيرها، ومن أنكر شيئا من القرآن بعد تواتره استتيب، فإن تاب وإلا قتل، وأما قبل تواتره عنده فلا يستتاب، لكن يبين له، وكذلك الأقوال التى جاءت الأحاديث بخلافها؛ فقها، وتصوفا، واعتقاداً، وغير ذلك ‏.‏
    وقول مجاهد صحيح، كما في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏إذا أذنب العبد نكتَ فى قلبه نكتة سوداء‏)‏ إلخ‏.‏‏.‏، والذي يغشى القلب يسمى ‏(‏رَيْناً‏)‏ و‏(‏طَبْعاً‏)‏ و‏(‏خَتْماً‏)‏ و ‏(‏قُفْلا‏)‏ ونحو ذلك، فهذا ما أصر عليه‏.‏ و‏(‏إحاطة الخطيئة‏)‏‏:‏ إحداقها به فلا يمكنه الخروج، وهذا هو البَسْل بما كسبت نفسه، أي‏:‏ تحبس عما فيه نجاتها فى الدارين؛ فإن المعاصي قيد وحبس لصاحبها عن الجَوَلان فى فضاء التوحيد، وعن جَنْى ثمار الأعمال الصالحة‏.‏
    ومن المنتسبين إلى السنة من يقول‏:‏ إن صاحب الكبيرة يعذب مطلقاً،والأكثرون على خلافه، وأن الله ـ سبحانه ـ يزن الحسنات والسيئات، وعلى هذا دل الكتاب والسنة وهو معنى الوزن، لكن تفسير السيئة بالشرك هو الأظهر؛ لأنه ـ سبحانه ـ غاير بين المكسوب والمحيط، فلو كان واحداً لم يغاير، والمشرك له خطايا غير الشرك أحاطت به لأنه لم يتب منها‏.‏
    وأيضا، قوله‏:‏ ‏{‏سَيِّئَةً‏}‏ نكرة، وليس المراد جنس السيئات بالاتفاق ‏.‏
    وأيضا، لفظ ‏(‏السيئة‏)‏ قد جاء فى غير موضع مرادا به الشرك وقوله‏:‏ ‏{‏سَيِّئَةً‏}‏ أي‏:‏حال سيئة أو مكان سيئة ونحو ذلك،كما في قوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏201‏]‏، أي حالاً حسنة تعم الخير كله، وهذا اللفظ يكون صفة، وقد ينقل من الوصفية إلى الاسمية؛ ويستعمل لازما أو متعديا يقال‏:‏ ساء هذا الأمر،أي‏:‏ قَبُح، ويقال‏:‏ ساءنى هذا، قال ابن عباس فى قوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏27‏]‏‏:‏ عملوا الشرك؛ لأنه وصفهم بهذا فقط، ولو آمنوا لكان لهم حسنات، وكذا لما قال‏:‏ ‏{‏كَسَبَ سَيِّئَةً‏}‏ لم يذكر حسنة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏26‏]‏ أي‏:‏ فعلوا الحسنى، وهو ما أمروا به، كذلك ‏(‏السيئة‏)‏ تتناول المحظور فيدخل فيها الشرك ‏.‏
    وقال شيخ الإِسَلام ـ قدَّسَ اللَّه روحهُ ‏:‏
    فصــل
    قال الله تعالى‏:‏‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏17‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏6، 7‏]‏، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 3‏]‏، قال طائفة من السلف‏:‏ الغيب هو الله، أو من الإيمان بالغيب الإيمان بالله‏.‏ ففي موضع نفى عن نفسه أن يكون غائباً، وفى موضع جعله نفسه غيباً‏.‏
    ولهذا اختلف الناس في هذه المسألة، فطائفة من المتكلمين من أصحابنا وغيرهم ـ كالقاضي وابن عقيل ‏[‏هو أبو الوفاء على بن عقيل البغدادى، عالم العراق وشيخ الحنابلة ببغداد فى وقته، اشتغل بمذهب المعتزلة فى حداثته، وقال عنه ابن حجر‏:‏ نعم كان معتزليا، ثم أشهد على نفسه أنه تاب عن ذلك وصحت توبته، له تصانيف كثيرة، منها ـ كتاب الفنون ـ الذى يزيد على أربعمائة مجلد، توفى سنة 315هـ‏]‏ وابن الزاغونى ‏[‏هو أبو الحسن على بن عبيد الله بن نصر بن الزاغونى، مؤرخ فقيه، من أعيان الحنابلة، له تصانيف كثيرة فى الفقه والأصول والحديث، منها‏:‏الإقناع والواضح وغيرهما ‏.‏ ولد سنة 455 هـ، وتوفى سنة 527 هـ‏]‏ يقولون بقياس الغائب على الشاهد، ويريدون بالغائب الله، ويقولون‏:‏ قياس الغائب على الشاهد ثابت بالحد والعلة والدليل والشرط‏.‏ كما يقولون فى مسائل الصفات في إثبات العلم والخبرة والإرادة وغير ذلك‏.‏ وأنكر ذلك عليهم طائفة منهم الشيخ أبو محمد فى رسالته إلى أهل رأس العين، وقال‏:‏ لا يسمى الله غائباً،واستدل بما ذكر ‏.‏
    وفصل الخطاب بين الطائفتين‏:‏أن اسم ‏(‏الغيب والغائب‏)‏ من الأمور الإضافية يراد به ما غاب عنا فلم ندركه،ويراد به ما غاب عنا فلم يدركنا؛وذلك لأن الواحد منا إذا غاب عن الآخر مغيبا مطلقاً لم يدرك هذا هذا ولا هذا هذا، والله ـ سبحانه ـ شهيد على العباد، رقيب عليهم، مهيمن عليهم، لا يعزب عنه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء، فليس هو غائباً، وإنما لما لم يره العباد كان غيبا؛ولهذا يدخل فى الغيب الذى يؤمن به وليس هو بغائب؛ فـإن ‏(‏الغائب‏)‏ اسم فاعـل مـن قـولك‏:‏غـاب يغيب فهـو غائب والله شاهـد غير غائب، وأما ‏(‏الغيب‏)‏ فهو مصدر غاب يغيب غيباً، وكثيراً ما يوضع المصدر موضع الفاعل كالعدل والصوم والزور، وموضع المفعول كالخلق والرزق ودرهم ضرب الأمير‏.‏
    ولهذا يقرن الغيب بالشهادة، وهى أيضاً مصدر، فالشهادة هى المشهود أو الشاهد، والغيب هو إما المغيب عنه فهو الذى لا يشهد نقيض الشهادة، وإما بمعنى الغائب الذي غاب عنا فلم نشهده فتسميته باسم المصدر فيه تنبيه على النسبة إلى الغير، أى‏:‏ليس هو بنفسه غائبا، وإنما غاب عن الغير أو غاب الغير عنه‏.‏
    وقد يقال‏:‏اسم ‏(‏الشهادة،والغيب‏)‏ يجمع النسبتين، فالشهادة ما شهدنا وشهدناه، والغيب ما غاب عنا وغبنا عنه فلم نشهده، وعلى كل تقدير فالمعنى فى كونه غيبا هو انتفاء شهود ناله، وهذه تسمية قرآنية صحيحة، فلو قالوا‏:‏ قياس الغيب على الشهادة لكانت العبارة موافقة، وأما قياس الغائب ففيه مخالفة فى ظاهر اللفظ ولكن موافقة فى المعنى؛ فلهذا حصل فى إطلاقه التنازع‏.‏
    وقال شيخ الإِسَلام ـ قدَّسَ اللَّه روحهُ ‏:‏
    فصــل
    المثل فى الأصل‏:‏ هو الشبيه وهو نوعان؛ لأن القضية المعينة إما أن تكون شبهاً معيناً أو عاما كليا؛ فإن القضايا الكلية التى تعلم وتقال هى مطابقة مماثلة لكل ما يندرج فيها، وهذا يسمى قياساً في لغة السلف واصطلاح المنطقيين‏.‏
    وتمثيل الشىء المعين بشىء معين هو ـ أيضاً ـ يسمى قياساً فى لغة السلف واصطلاح الفقهاء، وهو الذى يسمى قياس التمثيل‏.‏
    ثم من متأخرى العلماء ـ كالغزالى وغيره ـ من ادعى أن حقيقة القياس إنما يقال على هذا، وما يسميه تأليف القضايا الكلية قياساً فمجاز من جهة أنه لم يشبه فيه شىء بشىء، وإنما يلزم من عموم الحكم تساوى أفراده فيه، ومنهم من عكس كأبى محمد ابن حزم، فإنه زعم أن لفظ القياس إنما ينبغى أن يكون فى تلك الأمور العامة وهو القياس الصحيح‏.‏
    والصواب ما عليه السلف من اللغة الموافقة لما فى القرآن ـ كما سأذكره ـ أن كليهما قياس وتمثيل واعتبار، وهو فى قياس التمثيل ظاهر، وأما قياس التكليل والشمول فلأنه يقاس كل واحد من الأفراد بذلك المقياس العام الثابت فى العلم والقول، وهو الأصل، كما يقاس الواحد بالأصل الذى يشبهه، فالأصل فيهما هو المثل،والقياس هو ضرب المثل، وأصله ـ والله أعلم ـ تقديره، فضرب المثل للشىء تقديره له،كما أن القياس أصله تقدير الشىء بالشىء،ومنه ضرب الدرهم وهو تقديره، وضرب الجزية والخراج وهو تقديرهما، والضريبة المقدرة والضرب فى الأرض، لأنه يقدر أثر الماشى بقدره، وكذلك الضرب بالعِصِىّ لأنه تقدير الألم بالآلة، وهو جمعه وتأليفه وتقديره، كما أن الضريبة هى المال المجموع والضريبة الخلق، وضرب الدرهم جمع فضة مؤلفة مقدرة، وضرب الجزية والخراج إذا فرضه وقدره على مر السنين، والضرب فى الأرض الحركات المقدرة المجموعة إلى غاية محدودة،ومنه تضريب الثوب المحشو وهو تأليف خلله طرائق طرائق‏.‏
    ولهذا يسمون الصورة القياسية الضرب،كما يقال للنوع الواحد‏:‏ ضرب؛ لتألفه واتفاقه،وضرب المثل لما كان جمعاً بين علمين يطلب منهما علم ثالث، كان بمنزلة ضراب الفحل الذى يتولد عنه الولد؛ ولهذا يقسمون الضرب إلى ناتج وعقيم، كما ينقسم ضرب الفحل للأنثى إلى ناتج وعقيم، وكل واحد من نوعى ضرب المثل ـ وهو القياس ـ تارة يراد به التصوير وتفهيم المعنى، وتارة يراد به الدلالة على ثبوته والتصديق به، فقياس تصور وقياس تصديق، فتدبر هذا‏.‏
    وكثيراً ما يقصد كلاهما، فإن ضرب المثل يوضح صورة المقصود وحكمه‏.‏ وضرب الأمثال فى المعانى نوعان، هما نوعا القياس‏:‏
    أحدهما‏:‏ الأمثال المعينة التى يقاس فيها الفرع بأصل معين موجود أو مقدر، وهى فى القرآن بضع وأربعون مثلا،كقوله‏:‏ ‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارا‏}‏إلى آخره ‏[‏البقرة‏:‏71‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏261‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏265‏]‏ ‏.‏
    فإن التمثيل بين الموصوفين الذين يذكرهم من المنافقين، والمنفقين والمخلصين منهم والمرائين، وبين ما يذكره ـ سبحانه ـ من تلك الأمثالهو من جنس قياس التمثيل، الذى يقال فيه‏:‏ مثل الذى يقتل بكودتى القَصَّار ‏[‏كودتا القَصّار‏:‏ هما خشبتا القصار‏.‏ والقصار‏:‏ هو المحور والمهذب للثياب؛ لأنه يدقها بالقصرة‏.‏ انظر‏:‏ لسان العرب، مادة‏:‏ قصر‏]‏ كمثل الذى يقتل بالسيف، ومثل الهرة تقع فى الزيت كمثل الفأرة تقع فى السمن ونحو ذلك، ومبناه على الجمع بينهما، والفرق فى الصفات المعتبرة فى الحكم المقصود إثباته أو نفيه، وقوله‏:‏ مثله كمثل كذا، تشبيه للمثل العلمى بالمثل العلمى؛ لأنه هو الذى بتوسطه يحصل القياس، فإن المعتبر ينظر فى أحدهما فيتمثل فى علمه، وينظر فى الآخر فيتمثل فى علمه ثم يعتبر أحد المثلين بالآخر فيجدهما سواء، فيعلم أنهما سواء فى أنفسهما لاستوائهما فى العلم، ولا يمكن اعتبار أحدهما بالآخر فى نفسه حتى يتمثل كل منهما فى العلم، فإن الحكم على الشىء فرع على تصوره؛ ولهذا ـ والله أعلم ـ يقال‏:‏ مثل هذا كمثل ‏.‏‏.‏‏.‏ ‏[‏بياض بالأصل‏]‏‏.‏
    وبعض المواضع يذكرـ سبحانه ـ الأصل المعتبر به ليستفاد حكم الفرع منه من غير تصريح بذكر الفرع، كقوله‏:‏‏{‏أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ‏}‏ إلى قوله‏:‏‏{‏كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏266‏]‏، فإن هذا يحتاج إلى تفكر؛ ولهذا سأل عمر عنها من حضره من الصحابة فأجابه ابن عباس بالجواب الذى أرضاه‏.‏
    ونظير ذلك ذكر القصص، فإنها كلها أمثال هى أصول قياس واعتبار، ولا يمكن هناك تعديد ما يعتبر بها، لأن كل إنسان له فى حالة منها نصيب، فيقال فيها‏:‏ ‏{‏لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏111‏]‏، ويقال عقب حكايتها‏:‏‏{‏فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 2‏]‏، ويقال‏:‏ ‏{‏قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏13‏]‏، والاعتبار هو القياس بعينه، كما قال ابن عباس لما سئل عن دية الأصابع فقال‏:‏ هى سواء، واعتبروا ذلك بالأسنان،أى‏:‏قيسوها بها، فإن الأسنان مستوية الدية مع اختلاف المنافع، فكذلك الأصابع، ويقال‏:‏ اعتبرت الدراهم بالصَّنْجَة إذا قدرتها بها‏.‏
    النوع الثانى‏:‏ الأمثال الكلية، وهذه التى أشكل تسميتها أمثالا، كما أشكل تسميتها قياساً، حتى اعترض بعضهم قوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏73‏]‏، فقال‏:‏ أين المثل المضروب‏؟‏ وكذلك إذا سمعوا قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏58‏]‏،يبقون حيارى لا يدرون ما هذه الأمثال، وقد رأوا عدد ما فيه من تلك الأمثال المعينة بضعاً وأربعين مثلا‏.‏
    وهذه الأمثال تارة تكون صفات، وتارة تكون أقيسة، فإذا كانت أقيسة فلابد فيها من خبرين هما قضيتان وحكمان، وأنه لابد أن يكون أحدهما كلياً؛ لأن الأخبار التى هى القضايا لما انقسمت إلى معينة ومطلقة وكلية وجزئية، وكل من ذلك انقسم إلى خبر عن إثبات وخبر عن نفى، فضرب المثل الذى هو القياس لابد أن يشتمل على خبر عام وقضية كلية، وذلك هو المثل الثابت فى العقل الذى تقاس به الأعيان المقصود حكمها، فلولا عمومه لما أمكن الاعتبار لجواز أن يكون المقصود حكمه خارجاً عن العموم؛ ولهذا يقال‏:‏ لا قياس عن قضيتين جزئيتين، بل لابد أن تكون إحداهما كلية، ولا قياس أيضا عن سالبتين، بل لابد أن تكون إحداهما موجبة، وإلا السلبان لا يدخل أحدهما فى الآخر، لابد فيه من خبر يعم‏.‏
    وجملة ما يضرب من الأمثال ستة عشر؛ لأن الأولى إما جزئية وإما كلية، مثبتة أو نافية، فهذه أربعة إذا ضربتها فى أربعة صارت ستة عشر، تحذف منهمـا الجزئيتين سواء كانتا موجبتين أو سالبتين، أو إحداهما سالبة والأخرى موجبة، فهذه ست من ستة عشر، والسالبتين سواء كانتا جزئيتين أو كليتين، أو إحداهما دون الأخرى، لكن إذا كانتا جزئيتين سالبتين فقد دخلت فى الأول، يبقى ضربان محذوفين مـن ستة عشر‏.‏ ويحذف منهما السالبة الكلية الصغرى مع الكبرى الموجبة الجزئية؛ لأن الكبرى إذا كانت جزئية لم يجب أن يلاقيها السلب، بخلاف الإيجاب، فإن الإيجابين الجزئيين يلتقيان، وكذلك الإيجاب، الجزئى مع السلب الكلى يلتقيان لاندراج ذلك الموجب تحت السلب العام‏.‏
    يبقى من الستة عشر ستة أضرب، فإذا كانت إحداهما موجبة كلية جاز فى الأخرى الأقسام الأربعة، وإذا كانت سالبة كلية جاز أن تقارنها الموجبتان، لكن تقدم مقارنة الكلية لها، ولابد فى الجزئية أن تكون صغرى، وإذا كانت موجبة جزئية جاز أن تقارنها الكليتان، وقد تقدمتا، وإذا كانت سالبة جزئية لم يجز أن يقارنها إلا موجبة كلية، وقد تقدمت، فيقر الناتج ستة، والملغى عشرة، وبالاعتبارين تصير ثمانية‏.‏
    فهذه الضروب العشرة مدار ثمانية منها على الإيجاب العام، ولابد فى جميع ضروبه من أحد أمرين، إما إيجاب وعموم، وإما سلب وخصوص، فنقيضان لا يفيد اجتماعهما فائدة، بل إذا اجتمع النقيضان من نوعين كسالبة كلية وموجبة جزئية فتفيد بشرط كون الكبري هي العامة، فظهر أنه لابد في كل قياس من ثبوت وعموم، إما مجتمعين في مقدمة وإما مفترقين في المقدمتين‏.‏
    وأيضاً، مما يجب أن يعلم أن غالب الأمثال المضروبة والأقيسة، إنما يكون الخفى فيها إحدى القضيتين، وأما الأخرى فجلية معلومة، فضارب المثل وناصب القياس إنما يحتاج أن يبين تلك القضية الخفية، فيعلم بذلك المقصود لما قاربها فى الفعل من القضية السلبية والجلية هى الكبرى التى هى أعم‏.‏
    فإن الشىء كلما كان أعم كان أعرف فى العقل لكثرة مرور مفرداته فى العقل، وخير الكلام ما قل ودل؛ فلهذا كانت الأمثال المضروبة فى القرآن تحذف منها القضية الجلية لأن فى ذكرها تطويلاً وعِيّا، وكذلك ذكر النتيجة المقصودة بعد ذكر المقدمتين يعد تطويلا‏.‏
    واعتبر ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏22‏]‏، ما أحسن هذا البرهان‏!‏ فلو قيل بعده‏:‏ وما فسدتا فليس فيهما آلهة إلا الله لكان هذا من الكلام الغث الذى لا يناسب بلاغة التنزيل،وإنما ذلك من تأليف المعانى فى العقل مثل تأليف الأسماء من الحروف فى الهجاء والخط إذا علمنا الصبى الخط نقول‏:‏ ‏(‏بـا‏)‏ ‏(‏سين‏)‏ ‏(‏ميم‏)‏ صارت ‏(‏بسم‏)‏، فإذا عقل لم يصلح له بعد ذلك أن يقرأه تهجياً فيذهب ببهجة الكلام؛ بل قد صار التأليف مستقراً، وكذلك النحوى إذا عرف أن ‏(‏محمد رسول الله‏)‏ مبتدأ وخبر لم يلف كلما رفع مثل ذلك أن يقول لأنه مبتدأ وخبر‏.‏ فتأليف الأسماء من الحروف لفظاً ومعنى، وتأليف الكلم من الأسماء، وتأليف الأمثال من الكلم جنس واحد‏.‏
    ولهذا كان المؤلفون للأقيسة يتكلمون أولاً فى مفردات الألفاظ والمعانى التى هى الأسماء، ثم يتكلمون فى تأليف الكلمات من الأسماء الذى هو الخبر والقضية والحكم، ثم يتكلـمون فى تأليـف الأمثـال المضـروبة الذى هو ‏(‏القـياس‏)‏ و ‏(‏البرهان‏)‏ و ‏(‏الدلـيل‏)‏ و‏(‏الآيـة‏)‏ و‏(‏العلامة‏)‏‏.‏ فهذا مما ينبغى أن يتفطن له، فإن من أعظم كمال القرآن تركه فى أمثاله المضروبة وأقيسته المنصوبة لذكر المقدمة الجلية الواضحة المعلومة،ثم اتباع ذلك بالأخبار عن النتيجة التى قد علم من أول الكلام أنها هى المقصود؛ بل إنما يكون ضرب المثل بذكر ما يستفاد ذكره وينتفع بمعرفته، فذلك هو البيان، وهو البرهان، وأما ما لا حاجة إلى ذكره فذكره عىٌّ‏.‏
    وبهذا يظهر لك خطأ قوم من البيانيين الجهال والمنطقيين الضُّلال حيث قال بعض أولئك‏:‏الطريقة الكلامية البرهانية فى أساليب البيان ليست فى القرآن إلا قليلا، وقال الثانى‏:‏ إنه ليس فى القرآن برهان تام، فهؤلاء من أجهل الخلق باللفظ والمعنى، فإنه ليس فى القرآن إلا الطريقة البرهانية المستقيمة لمن عَقَل وتدبر‏.‏
    وأيضاً، فينبغى أن يعرف أن مضار ضرب المثل ونصب القياس على العموم والخصوص والسلب والإيجاب؛ فإنه ما من خبر إلا وهو إما عام أو خاص؛ سالب أو موجب، فالمعين خاص محصور، والجزئى أيضاً خاص غير محصور، والمطلق إما عام وإما فى معنى الخاص‏.‏
    فينبغى لمن أراد معرفة هذا الباب أن يعرف صيغ النفى والعموم؛ فإن ذلك يجىء فى القرآن على أبلغ نظام‏.‏
    مثال ذلك‏:‏ أن ‏(‏صيغة الاستفهام‏)‏ يحسب من أخذ ببادئ الرأى أنها لا تدخل فى القياس المضروب؛ لأنه لا يدخل فيه إلا القضايا الخبرية، وهذه طلبية، فإذا تأمل وعلم أن أكثر استفهامات القرآن ـ أو كثيراً منها ـ إنما هى استفهام إنكار معناه الذم والنهى إن كان إنكاراً شرعياً، أو معناه النفى والسلب إن كان إنكار وجود ووقوع، كما فى قوله‏:‏ ‏{‏وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏78‏]‏، ‏{‏ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ‏}‏الآية ‏[‏الروم‏:‏28‏]‏، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏59‏]‏، وقوله فى تعديد الآيات‏:‏ ‏{‏أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏60ـ64‏]‏، أى‏:‏ أفعل هذه إله مع الله‏؟‏‏!‏ والمعنى‏:‏ما فعلها إلا الله، وقوله‏:‏ ‏{‏أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 35‏]‏ وما معها‏.‏
    وهذا الذى ذكرناه الذى جاء به القرآن هو ضرب الأمثال من جهة المعنى، وقد يعبر فى اللغة بضرب المثل أو بالمثل المضروب عن نوع من الألفاظ،فيستفاد منه التعبير كما يستفاد من اللغة، لكن لايستفاد منه الدليل على الحكم كأمثال القرآن، وهو أن يكون الرجل قد قال كلمة منظومة أو منثورة لسبب اقتضاه فشاعت فى الاستعمال، حتى يصار يعبر بها عن كل ما أشبه ذلك المعنى الأول، وإن كان اللفظ فى الأصل غير موضوع لها، فكأن تلك الجملة المثلية نقلت بالعرف من المعنى الخاص إلى العام كما تنقل الألفاظ المفردة، فهذا نقل فى الجملة مثل قولهم‏:‏‏(‏يداك أوْكتََا، وفُوكَ نَفَخ‏)‏ هو مواز لقولهم‏:‏‏(‏أنت جنيت هذا‏)‏؛ لأن هذا المثل قيل ابتداء لمن كانت جنايته بالإيكاء والنفخ، ثم صار مثلا عاماً، وكذلك قولهم‏:‏ ‏(‏الصَّيْف ضَيَّعْتِ اللبن‏)‏ ‏[‏هذا المثل فى الأصل خوطبت به امرأة، وهى دختنوس بنت لقيط بن زرارة، كانت تحب عمرو بن عمرو بن عدس، وكان شيخا كبيرا، ففركته فطلقها، ثم تزوجها فتى جميل الوجه، وأجدبت، فبعثت إلى عمرو تطلب منه حلوبة، فقال عمرو‏:‏‏(‏فى الصيف ضيعتِ اللبن‏)‏‏.‏ وإنما خص الصيف لأن سؤالها الطلاق كان في الصيف، وهذا المثل يضرب لمن يطلب شيئا قد فوته على نفسه‏]‏ مثل قولك‏:‏ ‏(‏فرطت وتركت الحزم، وتركت ما يحتاج إليه وقت القدرة عليه حتى فات‏)‏، وأصل الكلمة قيلت للمعنى الخاص‏.‏
    وكذلك ‏(‏عَسَى الغُوَيْرُ أبْؤُسَا‏)‏ أى‏:‏أتخاف أن يكون لهذا الظاهر الحسن باطن ردىء‏؟‏ فهذا نوع من البيان يدخل فى اللغة والخطاب، فالمتكلم به حكمه حكم المبين بالعبارة الدالة، سواء كان المعنى فى نفسه حقاً أو باطلا؛ إذ قد يتمثل به فى حق من ليس كذلك، فهذا تطلبه فى القرآن من جنس تطلب الألفاظ العرفية، فهو نظر فى دلالة اللفظ على المعنى لا نظر فى صحة المعنى ودلالته على الحكم، وليس هو المراد بقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏58‏]‏، فتدبر هذا فإنه يجلو عنك شبهة لفظية ومعنوية‏.‏
    وهذه الأمثال اللغوية أنواع، موجود فى القرآن منها أجناسها، وهى مُعْلِنة ببلاغة لفظه ونظمه وبراعة بيانه اللفظى، والذين يتكلمون فى علم البيان وإعجاز القرآن يتكلمون فى مثل هذا، ومن الناس من يكون أول ما يتكلم بالكلمة صارت مثلا، ومنهم من لا تصير الكلمة مثلا حتى يتمثل بها الضارب فيكون هذا أول من تمثل بها، كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الآن حَمِىَ الوَطِيسُ‏)‏ ‏[‏الوطيس‏:‏ شبه التَّنُّور، عبر عن اشتباك الحرب وقيامها على ساق‏]‏، وكقوله‏:‏ ‏(‏مِسْعَرُ حَرْب‏)‏ ونحو ذلك، لكن النفى بصيغة الاستفهام المضمن معنى الإنكار هو نفى مضمن دليل النفى، فلا يمكن مقابلته بمنع، وذلك أنه لا ينفى باستفهام الإنكار إلا ما ظهر بيانه أو ادعى ظهور بيانه، فيكون ضاربه إما كاملا فى استدلاله وقياسه وإما جاهلاً، كالذى قال‏:‏ ‏{‏ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏78‏]‏‏.‏
    إذا تبين ذلك، فالأمثال المضروبة فى القرآن منها ما يصرح فيه بتسميته مثلا، ومنها ما لا يسمى بذلك‏.‏‏.‏‏.‏‏[‏بياض بالأصل‏]‏ ‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏17‏]‏،والذى يليه‏:‏‏{‏إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏26‏]‏،‏{‏وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏171‏]‏،‏{‏وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏214‏]‏،‏{‏مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏261‏]‏،‏{‏لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏264‏]‏، ‏{‏وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏265‏]‏،والذى بعده ليس فيه لفظ‏(‏مثل‏)‏‏:‏‏{‏كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏11‏]‏، فى الثلاثة‏:‏‏{‏قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏13‏]‏، ‏{‏مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِـذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 117‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏64‏]‏‏.‏
    ومن هذا الباب قوله‏:‏‏{‏لاَّ أَقُولُ لَكُمْ‏}‏ الآية ‏[‏هود‏:‏31‏]‏، ويسمى جدالا ‏{‏فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏176‏]‏،‏{‏إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء‏}‏ الآية ‏[‏يونس‏:‏24‏]‏،‏{‏مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏24‏]‏،‏{‏إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏14‏]‏، وقول يوسف‏:‏ ‏{‏أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏39‏]‏، ‏{‏قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ‏}‏ الآية‏[‏الرعد‏:‏ 61‏]‏، ‏{‏أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏17‏]‏، ‏{‏مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏35‏]‏، ‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ
    أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏18‏]‏، ‏{‏أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً‏}‏ إلى آخر ‏{‏وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏24ـ 45‏]‏،‏{‏لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏60‏]‏، ‏{‏فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏74‏]‏، ‏{‏ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏75‏]‏،والذى بعده‏:‏‏{‏وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏112‏]‏،‏{‏انظُرْ
    كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏48‏]‏ في موضعين،‏{‏وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏89‏]‏، بعد أدله التوحيد والنبوة والتحدي بالقرآن ‏{‏وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏32‏]‏ القصة، ‏{‏وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏45‏]‏، ‏{‏وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏54‏]‏، ينبه على أنها براهين وحجج تفيد تصوراً أو تصديقاً ‏{‏وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏31‏]‏، ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏73‏]‏، ‏{‏وَمَثَلًا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ‏}‏‏[‏النور‏:‏34‏]‏،‏{‏مّثّلٍ نٍورٌهٌ ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏35‏]‏،‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏39‏]‏ المثلين، مثل نور المؤمنين فى المساجد وأولئك فى الظلمات ‏{‏وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏33‏]‏، فالتفسير يعم التصوير، ويعم التحقيق بالدليل، كما فى تفسير الكلام المشروح ‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء‏}‏ الآية‏[‏العنكبوت‏:‏41‏]‏، ‏{‏وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏43‏]‏، ‏{‏وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏27‏]‏، ‏{‏ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ‏}‏‏[‏الروم‏:‏28‏]‏،‏{‏وَلَقَدْ ضَرَبْنَا
    لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُم بِآيَةٍ‏}‏ الآية‏[‏الروم‏:‏58‏]‏، ‏{‏وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏13‏]‏،‏{‏فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏77،78‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً‏}‏ ‏[‏ص‏:‏23‏]‏، ‏{‏وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏27ـ29‏]‏، ‏{‏وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏57‏]‏، إلى آخره لما أوردوه نقضا على قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏98‏]‏، فهم الذين ضربوه جدلا، ‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا‏}‏ إلى قوله‏:‏‏{‏كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏1-3‏]‏،‏{‏كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏15‏]‏، ‏{‏كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏16‏]‏، ‏{‏لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏21‏]‏، ‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا‏}‏الآية ‏[‏الجمعة‏:‏5‏]‏،‏{‏ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏10‏]‏، و‏{‏لِّلَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏11‏]‏، ‏{‏وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏31‏]‏،‏{‏كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ‏}‏‏[‏المعارج‏:‏43‏]‏،‏{‏كَالْفَرَاشِ‏}‏ ‏[‏القارعة‏:‏4‏]‏، و‏{‏كَالْعِهْنِ‏}‏ ‏[‏القارعة‏:‏5‏]‏‏.‏
    وقال شيخ الإِسَلام ـ رَحِمهُ الله تعالى ‏:‏
    هذه تفسير آيات أشكلت حتى لا يوجد فى طائفة من ‏(‏كتب التفسير‏)‏ إلا ما هو خطأ فيها‏.‏
    منها قوله‏:‏‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيتان ‏[‏البقرة‏:‏62،63‏]‏، فهو ـ سبحانه ـ وصف أهل السعادة من الأولين والآخرين، وهو الذى يدل عليه اللفظ ويعرف به معناه من غير تناقض، ومناسبة لما قبلها ولما بعدها، وهو المعروف عند السلف، ويدل عليه ما ذكروه من سبب نزولها بالأسانيد الثابتة عن سفيان، عن ابن أبى نَجِيح، عن مجاهد، قال سلمان‏:‏ سألت النبى صلى الله عليه وسلم عن أهل دِينٍ كنتُ معهم‏.‏ فذكر من عبادتهم، فنزلت الآية‏.‏ ولم يذكر فيه أنهم من أهل النار، كما روى بأسانيد ضعيفة، وهذا هو الصحيح كما فى مسلم‏:‏ ‏(‏إلا بقايا من أهل الكتاب‏)‏‏.‏
    والنبى صلى الله عليه وسلم لم يكن يجيب بما لا علم عنده، وقد ثبت أنه أثنى على من مات فى الفَتْرَة ‏[‏الفًتْرَة‏:‏ ما بين كل نَبِيًّن‏]‏، كزيد بن عمرو وغيره، ولم يذكر ابن أبى حاتم خلافا عن السلف، لكن ذكر عن ابن عباس ثم أنزل اللّه‏:‏‏{‏وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏:‏85‏]‏، ومراده‏:‏ أن اللّه يبين أنه لا يقبل إلا الإسلام من الأولين والآخرين، وكثير من السلف يريد بلفظ النسخ رفع ما يظن أن الآية دالة عليه؛ فإن من المعلوم أن من كذب رسولا واحداً فهو كافر، فلا يتناوله قوله‏:‏ ‏{‏مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ‏}‏ إلخ ‏[‏البقرة‏:‏ 62‏]‏‏.‏
    وظن بعض الناس أن الآية فيمن بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، فغلطوا، ثم افترقوا على أقوال متناقضة‏.‏
    وقال شيخ الإسلام ـ قدَّسَ اللَّه روحهُ‏:‏
    فصــل
    قسم اللّه من ذمه من أهل الكتاب إلى مُحَرِّفين وأمِّييّن، حيث يقول‏:‏ ‏{‏أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 75-79‏]‏‏.‏
    وفى هذا عبرة لمن ركب سُنَّتَهم من أمتنا؛ فإن المنحرفين فى نصوص الكتاب والسنة ـ كالصفات ونحوها من الأخبار والأوامرـ قوم يحرفونه إما لفظاً وإما معنى، وهم النافون لما أثبته الرسول صلى الله عليه وسلم جحوداً وتعطيلا، ويدعون أن هذا موجب العقل الصريح القاضى على السمع‏.‏
    وقوم لا يزيدون على تلاوة النصوص لا يفقهون معناها، ويدعون أن هذا موجب السمع الذى كان عليه السلف، وأن اللّه لم يرد من عباده فهم هذه النصوص، فهم ‏{‏لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 78‏]‏، أى تلاوة ‏{‏وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 78‏]‏‏.‏
    ثم يصنف أقوام علوما يقولون‏:‏ إنها دينية، وإن النصوص دلت عليها والعقل، وهى دين الله مع مخالفتها لكتاب الله، فهؤلاء الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون‏:‏هو من عند اللّه بوجه من الوجوه‏.‏
    فتدبر كيف اشتملت هذه الآيات على الأصناف الثلاثة، وقوله فى صفة أولئك‏:‏ ‏{‏أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 76‏]‏، حال من يكتم النصوص التى يحتج بها منازعه، حتى إن منهم من يمنع من رواية الأحاديث المأثورة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو أمكنهم كتمان القرآن لكتموه، لكنهم يكتمون منه وجوه دلالته من العلوم المستنبطة منه، ويعوضون الناس عن ذلك بما يكتبونه بأيديهم ويضيفونه إلى أنه من عند اللّه‏.‏
    وَسُئِلَ عن معنى قوله‏:‏ ‏{‏مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏106‏]‏ واللّه ـ سبحانه ـ لا يدخل عليه النسيان‏.‏
    فأجــاب‏:‏
    أما قوله‏:‏ ‏{‏مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 106‏]‏، ففيها قراءتان، أشهرهما‏:‏‏{‏أَوْ نُنسِهَا‏}‏ أى‏:‏ ننسيكم إياها، أى‏:‏ نسخنا ما أنزلناه، أو اخترنا تنزيل ما نريد أن ننزله نأتكم بخير منه أو مثله، والثانية‏:‏ ‏(‏أو ننسأها‏)‏ بالهمز، أى نؤخرها، ولم يقرأ أحد‏:‏ ‏(‏ننساها‏)‏، فمن ظن أن معنى ننسأها بمعنى‏:‏ ننساها، فهو جاهل بالعربية والتفسير، قال ـ موسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏52‏]‏،و النسيان مضاف إلى العبد كما فى قوله‏:‏ ‏{‏سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏6، 7‏]‏؛ ولهذا قرأها بعض الصحابة‏:‏ ‏(‏أو تنساها‏)‏ أى‏:‏تنساها يا محمد،وهذا واضح لا يخفى إلا على جاهل،لا يفرق بين ننسأها بالهمز وبين ننساها بلا همز، واللّه أعلم‏.‏
    قَال أبو العبَّاس أحْمَد بن تيمية ـ رَحِمهُ اللَّه تعالى ‏:‏
    فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 178‏]‏،وفيها قولان‏:‏
    أحدهما‏:‏ أن القصاص هو القَوَد، وهو أخذ الدية بدل القتل،كما جاء عن ابن عباس أنه كان فى بنى إسرائيل القصاص ولم يكن فيهم الدية، فجعل اللّه فى هذه الأمة الدية فقال‏:‏ ‏{‏فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏178‏]‏، والعفو هو أن يقبل الدية فى العَمْد ‏{‏ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏178‏]‏ مما كان على بنى إسرائيل، والمراد على هذا القول أن يقتل الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنِثى بالأنثى‏.‏ قال قتادة‏:‏ إن أهل الجاهلية كان فيهم بَغِىٌّ،وكان الحى إذا كان فيهم عدد وعُدَّة فقتل عبدَهم عبدُ قوم آخرين، لن يقتل به إلا حراً تعززاً على غيرهم، وإن قتلت امرأةٌ منهم امرأةً من آخرين قالوا‏:‏لن يقتل بها إلا رجلا،فنزلت هذه الآية‏.‏وهذا قول أكثر الفقهاء،وقد ذكر ذلك الشافعى وغيره‏.‏
    ويحتج بها طائفة من أصحاب مالك والشافعى وأحمد على أن الحر لا يقتل بالعبد؛ لقوله‏:‏ ‏{‏وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏178‏]‏ فينقض ذلك عليه بالمرأة؛ فإنه قال‏:‏‏{‏وَالأُنثَى بِالأُنثَى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏178‏]‏، وطائفة من المفسرين لم يذكروا هذا القول‏.‏
    القول الثانى‏:‏ أن القصاص فى القتلى يكون بين الطائفتين المقتتلتين قتال عَصَبِيَّة وجاهلية، فيقتل من هؤلاء ومن هؤلاء أحرار وعبيد ونساء، فأمر الله ـ تعالى ـ بالعدل بين الطائفتين، بأن يقاص دية حر بدية حر، ودية امرأة بدية امرأة، وعبد بعبد، فإن فضل لإحدى الطائفتين شىء بعد المقاصة فلتتبع الأخرى بمعروف، ولتؤد الأخرى إليها بإحسان، وهذا قول الشَّعْبِى وغيره، وقد ذكره محمد بن جرير الطبرى وغيره، وعلى هذا القول فإنه إذا جعل ظاهر الآية لزمته إشكالات،لكن المعنى الثانى هو مدلول الآية ومقتضاه ولا إشكال عليه، بخلاف القول الأول يستفاد من دلالة الآية، كما سننبه عليه إن شاء ‏[‏في المطبوعة‏:‏ ـ إنشاد ـوهو خطأ‏]‏ الله تعالى، وما ذكرناه يظهر من وجوه‏:‏
    أحدها‏:‏ أنه قال‏:‏‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏178‏]‏ و‏(‏القصاص‏)‏ مصدر قاصه يقاصه مقاصة وقصاصاً، ومنه مقاصة الدينين أحدهما بالآخر و‏{‏بًقٌصّاصٍ فٌي بًقّتًلّى‏}‏إنما يكون إذا كان الجميع قتلى، كما ذكر الشعبى فيقاص هؤلاء القتلى بهؤلاء القتلى، أما إذا قتل رجل رجلا فالمقتول ميت، فهنا المقتول لا مقاصة فيه، ولكن القصاص أن يمكن من قتل القاتل لا غيره، وفى اعتبار المكافآت فيه قولان للفقهاء‏:‏ قيل‏:‏ تعتبر المكافآت فلا يقتل مسلم بذمى ولا حر بعبد، وهو قول الأكثرين مالك والشافعى وأحمد‏.‏ وقيل‏:‏ لا تعتبر المكآفات كقول أبى حنيفة، والمكافآت لا تسمى قصاصاً‏.‏
    وأيضاً فإنه قال‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ‏}‏ وإن أريد بالقصاص المكافآت فتلك لم تكتب، وإن أريد به استيفاء القَوَد فذلك مباح للولى، إن شاء اقتص وإن شاء لم يقتص فلم يكتب عليه الاقتصاص، وقد أورد هذا السؤال بعضهم وقال‏:‏ هو مكتوب على القاتل أن يمكن من نفسه، فيقال له‏:‏ هو تعالى قال‏:‏‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى‏}‏ وليس هذا خطاباً للقاتل وحده بل هو خطاب لأولياء المقتول، بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ‏}‏ ثم لا يقال للقاتل‏:‏ كتب عليك القصاص فى المقتول فإن المقتول لا قصاص فيه‏.‏
    وأيضا، فنفس انقياد القاتل للولى ليس هو قصاصا، بل الولي له أن يقتص وله ألا يقتص، وإنما سمى هذا قوداً لأن الولى يقوده، وهو بمنزلة تسليم السلعة إلى المشترى، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏الْحُرُّ بِالْحُرِّ‏}‏ فكيف يقال‏:‏ مثل هذا قصده القاتل، بل هذا الخطاب للأمة بالمقاصة والمعادلة فى القتل‏.‏ والنبى صلى الله عليه وسلم إنما قال‏:‏ ‏(‏كتاب اللّه القصاص‏)‏ لما كَسَرَتِ الرُّبَيِّع سِنّ جارية وامتنعوا من أخذ الأرْش، فقال أنس بن النضر‏:‏ لا والذى بعثك بالحق لا تكسر ثنية الربيع، فقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يا أنس، كتاب اللّه القصاص‏)‏ فرضى القوم بالأرش، فقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن من عباد اللّه من لو أقسم على اللّه لأبَرَّه‏)‏، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏$ّالًجٍرٍوحّ قٌصّاصِ ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏، يعنى ‏(‏كتاب اللّّه‏)‏ أن يؤخذ العضو بنظيره، فهذا قصاص لأنه مساواة؛ ولهذا كانت المكافآت فى الأعضاء والجروح معتبرة باتفاق العلماء، وإن قيل‏:‏ القصاص هو أن يقتل قاتله لا غيره فهو خلاف الاعتداء، قيل‏:‏ نعم‏!‏ وهذا قصاص فى الأحياء لا فى القتلى‏.‏
    الثانى‏:‏ أنه قال‏:‏ ‏{‏فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى‏}‏ ومعلوم باتفاق المسلمين أن العبد يقتل بالعبد وبالحر، والأنثى تقتل بالأنثى وبالذكر، والحر يقتل بالحر وبالأنثى ـ أيضا ـ عند عامة العلماء ‏.‏ وقيل‏:‏ يشترط أن تؤدى تمام ديته، وإذا كان كذلك فقوله‏:‏ ‏{‏الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏178‏]‏ إنما يدل على مقاصة الحر بالحر ومعادلته به ومقابلته به،وكذلك العبد بالعبد والأنثى بالأنثى، وهذا إنما يكون إذا كانوا مقتولين فيقابل كل واحد بالآخر، وينظر‏:‏ أيتعادلان أم يفضل لأحدهما على الآخر فضل، أما فى القتلى فلا يختص هذا بهذا باتفاق المسلمين‏.‏
    الثالث‏:‏ أنه قال‏:‏‏{‏فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ‏}‏ لفظ ‏{‏عُفِيَ‏}‏ هنا قد استعمل متعديا؛ فإنه قال‏:‏ ‏{‏عُفِيَ‏}‏،‏{‏شَيْءٌ‏}‏ ولم يقل‏:‏ ‏(‏عفا‏)‏ ‏(‏شيئا‏)‏ وهذا إنما يستعمل فى الفعل، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏219‏]‏، وأما العفو عن القتل فذاك يقال فيه‏:‏ عفوت عن القاتل، فَوَلِىُّ المقتول بين خيرتين‏:‏ بين أن يعفو عن القتل ويأخذ الدية فلم يعف له شىء،بل هو عفا عن القتل وإذا عفا فإما أن يستحق الدية بنفسه أو بغير رضا القاتل على قولين‏.‏
    وقد قال بعضهم‏:‏ ‏{‏مِنْ أَخِيهِ‏}‏ أى‏:‏من دم أخيه، أى‏:‏ترك له القتل ورضى بالدية، والمراد القاتل، يعنى‏:‏ إن القاتل عفى له من دم أخيه المقتول، أى‏:‏ ترك له القتل، فيكون التقدير‏:‏ أن الولى عفـى للقاتل من دم المقتول شيئاً، وهذا كلام لا يعرف، لا يقال‏:‏ عفوت لك شيئاً، ولا يقال‏:‏ عفوت من دم القاتل، وإنما الذى يقال‏:‏إنه عفا عن القاتل، فأين هذا من هذا‏؟‏
    وأما على القول الأول، فالمتقاصان إذا تعادى القتلى فمن عفى له، أى‏:‏ فضل له من مقاصة أخيه مقاصة أخرى، أى‏:‏هذا الذى فضل له فضل كما يقال‏:‏ أبقى له من جهة أخيه بقية‏{‏فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ‏}‏ فهذا المستحق للفضل يتبع المقاص الآخر بالمعروف، وذلك يؤدى إلى هذا بإحسان ‏{‏ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ‏}‏ أى‏:‏ من أن كل طائفة تؤدى قتلى الأخرى، فإن فى هذا تثقيلا عظيما له ‏{‏وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏179‏]‏، فإنهم إذا تعادوا القتلى وتقاصوا وتعادلوا لم يبق واحدة تطلب الأخرى بشىء فحَيِىَ هؤلاء وَحيِىَ هؤلاء، بخلاف ما إذا لم يتقاصوا فإنهم يتقاتلون، وتقوم بينهم الفتن التى يموت فيها خلائق، كما هو معروف فى فتن الجاهلية والإسلام، وإنما تقع الفتن لعدم المعادلة والتناصف بين الطائفتين، وإلا فمع التعادل والتناصف الذى يرضى به أولو الألباب لا تبقى فتنة‏.‏
    وقوله‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ‏}‏ فطلب من الطائفة الأخرى مالا أو قوما أو أذاهم بسبب ما بينهم من الدم ‏{‏فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9،10‏]‏، و‏(‏الأخوة‏)‏ هنا كالأخوة هناك وهذا فى قتلى الفتن‏.‏
    وأما إذا قتل رجل رجلا من غير فتنة فهم كانوا يعرفون أن القاتل يقتل، لكن كانت الطائفة القوية تطلب أن تقتل غير القاتل، أو من هو أكثر من القاتل، أو اثنين بواحد، وإذا كان القاتل منها لم تقتل به من هو دونه، كما قيل‏:‏ إنه كان بين قريظة والنضير، لكن هذا لم تُثَر به الفتن، بل فيه ظلم الطائفة القوية للضعيفة، ولم يكن فى الأمم من يقول‏:‏ إن القاتل الظالم المتعدى مطلقاً لا يقتل، فهذا لم يكن عليه أحد من بنى آدم، بل كل بنى آدم مطبقون على أن القاتل فى الجملة يقتل، لكن الظلمة الأقوياء يفرقون بين قتيل وقتيل‏.‏
    وقول من قال‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏179‏]‏، معناه‏:‏ أن القاتل إذا عرف أنه يقتل كف فكان فى ذلك حياة له وللمقتول، يقال له‏:‏ هذا معنى صحيح، ولكن هذا مما يعرفه جميع الناس، وهو مغروز فى جِبِلَّتِهم، وليس فى الآدميين من يبيح قتل أحد من غير أن يقتل قاتله، بل كلهم مع التساوى يجوزون قتل القاتل ولا يتصور أن الناس‏.‏‏.‏‏.‏ ‏[‏بياض بالأصل‏]‏ إذا كان كل من قَدَر على غيره قتله وهو لا يقتل يرضى بمال، وإذا كان هذا المعنى من أوائل ما يعرفه الآدميون ويعلمون أنهم لا يعيشون بدونه صار هذا مثل حاجتهم إلى الطعام والشراب والسكنى، فالقرآن أجل من أن يكون مقصوده التعريف بهذه الأمور البديهية، بل هذا مما يدخل فى معناه، وهو أنه إذا كتب عليهم القصاص فى المقتولين أنه يسقط حر بحر وعبد بعبد وأنثى بأنثى، فجعل دية هذا كدية هذا، ودم هذا كدم هذا متضمن لمساواتهم فى الدماء والديات، وكان بهذه المقاصة لهم حياة من الفتن التى توجب هلاكهم، كما هو معروف، وهذا المعنى مما يستفاد من هذه الآية، فعلم أن دم الحر وديته كدم الحر وديته فيقتل به، وإذا علم أن التقاص يقع للتساوى فى الديات علم أن للمقتول دية‏.‏ولفظ القصاص يدل على المعادلة والمساواة، فيدل على أن اللّه أوجب العدل والإنصاف فى أمر القتلى، فمن قتل غير قاتله فهو ظالم، والمقتول وأولياؤه إذا امتنعوا من إنصاف أولياء المقتول فهم ظالمون،هؤلاء خارجون عما أوجبه الله من العدل،وهؤلاء خارجون عما أوجبه الله من العدل ‏.‏
    وقد ذكر ـ سبحانه ـ هذا المعنى فى قوله‏:‏‏{‏وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 33‏]‏، وإذا دلت على العدل فى القَوَد بطريق اللزوم والتنبيه ذهب الإشكال، ولم يقل‏:‏ فلم لا قال‏:‏ والعبد بالعبد والحر‏؟‏ فإنه لم يكن المقصود أنه يقاص به فى القتلى، ومعلوم أنه إنما يقاص الحر بالحر لا بالمرأة، والمرأة بالمرأة لا بالحر، والعبد بالعبد‏.‏ فظهرت فائدة التخصيص به والمقابلة فى الآية‏.‏
    ودلت الآية ـ حينئذ ـ على أن الحر يقتل بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى؛ إذا كانا متساويين فى الدم، وبدله هو الدية، ولم ينتف أن يقتل عبد بحر وأنثى بذكر، ولا لها مفهوم ينفى ذلك، بل كما دلت على ذلك بطريق التنبيه والفحوى والأولى، كذلك تدل على هذا أيضاً؛ فإنه إذا قتل العبد بالعبد فقتله بالحر أولى، وإذا قتلت المرأة بالمرأة فقتلها بالرجل أولى‏.‏
    وأما قتل الحر بالعبد والذكر بالأنثى فالآية لم تتعرض له لا بنفى ولا إثبات، ولا لها مفهوم يدل عليه، لا مفهوم موافقة ولا مخالفة؛ فإنه إذا كان فى المقاصة يقاس الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى لتساوى الديات، دل ذلك على قتل النظير بالنظير، والأدنى بالأعلى‏.‏
    يبقى قتل الأعلى الكثير الدية بالأدنى القليل الدية، ليس فى الآية تعرض له؛ فإنه لم يقصد بها ابتداء القود، وإنما قصد المقاصة فى القتلى لتساوى دياتهم‏.‏
    فإن قيل‏:‏دية الحر كدية الحر، ودية الأنثى كدية الأنثى،ويبقى العبيد قيمتهم متفاضلة‏؟‏
    قيل‏:‏ عبيدهم كانوا متقاربين القيمة، وقوله‏:‏ ‏{‏وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏178‏]‏ قد يراد به بالعبد المماثل به، كما يقال‏:‏ ثوب بثوب وإن كان أحدهما أغلى قيمة،فذاك مما عفى له، وقد يعفى إذا لم تعرف قيمتهم وهو الغالب، فإن المقتولين فى الفتن عبيدهم الذين يقاتلون معهم، وهم يكونون تربيتهم عندهم لم يشتروهم، فهذا يكون مع العلم بتساوى القيمة ومع الجهل بتفاضلها؛ فإن المجهول كالمعدوم، ولو أتلف كل من الرجلين ثوب الآخر ولا يعلم واحد منهما قيمة واحد من الثوبين، قيل‏:‏ ثوب بثوب، وهذا لأن الزيادة محتملة من الطرفين؛ يحتمل أن يكون ثوب هذا أغلى، ويحتمل أن يكون ثوب هذا أغلى، وليس ترجيح أحدهما أولى من الآخر، والأصل براءة ذمة كل واحد من الزيادة،فلا تشتغل الذمة بأمر مشكوك فيه لو كان الشك فى أحدهما، فكيف إذا كان من الطرفين‏؟‏
    فــظهر حكمة قوله‏:‏‏{‏وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ‏}‏، وظهر بهذا أن القرآن دل على ما يحتاج الخلق إلى معرفته والعمل به، ويُحقن به دماؤهم ويحيون به، ودخل فى ذلك ما ذكره الآخرون من العدل فى القود‏.‏
    ودلت الآية على أن القتلى يؤخذ لهم ديات، فدل على ثبوت الدية على القاتل، وأنها مختلفة باختلاف المقتولين،وهذا مما مَنَّ الله به على أمة محمد صلى الله عليه وسلم،حيث أثبت القصاص والدية‏.‏
    وأما كون العفو هو قبول الدية فى العمد، وأنه يستحق العافى بمجرد عفوه ـ فالآية لم تتعرض لهذا‏.‏
    ودلت هذه الآية على أن الطوائف المقتتلة تضمن كل منهما ما أتلفته الأخرى؛ من دم ومال بطريق الظلم؛ لقوله‏:‏‏{‏مِنْ أَخِيهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏178‏]‏ بخلاف ما أتلفه المسلمون للكفار، والكفار للمسلمين‏.‏
    وأما القتال بتأويل ‏(‏كقتال أهل الجمل وصِفِّين‏)‏ فلا ضمان فيه ـ أيضا ـ بطريق الأولى عند الجمهور،فإنه إذا كان الكفار المتأولون لا يضمنون،فالمسلمون المتأولون أولى ألا يضمنوا‏.‏
    ودلت الآية على أن هذا الضمان على مجموع الطائفة يستوى فيه الرِّدْء ‏[‏الرًّدْءُ‏:‏ المعين‏.‏ انظر‏:‏ المصباح المنير، مادة‏:‏ ردؤ‏]‏ والمباشر، لا يقال‏:‏ انظروا من قتل صاحبكم هذا فطالبوه بديته بل يقال‏:‏ديته عليكم كلكم، فإنكم جميعاً قتلتموه؛ لأن المباشر إنما تمكن بمعاونة الردء له، وعلى هذا دل قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 11‏]‏، فإن أولئك الكفار كان عليهم مثل صداق هذه المرأة التى ذهبت إليهم، فإذا لم يؤدوه أخذ من أموالهم التى يقدر المسلمون عليها، مثل امرأة جاءت منهم يستحقون صداقها، فيعطى المسلم زوج تلك المرتدة صداقها من صداق هذه المسلمة المهاجرة التى يستحقه الكفار؛ لكونها أسلمت وهاجرت وفوتت زوجها بُضْعَها كما فوتت المرتدة بضعها لزوجها وإن كان زوج المهاجرة ليس هو الذى تزوج بالمرتدة؛ لأن الطائفة لما كانت ممتنعة يمنع بعضها بعضا،صارت كالشخص الواحد‏.‏
    ولهذا لما قتل خالد من قتل من بنى جذيمة وَدَاهُم النبى صلى الله عليه وسلم من عنده؛ لأن خالداً نائبه وهو لا يمكنهم من مطالبته وحبسه لأنه متأول، وكذلك عَمرو بن أمية وقاتله خالد بن الوليد؛ لأنه قتل هذا على سبيل الجهاد لا لعداوة تخصه، وقد تنازع الفقهاء فى خطأ ولى الأمر؛ هل هو فى بيت المال أو على ذمته‏؟‏ على قولين‏.‏
    ولهذا كان ما غنمته السَّرِيَّة يشاركها فيه الجيش، وما غنمه الجيش شاركته فيه السرية؛ لأنه إنما يغنم بعضهم بظهر بعض، فإذا اشتركوا فى المغرم اشتركوا فى المغنم، وكذلك فى العقوبة يقتل الرِّدْء والمباشر من المحاربين عند جماهير الفقهاء،كما قتل عمر ـ رضى اللّه عنه ـ ربيئة ‏[‏أى طليعة‏.‏ انظر‏:‏ المصباح، مادة‏:‏ ربأ‏]‏ المحاربين، وهو قول مالك وأبى حنيفة وأحمد، وهو مذهب مالك فى القتل قوداً، وفى السراق ـ أيضاً‏.‏
    وبيان دلالة الآية على ذلك‏:‏ أن المقتولين إذا حبس حر بحر وعبد بعبد وأنثى بأنثى، فالحر من هؤلاء ليس قاتله هو ولى الحر من هؤلاء، بل قد يكون غيره،وكذلك العبد من هؤلاء ليس قاتله هو سيد العبد من هؤلاء بل قد يكون غيره،لكن لما كانوا مجتمعين متناصرين على قتال أولئك ومحاربتهم كان من قتله بعضهم فكلهم قتله، وكلهم يضمنونه؛ ولهذا ما فضل لأحد الطائفتين يؤخذ من مال الأخرى‏.‏
    فإن قيل‏:‏ إذا كان مستقراً فى فِطَر بنى آدم أن القاتل الظالم لنظيره يستحق أن يقتل، وليس فى الآدميين من يقول‏:‏ إنه لا يقتل، فما الفائدة فى قوله تعالى‏:‏‏{‏وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا‏}‏ أى‏:‏ فى التوراة ‏{‏أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ‏}‏الآية ‏[‏المائدة‏:‏ 45‏]‏، إذا كان مثل هذا الشرع يعرفه العقلاء كلهم‏؟‏
    قيل لهم‏:‏ فائدته‏:‏ بيان تساوى دماء بنى إسرائيل، وأن دماءهم متكافئة ليس لشريفهم مزية على ضعيفهم، وهذه الفائدة الجليلة التى جاءت بها شرائع الأنبياء، فأما الطوائف الخارجون عن شرائع الأنبياء فلا يحكمون بذلك مطلقاً، بل قد لا يقتلون الشريف، وإذا كان الملك عادلا فقد يفعل بعض ذلك، فهذا الذى كتبه الله فى التوراة من تكافؤ دمائهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، فحكم أيضاً فى المؤمنين به من جميع الأجناس بتكافؤ دمائهم، فالمسلم الحر يقتل بالمسلم الحر من جميع الأجناس باتفاق العلماء‏.‏
    وبهذا ظهر الجواب عن احتجاج من احتج بآية التوراة على أن المسلم يقتل بالذمى؛ لقوله‏:‏‏{‏وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ‏}‏ و‏(‏شَرْعُ من قَبْلنا شَرْعٌ لنا‏)‏، فإنه يقال‏:‏ الذى كتب عليهم أن النفس منهم بالنفس منهم، وهم كلهم كانوا مؤمنين، لم يكن فيهم كافر، ولم يكن فى شريعتهم إبقاء كافر بينهم لا بجزية ولا غيرها، وهذا مثل شرع محمد صلى الله عليه وسلم؛ أن المسلمين تتكافأ دماؤهم، وليس فى الشريعتين أن دم الكافر يكافئ دم المسلم، بل جعل الإيمان هو الواجب للمكافآت دليل على انتفاء ذلك فى الكافر ـ سواء كان ذمياً أو مستأمناًـ لانتفاء الإيمان الواجب للمكافأة فيه، نعم يحتج بعمومه على العبد‏.‏
    وليس فى العبد نصوص صريحة صحيحة كما فى الذمى، بل ما روى‏:‏ ‏(‏من قتل عبده قتلناه به‏)‏، وهذا لأنه إذا قتله ظالماً كان الإمام ولى دمه؛ لأن القاتل كما لا يرث المقتولَ إذا كان حراً، فكذلك لا يكون ولى دمه إذا كان عبداً، بل هذا أولى،كيف يكون دمه وهو القاتل‏؟‏ بل لا يكون ولى دمه، بل ورثة القاتل السيد، لأنهم ورثته وهو بالحياة ولم يثبت له ولاية حتى تنتقل إليهم فيكون وليه الإمام‏.‏ وحينئذ فللإمام قتله، فكل من قتل عبده كان للإمام أن يقتله‏.‏
    و أيضا، فقد ثبت بالسنة والآثار أنه إذا مَثّل بعبده عتق عليه، وهذا مذهب مالك وأحمد وغيرهما، وقتله أشد أنواع المثْل، فلا يموت إلا حراً، لكن حريته لم تثبت فى حال الحياة حتى يرثه عصبته، بل حريته ثبتت حكما، وهو إذا كان عتق كان ولاؤه للمسلمين، فيكون الإمام هو وليه، فله قتل قاتل عبده‏.‏
    وقد يحتج بهذا من يقول‏:‏ إن قاتل عبد غيره لسيده قتله، وإذا دل الحديث على هذا كان هذا القول هو الراجح، والقول الآخر ليس معه نص صريح ولا قياس صحيح، وقد قال الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم‏:‏ من قتل ولا ولى له كان الإمام ولى دمه، فله أن يقتل، وله أن يعفو على الدية، لا مجاناً‏.‏
    يؤيد هذا أن من قال‏:‏ لا يقتل حر بعبد يقول‏:‏ إنه لا يقتل الذمى الحر بالعبد المسلم، قال اللّه ـ تعالى ـ فى كتابه‏:‏ ‏{‏وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏221‏]‏، فالعبد المؤمن خير من الذمى المشرك، فكيف لا يقتل به‏؟‏‏!‏ والعبد المؤمن مثل الحرائر المؤمنات، كما دلت عليه هذه الآية، وهو قول جماهير السلف والخلف، وهذا قوى على قول أحمد؛ فإنه يجوز شهادة العبد كالحر، بخلاف الذمى، فلماذا لا يقتل الحر بالعبد وكلهم مؤمنون، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المؤمنون تتكافأ دماؤهم‏)‏ ‏؟‏‏!‏‏.‏
    قال شيخ الإِسلاَم ـ رَحِمهُ اللَّه ‏:‏
    قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏217‏]‏ من باب بدل الاشتمال، والسؤال إنما وقع عن القتال فيه، فلم قدّم الشهر وقد قلتم‏:‏ إنهم يقدمون ما بيانه أهم وهم به أعنى‏؟‏
    قيل‏:‏ السؤال لم يقع منهم إلا بعد وقوع القتال فى الشهر وتشنيع أعدائهم عليهم انتهاكه وانتهاك حرمته، وكان اهتمامهم بالشهر فوق اهتمامهم بالقتال، فالسؤال إنما وقع من أجل حرمة الشهر، فلذلك قدم فى الذِّكْر، وكان تقديمه مطابقا لما ذكرنا من القاعدة‏.‏
    فإن قيل‏:‏ فما الفائدة فى إعادة ذكر القتال بلفظ الظاهر، وهلا اكتفى بضميره فقال‏:‏ هو كبير‏؟‏ وأنت إذا قلت‏:‏ سألته عن زيد هو فى الدار كان أوجز من أن تقول‏:‏ أزيد فى الدار‏؟‏
    قيل‏:‏ فى إعادته بلفظ الظاهر بلاغة بديعة، وهو تعليق الحكم الخبرى باسم القتال فيه عموماً، ولو أتى بالمضمر فقال‏:‏ هو كبير، لتَوَهَّم اختصاص الحكم بذلك القتال المسؤول عنه‏.‏ وليس الأمر كذلك؛ وإنما هو عام فى كل قتال وقع فى شهر حرام‏.‏
    ونظير هذه القاعدة قوله صلى الله عليه وسلم ـ وقد سئل عن الوضوء بماء البحر فقال‏:‏ ‏(‏هو الطَّهُور ماؤه‏)‏، فأعاد لفظ الماء ولم يقتصر على قوله‏:‏ ‏(‏نعم توضؤوا به‏)‏؛ لئلا يتوهم اختصاص الحكم بالسائلين لضرب من ضروب الاختصاص فعدل عن قوله‏:‏‏(‏نعم توضؤوا‏)‏إلى جواب عام يقتضى تعليق الحكم والطهور به بنفس مائه من حيث هو، فأفاد استمرار الحكم على الدوام، وتعلقه بعموم الأمة، وبطل توهم قصره على السبب، فتأمله فإنه بديع‏.‏
    فكذلك فى الآية لما قال‏:‏ ‏{‏قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ‏}‏، فجعل الخبر بـ ‏{‏كَبِيرٌ‏}‏ واقعا عن ‏{‏قِتَالٌ فِيهِ‏}‏ فيتعلق الحكم به على العموم، ولفظ ‏(‏المضمر‏)‏ لا يقتضى ذلك‏.‏
    وقريب من هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏170‏]‏ ولم يقل‏:‏ أجرهم، تعليقا لهذا الحكم بالوصف وهو كونهم مصلحين، وليس فى الضمير ما يدل على الوصف المذكور‏.‏
    وقريب منه ـ وهو ألطف منه ـ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 222‏]‏، ولم يقل فيه تعليقاً بحكم الاعتزال بنفس الحيض، وأنه هو سبب الاعتزال، وقال‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ أَذًى‏}‏ ولم يقل‏:‏ ‏(‏المحيض أذى‏)‏ لأنه جاء به على الأصل،ولأنه لو كرره لثقل اللفظ به لتكرره ثلاث مرات، وكان ذكره بلفظ الظاهر فى الأمر بالاعتزال أحسن من ذكره مضمرا ليفيد تعليق الحكم بكونه حيضا، بخلاف قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ أَذًى‏}‏ فإنه إخبار بالواقع، والمخاطبون يعلمون أن جهة كونه أذى هو نفس كونه حيضاً، بخلاف تعليق الحكم به، فإنه إنما يعلم بالشرع، فتأمله‏.
    سُئِلَ شيخ الإسلام، عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏221‏]‏، وقد أباح العلماء التزويج بالنصرانية واليهودية، فهل هما من المشركين أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، نكاح الكتابية جائز بالآية التى فى المائدة قال تعالى‏:‏‏{‏وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 5‏]‏، وهذا مذهب جماهير السلف والخلف من الأئمة الأربعة وغيرهم، وقد روى عن ابن عمر؛ أنه كره نكاح النصرانية، وقال‏:‏ لا أعلم شركا أعظم ممن تقول‏:‏ إن ربها عيسى ابن مريم‏.‏
    وهو اليوم مذهب طائفة من أهل البدع، وقد احتجوا بالآية التى فى سورة البقرة وبقوله‏:‏ ‏{‏وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏، والجواب عن آية البقرة من ثلاثة أوجه‏:‏
    أحدها‏:‏ أن أهل الكتاب لم يدخلوا فى المشركين، فجعل أهل الكتاب غير المشركين، بدليل قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 17‏]‏‏.‏
    فإن قيل‏:‏ فقد وصفهم بالشرك بقوله‏:‏ ‏{‏اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏31‏]‏، قيل‏:‏ أهل الكتاب ليس فى أصل دينهم شرك؛ فإن الله إنما بعث الرسل بالتوحيد، فكل من آمن بالرسل والكتب لم يكن فى أصل دينهم شرك،ولكن النصارى ابتدعوا الشرك، كما قال‏:‏‏{‏سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏ يونس‏:‏18، والروم‏:‏40، والزمر‏:‏67‏]‏، فحيث وصفهم بأنهم أشركوا فلأجل ما ابتدعوه من الشرك الذى لم يأمر الله به، وحيث ميزهم عن المشركين،فلأن أصل دينهم اتباع الكتب المنزلة التى جاءت بالتوحيد لا بالشرك‏.‏
    فإذا قيل‏:‏ أهل الكتاب لم يكونوا من هذه الجهة مشركين؛ فإن الكتاب الذى أضيفوا إليه لا شرك فيه، كما إذا قيل‏:‏ المسلمون وأمة محمد لم يكن فيهم من هذه الجهة لا اتحاد، ولا رفض، ولا تكذيب بالقدر، ولا غير ذلك من البدع، وإن كان بعض الداخلين فى الأمة قد ابتدع هذه البدع، لكن أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على ضلالة‏.‏ فلا يزال فيها من هو متبع لشريعة التوحيد، بخلاف أهل الكتاب، ولم يخبر الله ـ عز وجل ـ عن أهل الكتاب أنهم مشركون بالاسم، بل قال‏:‏ ‏{‏عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ بالفعل، وآية البقرة قال فيها‏:‏ ‏{‏المشركين‏}‏ و ‏{‏المشركات‏}‏ بالاسم، والاسم أوكد من الفعل‏.‏
    الوجه الثانى‏:‏ أن يقال‏:‏ إن شملهم لفظ ‏{‏المشركين‏}‏ فى سورة البقرة كما وصفهم بالشرك،فهذا متوجه بأن يفرق بين دلالة اللفظ مفرداً ومقروناً،فإذا أفردوا دخل فيهم أهل الكتاب، وإذا قرنوا بأهل الكتاب لم يدخلوا فيهم، كما قيل مثل هذا فى اسم الفقير والمسكين ونحو ذلك، فعلى هذا يقال‏:‏ آية البقرة عامة، وتلك خاصة، والخاص يقدم على العام‏.‏
    الوجه الثالث‏:‏ أن يقال‏:‏ آية المائدة ناسخة لآية البقرة؛ لأن المائدة نزلت بعد البقرة باتفاق العلماء، وقد جاء فى الحديث المائدة من ‏[‏آخر ما وجد من الأصل‏]‏‏.‏
    وقال شيخ الإِسَلام ـ رَحِمهُ الله‏:‏
    فصــل
    لما ذكر ـ سبحانه ـ ما يبطل الصدقة من المن والأذى ومن الرياء، ومثله بالتراب على الصَّفْوان ‏[‏أى الحجارة الملس‏.‏ انظر‏:‏ المصباح المنير، مادة‏:‏ صفو‏]‏ إذا أصابه المطر؛ ولهذا قال‏:‏‏{‏وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏264‏]‏،لأن الإيمان بأحدهما لا ينفع هنا، بخلاف قوله فى النساء‏:‏‏{‏إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَـاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏36-38‏]‏‏.‏
    فإنه فى معرض الذم، فذكر غايته وذكر ما يقابله وهم الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم‏.‏
    فالأول الإخلاص‏.‏
    والتثبيت‏:‏ هو التثبت كقوله‏:‏‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 66‏]‏، كقوله‏:‏ ‏{‏وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 8‏]‏، ويشبه ـ والله أعلم ـ أن يكون هذا من باب قدم وتقدم كقوله‏:‏‏{‏لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 1‏]‏ فتبتل وتثبت لازم بمعنى ثبت‏.‏‏.‏‏.‏‏[‏هنا كلمات غير متضحة‏]‏ لأن التثبت هو القوة والمكنة، وضده الزلزلة والرَّجْفَة، فإن الصدقة من جنس القتال، فالجبان يرجف، والشجاع يثبت؛ ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وأما الخيلاء التى يحبها الله فاختيال الرجل بنفسه عند الحرب، واختياله بنفسه عند الصدقة‏)‏ لأنه مقام ثبات وقوة، فالخيلاء تناسبه، وإنما الذى لا يحبه الله المختال الفخور البخيل الآمر بالبخل، فأما المختال مع العطاء أو القتال فيحبه‏.‏
    وقوله‏:‏ ‏{‏من أنفسهم‏}‏ أى‏:‏ليس المقوى له من خارج كالذى يثبت وقت الحرب لإمساك أصحابه له، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏37‏]‏، بل تثبته ومغفرته من جهة نفسه‏.‏
    وقد ذكر الله ـ سبحانه ـ فى البقرة والنساء الأقسام الأربعة فى العطاء‏.‏
    إما ألا يعطى فهو البخيل المذموم فى النساء، أو يعطى مع الكراهة والمن والأذى، فلا يكون بتثبيت وهو المذموم فى البقرة، أو مع الرياء فهو المذموم فى السورتين، فبقى القسم الرابع‏:‏ ابتغاء رضوان اللّه وتثبيتاً من أنفسهم‏.‏
    ونظيره الصلاة؛ إما ألا يصلى، أو يصلى رياء أو كسلان، أو يصلى مخلصاً، والأقسام الثلاثة الأُول مذمومة‏.‏ وكذلك الزكاة، ونظير ذلك الهجرة والجهاد؛ فإن الناس فيهما أربعة أقسام، وكذلك ‏{‏إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 45‏]‏ فى الثبات والذكر، وكذلك ‏{‏وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏17‏]‏ فى الصبر والمرحمة أربعة أقسام، وكذلك ‏{‏وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏45‏]‏ فهم‏.‏‏.‏‏.‏‏[‏هنا كلمات غير متضحة‏]‏ فى الصبر والصلاة‏.‏
    فعامة هذه الأشفاع التى فى القرآن‏:‏ إما عملان،و إما وصفان فى عمل؛ انقسم الناس فيها قسمة رباعية، ثم إن كانا عملين منفصلين كالصلاة والصبر، والصلاة والزكاة ونحو ذلك نفع أحدهما ولو ترك الآخر، وإن كانا شرطين فى عمل كالإخلاص والتثبت لم ينفع أحدهما، فإن المن والأذى محبط، كما أن الرياء محبط، كما دل عليه القرآن، ومن هذا تقوى اللّه وحسن الخلق؛ فإن اللّه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، والبر والتقوى والحق والصبر، وأفضل الإيمان السماحة والصبر‏.‏
    بخلاف الأشفاع فى الذم كالإفك والإثم، والاختيال والفخر، والشح والجبن، والإثم والعدوان؛ فإن الذم ينال أحدهما مفرداً ومقروناً، لأن الخير من باب المطلوب وجوده لمنفعته، فقد لا تحصل المنفعة إلا بتمامه، والشر يطلب عدمه لمضرته وبعض المضار يضر فى الجملة غالباً؛ ولهذا فرق فى الأسماء بين الأمر والنهى، والإثبات والنفى، فإذا أمر بالشىء اقتضى كماله، وإذا نهى عنه اقتضى النهى عن جميع أجزائه؛ ولهذا حيث أمر الله بالنكاح ـ كما في المطلقة ثلاثًا حتى تنكح زوجًا غيره، وكما في الإحصان - فلابد من الكمال بالعقد والدخول، وحيث نهى عنه ـ كما فى ذوات المحارم ـ فالنهى عن كل منهما على انفراده، وهذا مذهب مالك وأحمد المنصوص عنه أنه إذا حلف ليتزوجن لم يَبَرَّ إلا بالعُقْدَة والدخول، بخلاف ما إذا حلف لا يتزوج فإنه يحنث بالعقدة، وكذلك إذا حلف لا يفعل شيئاً حنث بفعل بعضه، بخلاف ما إذا حلف ليفعلنه، فإن دلالة الاسم على كل وبعض تختلف باختلاف النفى والإثبات‏.‏
    ولهذا لما أمر الله بالطهارة والصلاة والزكاة والحج كان الواجب الإتمام، كما قال تعالى‏:‏‏{‏بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏124‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏37‏]‏‏.‏
    ولما نهى عن القتل والزنا والسرقة والشرب كان ناهياً عن أبعاض ذلك، بل وعن مقدماته ـ أيضاً، وإن كان الاسم لا يتناوله فى الإثبات؛ ولهذا فرق فى الأسماء النكرات بين النفى والإثبات، والأفعال كلها نكرات، وفرق بين الأمر والنهى بين التكرار وغيره، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شىء فاجتنبوه‏)‏‏.‏
    وإنما اختلف فى المعارف المنفية على روايتين، كما فى قوله‏:‏ لا تأخذ الدراهم، ولا تكلم الناس‏.‏
    وَقَالَ شيخ الإِسلام أبو العباس تقى الدين ابن تيمية ـ قدس الله روحه ونور ضريحه‏:‏
    فصــل
    فى قوله تعالى‏:‏‏{‏وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏284‏]‏، قد ثبت فى صحيح مسلم عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبى هريرة، قال‏:‏لما أنزل اللّه‏:‏ ‏{‏وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ‏}‏ اشتد ذلك على أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بَرَكُوا على الركب، وقالوا‏:‏ أى رسول الله ‏!‏ كُلِّفْنَا من العمل ما نُطِيق‏:‏ الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة؛ وقد نزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم‏:‏ سمعنا وعصينا‏؟‏ قولوا‏:‏سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير‏)‏، فلما قرأها القوم وذَلَّتْ بها ألسنتهم أنزل الله فى أثرها‏:‏ ‏{‏آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ‏}‏ ‏[‏ البقرة‏:‏285‏]‏ فلما فعلوا ذلك نسخها الله، فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا‏}‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏،‏{‏رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا‏}‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏، ‏{‏رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ‏}‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏، ‏{‏وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏286‏]‏، قال‏:‏‏(‏نعم‏)‏‏.‏
    وروى سعيد بن جُبَيْر عن ابن عباس معناه،وقال‏:‏‏(‏قد فَعَلْتُ، قد فَعَلْتُ‏)‏، بدل ‏(‏نعم‏)‏‏.‏
    ولهذا قال كثير من السلف والخلف‏:‏ إنها منسوخة بقوله‏:‏‏{‏لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏، كما نقل ذلك عن ابن مسعود، وأبى هريرة، وابن عمر، وابن عباس فى رواية عنه، والحسن، والشَّعْبِى، وابن سِيرِين، وسعيد بن جبير، وقتادة، وعطاء الخراسانى، والسُّدِّىّ، ومحمد بن كعب، ومقاتل، والكلبى، وابن زيد، ونقل عن آخرين أنها ليست منسوخة، بل هى ثابتة فى المحاسبة على العموم، فيأخذ من يشاء ويغفر لمن يشاء، كما نقل ذلك عن ابن عمر، والحسن، واختاره أبو سليمان الدمشقى والقاضى أبو يعلى، وقالوا‏:‏ هذا خبر، والأخبار لا تنسخ‏.‏
    وفصل الخطاب‏:‏ أن لفظ ‏(‏النسخ‏)‏ مجمل، فالسلف كانوا يستعملونه فيما يظن دلالة الآية عليه، من عموم أو إطلاق أو غير ذلك، كما قال من قال‏:‏ إن قوله‏:‏‏{‏اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 102‏]‏، ‏{‏وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏78‏]‏، نسخ بقوله‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏16‏]‏، وليس بين الآيتين تناقض، لكن قد يفهم بعض الناس من قوله‏:‏ ‏{‏حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏ و ‏{‏حَقَّ جِهَادِهِ‏}‏ الأمر بما لا يستطيعه العبد فينسخ ما فهمه هذا، كما ينسخ اللّه ما يلقى الشيطان ويحكم اللّه آياته‏.‏ وإن لم يكن نسخ ذلك نسخ ما أنزله، بل نسخ ما ألقاه الشيطان، إما من الأنفس أو من الأسماع أو من اللسان‏.‏
    وكذلك ينسخ اللّه ما يقع فى النفوس من فهم معنى، وإن كانت الآية لم تدل عليه لكنه محتمل وهذه الآية من هذا الباب؛ فإن قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ‏}‏ الآية إنما تدل على أن اللّه يحاسب بما فى النفوس لا على أنه يعاقب على كل ما فى النفوس، وقوله‏:‏ ‏{‏لِمَن يَشَاء‏}‏ يقتضى أن الأمر إليه فى المغفرة والعذاب لا إلى غيره ‏.‏
    ولا يقتضى أنه يغفر ويعذب بلا حكمة ولا عدل، كما قد يظنه من يظنه من الناس، حتى يجوزوا أنه يعذب على الأمر اليسير من السيئات مع كثرة الحسنات وعظمها، وأن الرجلين اللذين لهما حسنات وسيئات يغفر لأحدهما مع كثرة سيئاته وقلة حسناته، ويعاقب الآخر على السيئة الواحدة مع كثرة حسناته، ويجعل درجة ذاك فى الجنة فوق درجة الثانى‏.‏
    وهؤلاء يجوزون أن يعذب اللّه الناس بلا ذنب، وأن يكلفهم ما لا يطيقون ويعذبهم على تركه، والصحابة إنما هربوا وخافوا أن يكون الأمر من هذا الجنس، فقالوا‏:‏ لا طاقة لنا بهذا؛ فإنه إن كلفنا ما لا نطيق عذبنا، فنسخ اللّه هذا الظن، وبين أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها، وبين بطلان قول هؤلاء الذين يقولون‏:‏ إنه يكلف العبد ما لا يطيقه، ويعذبه عليه، وهذا القول لم يعرف عن أحد من السلف والأئمة، بل أقوالهم تناقض ذلك،حتى إن سفيان بن عيينة سئل عن قوله‏:‏ ‏{‏لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، قال‏:‏ إلا يسرها، ولم يكلفها طاقتها‏.‏ قال البغوى‏:‏وهذا قول حسن؛لأن الوسع ما دون الطاقة،وإنما قاله طائفة من المتأخرين لما ناظروا المعتزلة فى ‏(‏مسائل القدر‏)‏ وسلك هؤلاء مسلك الجبر، جَهْم وأتباعه،فقالوا هذا القول وصاروا فيه على مراتب،وقد بسط هذا فى غير هذا الموضع‏.‏
    قال ابن الأنبارى فى قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَتُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏ أى‏:‏ لا تحملنا ما يثقل علينا أداؤه وإن كنا مطيقين له على تَجشُّم وتحمل مكروه، قال‏:‏ فخاطب العرب على حسب ما تعقل؛ فإن الرجل منهم يقول للرجل‏:‏ ما أطيق النظر إليك،وهومطيق لذلك،لكنه ثقيل عليه النظر إليه قال‏:‏ ومثله قوله‏:‏‏{‏مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 20‏]‏‏.‏
    قلت‏:‏ ليست هذه لغة العرب وحدهم، بل هذا مما اتفق عليه العقلاء‏.‏ والاستطاعة فى الشرع هى ما لا يحصل معه للمكلف ضرر راجح، كاستطاعة الصيام والقيام، فمتى كان يزيد فى المرض أو يؤخر البرء لم يكن مستطيعاً؛ لأن فى ذلك مضرة راجحة، بخلاف هؤلاء فإنهم كانوا لا يستطيعون السمع لبغض الحق وثقله عليهم؛إما حسداً لقائله، وإما اتباعاً للهوى ورين الكفر والمعاصى على القلوب، وليس هذا عذراً، فلو لم يأمر العباد إلا بما يهوونه لفسدت السموات والأرض ومن فيهن‏.‏
    والمقصود أن السلف لم يكن فيهم من يقول‏:‏ إن العبد لا يكون مستطيعاً إلا فى حال فعله، وأنه قبل الفعل لم يكن مستطيعاً، فهذا لم يأت الشرع به قط، ولا اللغة، ولا دل عليه عقل، بل العقل يدل على نقيضه، كما قد بسط فى غير هذا الموضع‏.‏
    والرب ـ تعالى ـ يعلم أن العبد لا يفعل الفعل مع أنه مستطيع له، والمعلوم أنه لا يفعله، ولا يريده لا أنه لا يقدر عليه، والعلم يطابق المعلوم، فاللّه يعلم ممن استطاع الحج والقيام والصيام أنه مستطيع، ويعلم أن هذا مستطيع يفعل مستطاعه، فالمعلوم هو عدم الفعل لعدم إرادة العبد، لا لعدم استطاعته، كالمقدورات له التى يعلم أنه لا يفعلها لعدم إرادته لها لا لعدم قدرته عليها، والعبد قادر على أن يفعل، وقد علم اللّه أنه لا يفعل مع القدرة؛ ولهذا يعذبه لأنه إنما أمره بما استطاع لا بما لا يستطيع، ومن لم يستطع لم يأمره ولا يعذبه على ما لم يستطعه‏.‏
    وإذا قيل‏:‏ فيلزم أن يكون قادراً على تغيير علم اللّه؛ لأن اللّه علم أنه لا يفعل، فإذا قدر على الفعل قدر على تغيير علم اللّه‏.‏
    قيل‏:‏ هذه مغلطة؛ وذلك أن مجرد قدرته على الفعل لا يلزم فيها تغيير العلم، وإنما يظن من يظن تغيير العلم إذا وقع الفعل، ولو وقع الفعل لكان المعلوم وقوعه، لا عدم وقوعه، فيمتنع أن يحصل وقوع الفعل مع علم اللّه بعدم وقوعه، بل إن وقع كان اللّه قد علم أنه يقع، وإن لم يقع كان اللّه قد علم أنه لا يقع، ونحن لا نعرف علم اللّه إلا بما يظهر،و علم اللّه مطابق للواقع، فيمتنع أن يقع شىء يستلزم تغيير العلم، بل أى شىء وقع كان هو المعلوم، والعبد الذى لم يفعل لم يأت بشىء يغير العلم، بل هو قادر على فعل ما لم يقع، ولو وقع لكان الله قد علم أنه يقع لا أنه لا يقع‏.‏
    وإذا قيل‏:‏ فمع عدم وقوعه يعلم الله أنه لا يقع، فلو قدر العبد على وقوعه قدر على تغيير العلم‏.‏
    قيل‏:‏ ليس الأمر كذلك، بل العبد يقدر على وقوعه، وهو لم يوقعه، ولو أوقعه لم يكن المعلوم إلا وقوعه، فمقدور العبد إذا وقع لم يكن المعلوم إلا وقوعه، فإذا وقع كان اللّه عالماً أنه سيقع، وإذا لم يقع كان اللّه عالماً بأنه لا يقع البَتةَ، فإذا فرض وقوعه مع انتفاء لازم الوقوع صار محالا من جهة إثبات الملزوم بدون لازمه، وكل الأشياء بهذا الاعتبار هى محال‏.‏
    ومما يلزم هؤلاء ألاّ يبقى أحد قادراً على شىء إلا الرب؛ فإن الأمور نوعان‏:‏ نوع علم اللّه أنه سيكون، ونوع علم الله أنه لا يكون‏.‏
    فالأول لابد من وقوعه، والثانى لا يقع البتة‏.‏ فما علم الله أـنه سيقع يعلم أنـه يقع بمشيئته وقدرته، وما علم أنه لا يقع يعلم أنه لا يشاؤه، وهو ـ سبحانه ـ ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن‏.‏
    وأما ‏(‏المعتزلة‏)‏ فعندهم أنه يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء، وأولئك ‏(‏المجبرة‏)‏ فى جانب، وهؤلاء فى جانب، وأهل السنة وَسَط‏.‏
    وما يفعله العباد باختيارهم يعلم ـ سبحانه ـ أنهم فعلوه بقدرتهم ومشيئتهم وما لم يفعلوه مع قدرتهم عليه يعلم أنهم لم يفعلوه لعدم إرادتهم له لا لعدم قدرتهم عليه، وهوـ سبحانه ـ الخالق للعباد ولقدرتهم وإرادتهم وأفعالهم، وكل ذلك مقدور للرب، وليس هذا مقدوراً بين قادرين، بل القادر المخلوق هو وقدرته ومقدوره مقدور للخالق مخلوق له‏.‏
    والمقصود هنا أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏284‏]‏ حق، والنسخ فيها هو رَفْع فَهْم من فَهِم من الآية ما لم تدل عليه، فمن فهم أن الله يكلف نفساً ما لا تسعه فقد نسخ فهمه وظنه، ومن فهم منها أن المغفرة والعذاب بلا حكمة وعدل فقد نسخ فهمه وظنه،فقوله‏:‏ ‏{‏لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏286‏]‏ رد للأول، وقوله‏:‏ ‏{‏لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ‏}‏ رد للثانى، وقوله‏:‏ ‏{‏فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء‏}‏ كقوله فى آل عمران‏:‏‏{‏وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏129‏]‏،وقوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏40‏]‏، ونحو ذلك‏.‏
    وقد علمنا أنه لا يغفر أن يشرك به، وأنه لا يعذب المؤمنين، وأنه يغفر لمن تاب، كذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ‏}‏ الآية‏.‏
    ودلت هذه الآية على أنه ـ سبحانه ـ يحاسب بما فى النفوس، وقد قال عمر‏:‏ زِنُوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا‏.‏ والمحاسبة تقتضى أن ذلك يحسب ويحصى‏.‏
    وأما المغفرة والعذاب،فقد دل الكتاب والسنة على أن من فى قلبه الكفر وبغض الرسول وبغض ما جاء به أنه كافر بالله ورسوله، وقد عفى الله لهذه الأمة ـ وهم المؤمنون حقاً، الذين لم يرتابوا ـ عما حَدَّثَتْ به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل، كما هو فى الصحيحين من حديث أبى هريرة وابن عباس، وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏أن الذى يهم بالحسنة تكتب له، والذى يهم بالسيئة لا تكتب عليه حتى يعملها إذا كان مؤمناً من عادته عمل الحسنات وترك السيئات، فإن ترك السيئة للّه كتبت له حسنة، فإذا أبدى العبد ما فى نفسه من الشر بقول أو فعل صار من الأعمال التى يستحق عليها الذم والعقاب، وإن أخفى ذلك وكان ما أخفاه متضمناً لترك الإيمان بالله والرسول مثل الشك فيما جاء به الرسول أو بغضه كان معاقباً على ما أخفاه فى نفسه من ذلك؛ لأنه ترك الإيمان الذى لا نجاة ولا سعادة إلا به، وأما إن كان وسواسا والعبد يكرهه فهذا صريح الإيمان، كما هو مصرح به فى الصحيح‏.‏
    وهذه ‏(‏الوسوسة‏)‏ هى مما يهجم على القلب بغير اختيار الإنسان، فإذا كرهه العبد ونفاه كانت كراهته صريح الإيمان، وقد خاف من خاف من الصحابة من العقوبة على ذلك، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏286‏]‏‏.‏
    و‏(‏الوُسْع‏)‏ فعل بمعنى المفعول، أى‏:‏ ما يسعه، لا يكلفها ما تضيق عنه فلا تسعه، وهو المقدور عليه المستطاع، وقال بعض الناس‏:‏ إن ‏(‏الوسع‏)‏ اسم لما يسع الإنسان ولا يضيق عليه‏.‏وليس كذلك، بل ما يسع الإنسان هو مباح له، وما لم يسعه ليس مأموراً به فما يسعه قد يؤمر به وأما ما لا يسعه فهو المباح يقال‏:‏ يسعنى أن أفعل كذا، ولا يسعنى أن أفعل كذا، والمباح هو الواسع، ومنه باحة الدار، فالمباح لك أن تفعله هو يسعك ولا تخرج عنه،ومنه يقال‏:‏رحم الله من وسعته السُّنَّة فلم يتعدها إلى البدعة،أى‏:‏فيما أمر اللّه به وما أباحه ما يكفى المؤمن المتبع فى دينه ودنياه لا يحتاج أن يخرج عنه إلى ما نهى عنه‏.‏
    وأما ما كلفت به فهو ما أمرت بفعله، وذلك يكون مما تسعه أنت لا مما يسعك هو، وقد يقال‏:‏ لا يسعنى تركه، بل تركه محرم، وقد قال تعالى‏:‏‏{‏تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏، وهو أول الحرام، وقال‏:‏ ‏{‏تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏229‏]‏، وهى آخر الحلال، وقال‏:‏‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏53‏]‏‏.‏ وهذا التغيير نوعان‏:‏
    أحدهما‏:‏ أن يبدو ذلك فيبقى قولا وعملا يترتب عليه الذم والعقاب‏.‏
    والثانى‏:‏ أن يغيروا الإيمان الذى فى قلوبهم بضده من الريب والشك والبغض، ويعزموا على ترك فعل ما أمر اللّه به ورسوله، فيستحقون العذاب هنا على ترك المأمور، وهناك على فعل المحظور‏.‏
    وكذلك ما فى النفس مما يناقض محبة الله والتوكل عليه والإخلاص له والشكر له يعاقب عليه؛ لأن هذه الأمور كلها واجبة‏.‏ فإذا خلى القلب عنها واتصف بأضدادها استحق العذاب على ترك هذه الواجبات‏.‏
    وبهذا التفصيل تزول شبه كثيرة، ويحصل الجمع بين النصوص، فإنها كلها متفقة على ذلك، فالمنافقون الذين يظهرون خلاف ما يبطنون يعاقبون على أنهم لم تؤمن قلوبهم، بل أضمرت الكفر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 11‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏10‏]‏،وقال‏:‏‏{‏أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏41‏]‏، فالمنافق لابد أن يظهر فى قوله وفعله ما يدل على نفاقه وما أضمره، كما قال عثمان بن عفان‏:‏ما أسَرّ أحد سريرة إلا أظهرها اللّه على صَفَحات وجهه وفَلَتات لسانه،وقد قال تعالى عن المنافقين‏:‏ ‏{‏وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ‏}‏ ثم قال‏:‏‏{‏وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏30‏]‏، وهو جواب قسم محذوف، أي‏:‏ واللّه لتعرفهم فى لحن القول، فمعرفة المنافق في لحن القول لابد منها، وأما معرفته بالسيما فموقوفة على المشيئة‏.‏
    ولما كانت هذه الآية‏:‏‏{‏وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ‏}‏ خبرا من اللّه؛ ليس فيها إثبات إيمان للعبد، بخلاف الآيتين بعدها، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الآيتان من آخر سورة البقرة مـن قرأهما فـى ليلة كفتاه‏)‏ متفق عليه، وهـما قـولـه‏:‏ ‏{‏آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ‏}‏ إلى آخرها ‏[‏البقرة‏:‏285‏]‏‏.‏
    وكلام السلف يوافق ما ذكرناه، قال ابن عباس‏:‏ هذه الآية لم تنسخ، ولكن الله إذا جمع الخلائق يقول‏:‏ إنى أخبركم بما أخفيتم فى أنفسكم مما لم تطلع عليه ملائكتى، فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم، وهو قوله‏:‏ ‏{‏يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ‏}‏ يقول‏:‏ يخبركم به اللّه، وأما أهل الشرك والريب فيخبرهم بما أخفوه من التكذيب، وهو قوله‏:‏ ‏{‏فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏284‏]‏‏.‏
    وقد روى عن ابن عباس‏:‏ أنها نزلت فى كتمان الشهادة، وروى ذلك عن عكرمة والشعبى، وكتمان الشهادة من باب ترك الواجب، وذلك ككتمان العيب الذى يجب إظهاره، وكتمان العلم الذى يحب إظهاره، وعن مجاهد‏:‏ أنه الشك واليقين، وهذا أيضاً من باب ترك الواجب؛ لأن اليقين واجب‏.‏ وروى عن عائشة‏:‏ ما أعلنت فإن الله يحاسبك به، وأما ما أخفيتَ فما عجلتْ لك به العقوبة فى الدنيا‏.‏ وهذا قد يكون مما يعاقب فيه العبد بالغم، كما سئل سفيان بن عيينة عن غم لا يعرف سببه قال‏:‏ هو ذنب هممت به فى سرك ولم تفعله، فجزيت هَمًّا به‏.‏
    فالذنوب لها عقوبات؛ السر بالسر، والعلانية بالعلانية، وروى عنها مرفوعا قالت‏:‏ سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ‏}‏ فقال‏:‏ ‏(‏يا عائشة، هذه معاتبة الله العبد مما يصيبه من النَّكْبَةِ والحمى، حتى الشوكة والبِضَاعَة يضعها فى كمِّه فيفقدها فَيُرَوعُ لها فيجدها فى جيبه، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التِّبْرُ الأحمر من الكِير‏)‏‏.‏
    قلت‏:‏ هذا المرفوع هو ـ والله أعلم ـ بيان ما يعاقب به المؤمن فى الدنيا؛ وليس فيه أن كل ما أخفاه يعاقب به، بل فيه أنه إذا عوقب على ما أخفاه عوقب بمثل ذلك، وعلى هذا دلت الأحاديث الصحيحة‏.‏
    وقد روى الرويانى ‏[‏أبو بكر محمد بن هارون الرويانى، من حفاظ الحديث، له مسند، وتصانيف فى الفقه‏.‏ نسبته إلى رويان بنواحى طبرستان، وتوفى سنة 703هـ‏]‏ فى مسنده من طريق الليث عن يزيد بن أبى حبيب، عن سعيد ابن سِنان، عن أنس، عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا أراد اللّه بعبده الخير عَجَّل له العقوبة فى الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه العقوبة بذنبه حتى يوافيه بها يوم القيامة‏)‏، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 153، 154‏]‏‏.‏
    فهؤلاء كانوا فى ظنهم ـ ظن الجاهلية ـ ظنا ينافى اليقين بالقدر، وظنا ينافى بأن اللّه ينصر رسوله، فكان عقابهم على ترك اليقين ووجود الشك، وظن الجاهلية، ومثل هذا كثير‏.‏
    ومما يدخل فى ذلك نيات الأعمال، فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى‏.‏ والنية‏:‏هى مما يخفيه الإنسان فى نفسه، فإن كان قصده ابتغاء وجه ربه الأعلى استحق الثواب، وإن كان قصده رياء الناس استحق العقاب، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ‏}‏ ‏[‏الماعون‏:‏ 4 ـ 6‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 142‏]‏‏.‏
    وفى حديث أبى هريرة الصحيح فى الثلاثة الذين أول من تُسَعَّر بهم النار‏:‏ فى الذى تَعَلَّم وعَلَّم ليقال‏:‏ عالم وقارئ، والذى قاتل ليقال‏:‏ جرىء وشجاع، والذى تصدق ليقال‏:‏ جواد وكريم‏.‏ فهؤلاء إنما كان قصدهم مدح الناس لهم، وتعظيمهم لهم وطلب الجاه عندهم، لم يقصدوا بذلك وجه اللّه، وإن كانت صور أعمالهم صوراً حسنة، فهؤلاء إذا حوسبوا كانوا ممن يستحق العذاب، كما فى الحديث‏:‏ ‏(‏من طلب العلم ليُبَاهِى به العلماء، أو ليُمَارِى به السفهاء، أو ليصرف به وجوه الناس إليه فله من عمله النار‏)‏، وفى الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏من طلب علما مما يبتغى به وجه اللّه لا يطلبه إلا ليصيب به عَرَضًا من الدنيا لم يُرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام‏)‏‏.‏
    وفى الجملة، القلب هو الأصل، كما قال أبو هريرة‏:‏ القلب ملك الأعضاء، والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث خبثت جنوده، وهذا كما فى حديث النعمان بن بشير ـ المتفق عليه ـ أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏‏(‏إن فى الجسد مُضْغَةً إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهى القلب فصلاحه وفساده يستلزم صلاح الجسد وفساده، فيكون هذا مما أبداه لا مما أخفاه‏.‏
    وكل ما أوجبه اللّه على العباد لابد أن يجب على القلب فإنه الأصل، وإن وجب على غيره تبعا،فالعبد المأمور المنهى إنما يعلم بالأمر والنهى قلبه، وإنما يقصد الطاعة والامتثال القلب، والعلم بالمأمور والامتثال يكون قبل وجود الفعل المأمور به، كالصلاة، والزكاة، والصيام‏.‏ وإذا كان العبد قد أعرض عن معرفة الأمر وقصد الامتثال، كان أول المعصية منه، بل كان هو العاصى وغيره تبع له فى ذلك؛ ولهذا قال فى حق الشقى‏:‏‏{‏فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 31، 32‏]‏ الآيات،وقال فى حق السعداء‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏}‏‏[‏الكهف‏:‏30‏]‏ فى غير موضع‏.‏والمأمور نوعان‏:‏
    نوع هو عمل ظاهر على الجوارح، وهذا لا يكون إلا بعلم القلب وإرادته‏.‏ فالقلب هو الأصل فيه، كالوضوء والاغتسال، وكأفعال الصلاة؛ من القيام، والركوع، والسجود، وأفعال الحج؛ من الوقوف، والطواف،وإن كانت أقوالا فالقلب أخص بها، فلابد أن يعلم القلب وجود ما يقوله، أو بما يقول ويقصده‏.‏
    ولهذا كانت الأقوال فى الشرع لا تعتبر إلا من عاقل يعلم ما يقول ويقصده، فأما المجنون والطفل الذى لا يميز فأقواله كلها لغو فى الشرع، لا يصح منه إيمان ولا كفر، ولا عقد من العقود،ولاشىء من الأقوال باتفاق المسلمين، وكذلك النائم إذا تكلم فى منامه، فأقواله كلها لغو، سواء تكلم المجنون والنائم بطلاق أو كفر أوغيره، وهذا بخلاف الطفل؛ فإن المجنون والنائم إذا أتلف مالا ضمنه، ولو قتل نفساً وجبت ديتها كما تجب دية الخطأ‏.‏
    وتنازع العلماء فى السكران،مع اتفاقهم أنه لا تصح صلاته؛لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مروهم بالصلاة لسبع،واضربوهم عليها لعشر،وفَرِّقوا بينهم فى المضاجع‏)‏ وهو معروف فى السنن‏.‏
    وتنازعوا فى عقود السكران كطلاقه، و فى أفعاله المحرمة، كالقتل والزنا، هل يجرى مجرى العاقل، أو مجرى المجنون، أو يفرق بين أقواله وأفعاله وبين بعض ذلك وبعض‏؟‏ على عدة أقوال معروفة‏.‏
    والذى تدل عليه النصوص والأصول وأقوال الصحابة‏:‏ أن أقواله هدر ـ كالمجنون ـ لا يقع بها طلاق ولا غيره؛ فإن الله ـ تعالى ـ قد قال‏:‏‏{‏حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏43‏]‏، فدل على أنه لا يعلم ما يقول، والقلب هو الملك الذى تصدر الأقوال والأفعال عنه، فإذا لم يعلم ما يقول لم يكن ذلك صادراً عن القلب، بل يجرى مجرى اللغو، والشارع لم يرتب المؤاخذة إلا على ما يكسبه القلب من الأقوال والأفعال الظاهرة، كما قال‏:‏‏{‏وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏225‏]‏، ولم يؤاخذ على أقوال وأفعال لم يعلم بها القلب ولم يتعمدها، وكذلك ما يحدث به المرء نفسه لم يؤاخذ منه إلا بما قاله أو فعله، وقال قوم‏:‏ إن اللّه قد أثبت للقلب كسباً فقال‏:‏ ‏{‏بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ‏}‏ فليس للّه عبد أسَرّ عملاً أو أعلنه من حركة فى جوارحه، أو هَمٍّ فى قلبه، إلا يخبره الله به ويحاسبه عليه، ثم يغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء‏.‏
    واحتجوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏36‏]‏، وهذا القول ضعيف شاذ؛فإن قوله‏:‏ ‏{‏يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ‏}‏ إنما ذكره لبيان أنه يؤاخذ فى الأعمال بما كسب القلب،لا يؤاخذ بلغو الأيمان، كما قال‏:‏ ‏{‏بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏89‏]‏، فالمؤاخذة لم تقع إلا بما اجتمع فيه كسب القلب مع عمل الجوارح، فأما ما وقع فى النفس، فإن الله تجاوز عنه ما لم يتكلم به أو يعمل، وما وقع من لفظ أو حركة بغير قصد القلب وعلمه فإنه لا يؤاخذ به‏.‏
    وأيضا، فإذا كان السكران لا يصح طلاقه والصبى المميز تصح صلاته، ثم الصبى لا يقع طلاقه، فالسكران أولى، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم لماعز لما اعترف بالحد‏:‏ ‏(‏أبك جنون‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ لا، ثم أمر باستنكاهه لئلا يكون سكران، فدل على أن إقرار السكران باطل، وقضية ماعز متأخرة بعد تحريم الخمر؛ فإن الخمر حرمت سنة ثلاث بعد أُحُد باتفاق الناس، وقد ثبت عن عثمان وغيره من الصحابة ـ كعبد اللّه بن عباس ـ أن طلاق السكران لا يقع، ولم يثبت عن صحابى خلافه‏.‏
    والذين أوقعوا طلاقه لم يذكروا إلا مأخذاً ضعيفا، وعمدتهم أنه عاص بإزالة عقله، وهذا صحيح يوجب عقوبته على المعصية التى هى الشرب فيحد على ذلك، وأما الطلاق فلا يعاقب به مسلم على المعصية، ولو كان كذلك لكان كل من شرب الخمر أو سكر طلقت امرأته، وإنما قال من قال‏:‏ إذا تكلم به طلقت، فهم اعتبروا كلامه لا معصيته، ثم إنه فى حال سكره قد يعتق، والعتق قربة، فإن صححوا عتقه بطل الفرق، وإن ألغوه فإلغاء الطلاق أولى؛ فإن الله يحب العتق ولا يحب الطلاق‏.‏
    ثم من علل ذلك بالمعصية، لزمه طرد ذلك فيمن زال عقله بغير مسكر كالبنج، وهو قول من يسوى بين البنج والسكران من أصحاب الشافعى وموافقيه كأبى الخطاب، والأكثرون على الفرق، وهو منصوص أحمد وأبى حنيفة وغيرهما؛ لأن الخمر تشتهيها النفس وفيها الحد، بخلاف البنج فإنه لا حد فيه، بل فيه التعزير؛ لأنه لا يشتهى كالميتة، والدم ولحم الخنزير فيها التعزير، وعامة العلماء على أنه لا حد فيها إلا قولاً نقل عن الحسن، فهذا فيمن زال عقله‏.‏
    وأما إذا كان يعلم ما يقول، فإن كان مختاراً قاصداً لما يقوله، فهذا هو الذى يعتبر قوله، وإن كان مكرها، فإن أكره على ذلك بغير حق فهذا عند جمهور العلماء أقواله كلها لَغْو، مثل كفره، وإيمانه، وطلاقه وغيره، وهذا مذهب مالك والشافعى وأحمد وغيرهم‏.‏
    وأبو حنيفة وطائفة يفرقون بين ما يقبل الفسخ وما لا يقبله، قالوا‏:‏فما يقبل الفسخ لا يلزم من المكره كالبيع، بل يقف على إجازته له، وما لا يقبل الفسخ كالنكاح والطلاق واليمين فإنه يلزم من المكره‏.‏
    والجمهور ينازعون فى هذا الفرق؛ فى ثبوت الوصف، وفى تعلق الحكم به؛ فإنهم يقولون‏:‏ النكاح ونحوه يقبل الفسخ، وكذلك العتق يقبل الفسخ عند الشافعى وأحد القولين فى مذهب أحمد، حتى إن المكاتب قد يحكمون بعتقه ثم يفسخون العتق ويعيدونه عبداً، والأيمان المنعقدة تقبل التحلة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏2‏]‏، وبسط الكلام على هذا له موضع آخر‏.‏
    والمقصود هنا أن القلب هو الأصل فى جميع الأفعال والأقوال، فما أمر اللّه به من الأفعال الظاهرة فلابد فيه من معرفة القلب وقصده وما أمر به من الأقوال وكل ما تقدم، والمنهى عنه من الأقوال والأفعال إنما يعاقب عليه إذا كان بقصد القلب، وأما ثبوت بعض الأحكام، كضمان النفوس والأموال إذا أتلفها مجنون أو نائم أو مخطئ أو ناس، فهذا من باب العدل فى حقوق العباد، ليس هو من باب العقوبة‏.‏
    فالمأمور به ـ كما ذكرنا ـ نوعان‏:‏ نوع ظاهر على الجوارح، ونوع باطن فى القلب‏.‏
    النوع الثانى‏:‏ ما يكون باطنا فى القلب كالإخلاص وحب اللّه ورسوله والتوكل عليه والخوف منه، وكنفس إيمان القلب وتصديقه بما أخبر به الرسول، فهذا النوع تعلقه بالقلب ظاهر فإنه محله، وهذا النوع هو أصل النوع الأول، وهو أبلغ فى الخير والشر من الأول، فنفس إيمان القلب وحبه وتعظيمه للّه وخوفه ورجائه والتوكل عليه وإخلاص الدين له لا يتم شىء من المأمور به ظاهراً إلا بها، وإلا فلو عمل أعمالا ظاهرة بدون هذه كان منافقاً، وهى فى أنفسها توجب لصاحبها أعمالا ظاهرة توافقها، وهى أشرف من فروعها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏37‏]‏‏.‏
    وكذلك تكذيب الرسول بالقلب وبغضه وحسده والاستكبار عن متابعته،أعظم إثما من أعمال ظاهرة خالية عن هذا كالقتل والزنا والشرب والسرقة، وما كان كفراً من الأعمال الظاهرة؛ كالسجود للأوثان، وسب الرسول ونحو ذلك، فإنما ذلك لكونه مستلزما لكفر الباطن، وإلا فلو قدر أنه سجد قُدّام وَثَنٍ ولم يقصد بقلبه السجود له بل قصد السجود للّّه بقلبه لم يكن ذلك كفراً، وقد يباح ذلك إذا كان بين مشركين يخافهم على نفسه فيوافقهم فى الفعل الظاهر ويقصد بقلبه السجود للّه، كما ذكر أن بعض علماء المسلمين وعلماء أهل الكتاب فعل نحو ذلك مع قوم من المشركين، حتى دعاهم إلى الإسلام فأسلموا على يديه، ولم يظهر منافرتهم فى أول الأمر‏.‏
    وهنا أصول تنازع الناس فيها، منها أن القلب هل يقوم به تصديق أو تكذيب ولا يظهر قط منه شىء على اللسان والجوارح، وإنما يظهر من غير خوف‏؟‏ فالذى عليه السلف والأئمة وجمهور الناس‏:‏ أنه لا بد من ظهور موجب ذلك على الجوارح، فمن قال‏:‏ إنه يصدق الرسول ويحبه ويعظمه بقلبه ولم يتكلم قط بالإسلام ولا فعل شيئاً من واجباته بلا خوف، فهذا لا يكون مؤمناً فى الباطن، وإنما هو كافر‏.‏
    وزعم جَهْم ومن وافقه أنه يكون مؤمناً فى الباطن‏.‏‏.‏‏.‏‏[‏بياض الأصل‏]‏ وأن مجرد معرفة القلب وتصديقه يكون إيماناً يوجب الثواب يوم القيامة بلا قول ولا عمل ظاهر، وهذا باطل شرعا وعقلا ـ كما قد بسط فى غير هذا الموضع ‏.‏وقد كَفَّر السلف ـ كوَكِيع وأحمد وغيرهما ـ من يقول بهذا القول، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن فى الجسد مُضْغَةً إذا صلُحَتْ صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب‏)‏، فبين أن صلاح القلب مستلزم لصلاح الجسد ‏.‏ فإذا كان الجسد غير صالح دل على أن القلب غير صالح، والقلب المؤمن صالح، فعلم أن من يتكلم بالإيمان ولا يعمل به لا يكون قلبه مؤمناً، حتى إن المكره إذا كان فى إظهـار الإيمان فلابـد أن يتكلم مع نفسه وفى السر مـع مـن يأمـن إليه، ولابـد أن يظهر على صَفَحات وجهه وفَلَتات لسانه، كما قال عثمان‏.‏ وأما إذا لم يظهر أثر ذلك ـ لا بقوله ولا بفعله قط ـ فإنه يدل على أنه ليس فى القلب إيمان‏.‏
    وذلك أن الجسد تابع للقلب،فلا يستقر شىء فى القلب إلا ظهر موجبه ومقتضاه على البدن ولو بوجه من الوجوه، وإن لم يظهر كل موجبه لمعارض فالمقتضى لظهور موجبه قائم؛ والمعارض لا يكون لازما للإنسان لزوم القلب له، وإنما يكون فى بعض الأحوال متعذراً إذا كتم ما فى قلبه كمؤمن آل فرعون، مع أنه قد دعى إلى الايمان دعاء ظهر به من إيمان قلبه ما لا يظهر من إيمان من أعلن إيمانه بين موافقيه، وهذا فى معرفة القلب وتصديقه‏.‏
    ومنها قصد القلب وعزمه إذا قصد الفعل وعزم عليه مع قدرته على ما قصده، هل يمكن ألا يوجد شىء مما قصده وعزم عليه‏؟‏ فيه قولان، أصحهما أنه إذا حصل القصد الجازم مع القدرة وجب وجود المقدور، وحيث لم يفعل العبد مقدوره دل على أنه ليس هناك قصد جازم،وقد يحصل قصد جازم مع العجز عن المقدور لكن يحصل معه مقدمات المقدور، وقيل‏:‏ بل قد يمكن حصول العزم التام بدون أمر ظاهر‏.‏
    وهذا نظير قول من قال ذلك فى المعرفة والتصديق، وهما من أقوال أتباع جَهْم الذين نصروا قوله فى الإيمان، كالقاضى أبى بكر وأمثاله، فإنهم نصروا قوله، وخالفوا السلف والأئمة وعامة طوائف المسلمين‏.‏
    وبهذا ينفصل النزاع فى مؤاخذة العبد بالْهَمَّة، فمن الناس من قال‏:‏ يؤاخذ بها إذا كانت عَزْما، ومنهم من قال‏:‏ لا يؤاخذ بها‏.‏ والتحقيق‏:‏ أن الهمة إذا صارت عزما فلابد أن يقترن بها قول أو فعل؛ فإن الإرادة مع القدرة تستلزم وجود المقدور‏.‏
    والذين قالوا‏:‏ يؤاخذ بها احتجوا بقوله‏:‏ ‏(‏إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار‏)‏ الحديث، وهذا لا حجة فيه؛ فإنه ذكر ذلك فى رجلين اقتتلا، كل منهما يريد قتل الآخر، وهذا ليس عزماً مجرداً، بل هو عزم مع فعل المقدور، لكنه عاجز عن إتمام مراده، وهذا يؤاخذ باتفاق المسلمين، فمن اجتهد على شرب الخمر وسعى فى ذلك بقوله وعمله ثم عجز فإنه آثم باتفاق المسلمين، وهو كالشارب وإن لم يقع منه شرب، وكذلك من اجتهد على الزنا والسرقة ونحو ذلك بقوله وعمله ثم عجز فهو آثم كالفاعل، ومثل ذلك فى قتل النفس وغيره، كمـا جعل الداعى إلى الخير له مثل أجر المدعو ووزره لأنه أراد فعل المدعو، وفعل ما يقدر عليه، فالإرادة الجازمة، مع فعل المقدور من ذلك، فيحصل له مثل أجر الفاعل ووزره، وقد قال تعالى‏:‏‏{‏لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ‏}‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏95‏]‏‏.‏
    وفصل الخطاب فى الآية‏:‏ أن ‏{‏أٍوًلٌي بضَّرّر‏}‏ نوعان‏:‏
    نوع لهم عزم تام على الجهاد ولو تمكنوا لما قعدوا ولا تخلفوا، وإنما أقعدهم العذر، فهم كما قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنبالمدينة رجالا ما سِرْتُم مَسِيٍرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم‏)‏ قالوا‏:‏ وهم بالمدينة‏؟‏‏!‏ قال‏:‏ ‏(‏وهم بالمدينة، حَبَسَهُمُ العُذْرُ‏)‏ وهم ـ أيضاً ـ كما قال فى حديث أبى كَبْشَة الأنمارى‏:‏ ‏(‏هما فى الأجر سواء‏)‏، وكما فى حديث أبى موسى‏:‏ ‏(‏إذا مرض العبد أو سافر كُتِب له من العمل ما كان يعمل صحيحاً مقيما‏)‏، فأثبت له مثل ذلك العمل؛ لأن عزمه تام، وإنما منعه العذر‏.‏
    والنوع الثانى من ‏{‏أُوْلِي الضَّرَرِ‏}‏‏:‏ الذين ليس لهم عزم على الخروج، فهؤلاء يفضل عليهم الخارجون المجاهدون وأولو الضرر العازمون عزما جازماً على الخروج‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ‏}‏ سواء كان استثناء أو صفة دل على أنهم لا يدخلون مع القاعدين فى نفى الاستواء، فإذا فصل الأمر فيهم بين العازم وغير العازم بقيت الآية على ظاهرها‏.‏ ولـو جعل قوله‏:‏‏{‏فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً‏}‏ ‏[‏ النساء‏:‏95‏]‏ عاما فى أهل الضرر وغيرهم لكان ذلك مناقضاً لقوله‏:‏ ‏{‏غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ‏}‏؛ فإن قوله‏:‏‏{‏لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ‏}‏، ‏{‏وَالْمُجَاهِدُونَ‏}‏ إنما فيها نفى الاستواء، فإن كان أهل الضرر كلهم كذلك لزم بطلان قوله‏:‏ ‏{‏غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ‏}‏، ولزم أنه لا يساوى المجاهدين قاعد ولو كان من أولى الضرر، وهذا خلاف مقصود الآية‏.‏
    وأيضاً، فالقاعدون إذا كانوا من غير أولى الضرر، والجهاد ليس بفرض عين فقد حصلت الكفاية بغيرهم؛ فإنه لا حرج عليهم فى القعود، بل هم موعودون بالحسنى كأولى الضرر، وهذا مثل قوله‏:‏ ‏{‏لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ‏}‏ الآية ‏[‏الحديد‏:‏10‏]‏، فالوعد بالحسنى شامل لأولى الضرر وغيرهم‏.‏
    فإن قيل‏:‏ قد قال فى الأولى فى فضلهم‏:‏‏{‏دَرَجَةً‏}‏ ثم قال فى فضلهم‏:‏ ‏{‏دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏96‏]‏، كما قال‏:‏ ‏{‏أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 19ـ 21‏]‏‏.‏
    فقوله‏:‏ ‏{‏أَعْظَمُ دَرَجَةً‏}‏ كما قال فى السابقين‏:‏ ‏{‏أَعْظَمُ دَرَجَةً‏}‏ وهذا نصب على التمييز؛ أى‏:‏ درجتهم أعظم درجة، وهذا يقتضى تفضيلا مجملا، يقال‏:‏ منزلة هذا أعظم وأكبر، كذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏95‏]‏ الآيات‏.‏ ليس المراد به أنهم لم يفضلوا عليهم إلا بدرجة؛ فإن فى الحديث الصحيح الذى يرويه أبو سعيد وأبو هريرة‏:‏ ‏(‏إن فى الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين فى سبيله، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض‏)‏ الحديث، وفى حديث أبى سعيد‏:‏ ‏(‏من رَضِىَ بالله ربا وبالإسلام دِينا، وبمحمد نبياً، وَجَبَتْ له الجنة‏)‏ ‏.‏فعجب لها أبو سعيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة فى الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض‏)‏، فقال‏:‏ وما هى يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الجهاد فى سبيل الله‏)‏، فهذا الحديث الصحيح بين أن المجاهد يفضل على القاعد الموعود بالحسنى من غير أولى الضرر مائة درجة، وهو يبطل قول من يقول‏:‏ إن الوعد بالحسنى والتفضيل بالدرجة مختص بأولى الضرر، فهذا القول مخالف للكتاب والسنة‏.‏
    وقد يقال‏:‏ إن ‏{‏دَرَجَةً‏}‏ منصوب على التمييز، كما قال‏:‏ ‏{‏أَعْظَمُ دَرَجَةً‏}‏ أى فضل درجتهم على درجتهم أفضل، كما يقال‏:‏ فضل هذا على هذا منزلا ومقاماً، وقد يراد بالدرجة جنس الدرج، وهى المنزلة والمستقر،ولا يراد به درجة واحدة من العدد، وقوله‏:‏‏{‏وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ‏}‏، منصوب بـ‏{‏فَضَّلَ‏}‏؛ لأن التفضيل زيادة للمفضل، فالتقدير‏:‏ زادهم عليهم أجراً عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة، فهذا النزاع فى العازم الجازم إذا فعل مقدوره هل يكون كالفاعل فى الأجر والوزر أم لا‏؟‏ وأما فى استحقاق الأجر والوزر فلا نزاع فى ذلك، وقوله‏:‏ ‏(‏إذا التقى المسلمان بسيفيهما‏)‏ فيه حرص كل واحد منهما على قتل صاحبه وفعل مقدوره، فكلاهما مستحق للنار، ويبقى الكلام فى تساوى القعودين بشىء آخر‏.‏
    وهكذا حال المقتتلين من المسلمين فى الفتن الواقعة بينهم، فلا تكون عاقبتهما إلا عاقبة سوء،الغالب والمغلوب، فإنه لم يحصل له دنيا ولا آخرة، كما قال الشعبى‏:‏ أصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أشقياء، وأما الغالب فإنه يحصل له حظ عاجل ثم ينتقم منه فى الآخرة، وقد يعجل الله له الانتقام فى الدنيا، كما جرى لعامة الغالبين فى الفتن‏.‏ فإنهم أصيبوا فى الدنيا، كالغالبين فى الحرة، وفتنة أبى مسلم الخراسانى ونحو ذلك‏.‏
    وأما من قال‏:‏ إنه لا يؤاخذ بالعزم القلبى، فاحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏إن الله تجاوز لأمتى عما حَدَّثَتْ به أنفسها‏)‏، وهذا ليس فيه أنه عافٍ لهم عن العزم، بل فيه أنه عَفَى عن حديث النَّفْس إلى أن يتكلم أو يعمل، فدل على أنه ما لم يتكلم أو يعمل لا يؤاخذ، ولكن ظن من ظن أن ذلك عزم وليس كذلك، بل ما لم يتكلم أو يعمل لا يكون عزماً؛ فإن العزم لابد أن يقترن به المقدور وإن لم يصل العازم إلى المقصود، فالذى يعزم على القتل أو الزنا أو نحوه عزما جازما لابد أن يتحرك ولو برأسه، أو يمشى، أو يأخذ آلة، أو يتكلم كلمة، أو يقول أو يفعل شيـئا، فهذا كله ما يؤاخذ به كزنا العين واللسان والرِّجل فإن هذا يؤاخذ به، وهو من مقدمات الزنا التام بالفرج، وإنما وقع العفو عما ما لم يبرز خارجا بقول أو فعل ولم يقترن به أمر ظاهر قط، فهذا يعفى عنه لمن قام بما يجب على القلب من فعل المأمور به، سواء كان المأمور به فى القلب وموجبه فى الجسد، أوكان المأمور به ظاهراً فى الجسد وفى القلب معرفته وقصده، فهؤلاء إذا حدثوا أنفسهم بشىء كان عفواً مثل هَمّ ثابت بلا فعل، ومثل الوسواس الذى يكرهونه وهم يثابون على كراهته، وعلى ترك ما هموا به وعزموا عليه للّه ـ تعالى ـ وخوفاً منه‏.‏
    وَقال الشيخ ـ رَحمه اللَّه تعالى‏:‏
    اعلم أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أعطى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وبارك، خواتيم ‏(‏سورة البقرة‏)‏ من كنز تحت العرش لم يؤت منه نبى قبله‏.‏ ومن تدبر هذه الآيات وفهم ما تضمنته من حقائق الدين، وقواعد الإيمان الخمس، والرد على كل مبطل، وما تضمنته من كمال نعم اللّه ـ تعالى ـ على هذا النبى صلى الله عليه وسلم وأمته، ومحبة الله ـ سبحانه ـ لهم، وتفضيله إياهم على من سواهم، فَلْيَهْنَهُ ‏[‏فى المطبوعة‏:‏ فاليهنه ـ والصواب ما أثبتناه‏]‏ العلم، ولو ذهبنا نستوعب الكلام فيها لخرجنا عن مقصود الكتاب، ولكن لابد من كليمات يسيرة تشير إلى بعض ذلك فنقول‏:‏
    لما كانت ‏(‏سورة البقرة‏)‏ سِنام القرآن، وأكثر سوره أحكاما، وأجمعها لقواعد الدين؛ أصوله وفروعه، وهى مشتملة على ذكر أقسام الخلق؛ المؤمنين، والكفار، والمنافقين، وذكر أوصافهم و أعمالهم‏.‏
    وذكر الأدلة الدالة على إثبات الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ وعلى وحدانيته، وذكر نعمه، وإثبات نبوة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتقرير المعاد، وذكر الجنة والنار، وما فيهما من النعيم والعذاب‏.‏
    ثم ذكر تخليق العالم العلوى والسفلى‏.‏
    ثم ذكر خلق آدم ـ عليه السلام ـ وإنعامه عليه بالتعليم وإسجاد ملائكته له، وإدخاله الجنة، ثم ذكر محنته مع إبليس، وذكر حسن عاقبة آدم ـ عليه السلام‏.‏
    ثم ذكر المناظرة مع أهل الكتاب من اليهود، وتوبيخهم على كفرهم وعنادهم، ثم ذكر النصارى والرد عليهم، وتقرير عبودية المسيح، ثم تقرير النسخ، والحكمة فى وقوعه‏.‏
    ثم بناء البيت الحرام وتقرير تعظيمه، وذكر بانيه والثناء عليه، ثم تقرير الحنيفية ملة إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وتسفيه من رغب عنها، ووصية بنيه بها وهكذا شيئاً فشيئاً إلى آخر السورة، فختمها اللّه تعالى بآيات جوامع مقررة لجميع مضمون السورة، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 284‏]‏‏.‏
    فأخبر ـ تعالى ـ أن ما فى السموات وما فى الأرض ملكه وحده لا يشاركه فيه مشارك، وهذا يتضمن انفراده بالملك الحق،والملك العام لكل موجود، وذلك يتضمن توحيد ربوبيته وتوحيد إلهيته، فتضمن نفى الولد والصاحبة والشريك؛ لأن ما فى السموات وما فى الأرض إذا كان ملكه وخلقه لم يكن له فيهم ولد ولا صاحبة ولا شريك‏.‏
    وقد استدل ـ سبحانه ـ بعين هذا الدليل فى سورة الأنعام، وسورة مريم، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 101‏]‏، وقال تعالى ـ فى سورة مريم‏:‏ ‏{‏وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏92، 93‏]‏، ويتضمن ذلك أن الرغبة والسؤال والطلب والافتقار لا يكون إلا إليه وحده؛ إذ هو المالك لما فى السموات والأرض‏.‏
    ولما كان تصرفه ـ سبحانه ـ فى خلقه لا يخرج عن العدل والإحسان وهو تصرف بخلقه وأمره، وأخبر أن ما فى السموات وما فى الأرض ملكه، فما تصرف خلقاً وأمراً إلا فى ملكه الحقيقى، وكانت سورة البقرة مشتملة من الأمر والخلق على ما لم يشتمل عليه سورة غيرها أخبر ـ تعالى ـ أن ذلك صدر منه فى ملكه، قال تعالى‏:‏‏{‏وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏284‏]‏، فهذا متضمن لكمال علمه ـ سبحانه وتعالى ـ بسرائر عباده وظواهرهم، وأنه لا يخرج شىء من ذلك عن علمه، كما لم يخرج شىء ممن فى السموات والأرض عن ملكه، فعلمه عام وملكه عام‏.‏
    ثم أخبر ـ تعالى ـ عن محاسبته لهم بذلك، وهى تعريفهم ما أبدوه أو أخفوه، فتضمن ذلك علمه بهم وتعريفهم إياه، ثم قال‏:‏‏{‏فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء‏}‏ فتضمن ذلك قيامه عليهم بالعدل والفضل، فيغفر لمن يشاء فضلا، ويعذب من يشاء عدلا، وذلك يتضمن الثواب والعقاب المستلزم للأمر والنهى، المستلزم للرسالة والنبوة‏.‏
    ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏، فتضمن ذلك أنه لا يخرج شىء عن قدرته الْبَتّةَ، وأن كل مقدور واقع بقدره، ففى ذلك رد على المجوس الثنوية، والفلاسفة، والقدرية المجوسية، وعلى كل من أخرج شيئا من المقدورات عن خلقه وقدرته ـ وهم طوائف كثيرون‏.‏
    فتضمنت الآية إثبات التوحيد، وإثبات العلم بالجزئيات والكليات، وإثبات الشرائع والنبوات، وإثبات المعاد والثواب والعقاب، وقيام الرب على خلقه بالعدل والفضل، وإثبات كمال القدرة وعمومها، وذلك يتضمن حدوث العالم بأسره؛ لأن القديم لا يكون مقدوراً ولا مفعولا‏.‏
    ثم إن إثبات كمال علمه وقدرته يستلزم إثبات سائر صفاته العلى، وله من كل صفة اسم حسن، فيتضمن إثبات أسمائه الحسنى، وكمال القدرة يستلزم أن يكون فعالا لما يريد، وذلك يتضمن تنزيهه عن كل ما يضاد كماله، فيتضمن تنزيهه عن الظلم المنافى لكمال غناه وكمال علمه؛ إذ الظلم إنما يصدر عن محتاج أو جاهل، وأما الغنى عن كل شىء العالم بكل شىء ـ سبحانه ـ فإنه يستحيل منه الظلم، كما يستحيل عليه العجز المنافى لكمال قدرته، والجهل المنافى لكمال علمه‏.‏
    فتضمنت الآية هذه المعارف كلها بأوجز عبارة، وأفصح لفظ، وأوضح معنى‏.‏
    وقد عَرفتَ بهذا أن الآية لا تقتضى العقاب على خواطر النفوس المجردة، بل إنما تقتضى محاسبة الرب عبده بها، وهى أعم من العقاب، والأعم لا يستلزم الأخص، وبعد محاسبته بها يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، وعلى هذا فالآية محكمة لا نسخ فيها، ومن قال من السلف‏:‏ نسخها ما بعدها فمراده بيان معناها والمراد منها، وذلك يسمى نسخاً فى لسان السلف، كما يسمون الاستثناء نسخاً‏.‏
    ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏285‏]‏، فهذه شهادة الله ـ تعالى ـ لرسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ بإيمانه بما أنزل إليه من ربه، وذلك يتضمن إعطاءه ثواب أكمل أهل الإيمان ـ زيادة على ثواب الرسالة والنبوة ـ لأنه شارك المؤمنين فى الإيمان، ونال منه أعلى مراتبه، وامتاز عنهم بالرسالة والنبوة، وقوله‏:‏‏{‏أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ‏}‏ يتضمن أنه كلامه الذى تكلم به، ومنه نزل لا من غيره، كما قال تعالى‏:‏‏{‏قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏102‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏80، والحاقة‏:‏43‏]‏‏.‏
    وهذا أحد ما احتج به أهل السنة على المعتزلة القائلين بأن الله لم يتكلم بالقرآن، قالوا‏:‏ فلو كان كلاما لغير الله لكان منزلا من ذلك المحل لا من الله؛ فإن القرآن صفة لا تقوم بنفسها، بخلاف قوله‏:‏ ‏{‏وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏31‏]‏، فإن تلك أعيان قائمة بنفسها، فهى منه خلقا، وأما ‏(‏الكلام‏)‏ فوصف قائم بالمتكلم، فلما كان منه فهو كلامه؛ إذ يستحيل أن يكون منه ولم يتكلم به‏.‏
    ثم شهد ـ تعالى ـ للمؤمنين بأنهم آمنوا بما آمن به رسولهم، ثم شهد لهم جميعا بأنهم آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله، فتضمنت هذه الشهادة إيمانهم بقواعد الإيمان الخمسة التى لا يكون أحد مؤمناً إلا بها، وهى‏:‏ الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر‏.‏
    وقد ذكر ـ تعالى ـ هذه الأصول الخمسة فى أول السورة ووسطها وآخرها، فقال فى أولها‏:‏‏{‏والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 4‏]‏، فالإيمان بما أنزل إليه وما أنزل من قبله يتضمن الإيمان بالكتب والرسل والملائكة، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ‏}‏، والإيمان بالله يدخل فى الإيمان بالغيب وفى الإيمان بالكتب والرسل، فتضمنت الإيمان بالقواعد الخمس‏.‏
    وقال فى وسطها‏:‏ ‏{‏وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏177‏]‏، ثم حكى عن أهل الإيمان أنهم قالوا‏:‏‏{‏لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏285‏]‏، فنؤمن ببعض ونكفر ببعض، فلا ينفعنا إيماننا بمن آمنا به منهم كما لم ينفع أهل الكتاب ذلك، بل نؤمن بجميعهم ونصدقهم ولا نفرق بينهم، وقد جمعتهم رسالة ربهم فنفرق بين من جمع الله بينهم،ونعادى رسله، ونكون معادين له، فباينوا بهذا الإيمان جميع طوائف الكفار المكذبين لجنس الرسل،والمصدقين لبعضهم المكذبين لبعضهم‏.‏
    وتضمن إيمانهم بالله إيمانهم بربوبيته، وصفات كماله، ونعوت جلاله، وأسمائه الحسنى، وعموم قدرته ومشيئته، وكمال علمه وحكمته، فباينوا بذلك جميع طوائف أهل البدع والمنكرين لذلك أو لشىء منه؛ فإن كمال الإيمان بالله يتضمن إثبات ما أثبته لنفسه، وتنزيهه عما نزه نفسه عنه، فباينوا بهذين الأمرين جميع طوائف الكفر، وفِرَق أهل الضلال الملحدين فى أسماء الله وصفاته‏.‏
    ثم قالوا‏:‏ ‏{‏سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا‏}‏، فهذا إقرار منهم بركنى الإيمان الذى لا يقوم إلا بهما، وهما السمع المتضمن للقبول، لا مجرد سمع الإدراك المشترك بين المؤمنين والكفار، بل سمع الفهم والقبول، والثانى‏:‏ الطاعة المتضمنة لكمال الانقياد وامتثال الأمر، وهذا عكس قول الأمة الغضبية‏:‏ ‏{‏سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏93‏]‏‏.‏
    فتضمنت هذه الكلمات كمال إيمانهم، وكمال قبولهم، وكمال انقيادهم، ثـم قالـوا ‏{‏غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏285‏]‏ لما علموا أنهم لم يوفوا مقام الإيمان حقه مع الطاعـة والانقيـاد الذى يقتضيه منهـم، وأنهم لابد أن تميل بهم غلبات الطبـاع ودواعـى البشرية إلى بعض التقصير فى واجبات الإيمان، وأنه لا يلم شَعْْثَ ذلك إلا مغفرة اللّه ـ تعالى ـ لهم، سألوه غفرانه الذى هو غاية سعادتهم، ونهاية كمالهم؛ فإن غاية كل مؤمن المغفرة من اللّه ـ تعالى ـ فقالوا‏:‏ ‏{‏غُفْرَانَكَ رَبَّنَا‏}‏ ثم اعترفوا أن مصيرهم ومردهم إلى مولاهم الحق لابد لهم من الرجوع إليه فقالوا‏:‏ ‏{‏وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ‏}‏‏.‏
    فتضمنت هذه الكلمات إيمانهم به، ودخولهم تحت طاعته وعبوديته، واعترافهم بربوبيته، واضطرارهم إلى مغفرته، واعترافهم بالتقصير فى حقه، وإقرارهم برجوعهم إليه‏.‏
    ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏286‏]‏، فنفى بذلك ما توهموه من أنه يعذبهم بالخطرات التى لا يملكون دفعها، وأنها داخلة تحت تكليفه، فأخبرهم أنه لا يكلفهم إلا وسعهم، فهذا هو البيان الذى قال فيه ابن عباس وغيره‏:‏ فنسخها اللّه عنهم بقوله‏:‏ ‏{‏لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏، وقد تضمن ذلك أن جميع ما كلفهم به أمراً ونهيا فهم مطيقون له قادرون عليه، وأنه لم يكلفهم ما لا يطيقون، وفى ذلك رد صريح على من زعم خلاف ذلك‏.‏
    والله ـ تعالى ـ أمرهم بعبادته، وضمن أرزاقهم، فكلفهم من الأعمال ما يسعونه، وأعطاهم من الرزق ما يسعهم، فتكليفهم يسعونه، وأرزاقهم تسعهم، فهم في الوُسْع فى رزقه وأمره؛ وسعوا أمره ووسعهم رزقه، ففرق بين ما يسع العبد وما يسعه العبد، وهذا هو اللائق برحمته وبره وإحسانه وحكمته وغناه، لا قول من يقول‏:‏ إنه كلفهم ما لا قدرة لهم عليه البتة ولا يطيقونه، ثم يعذبهم على ما لا يعملونه‏.‏
    وتأمل قوله ـ عز وجل‏:‏ ‏{‏إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ كيف تجد تحته أنهم فى سعة ومنحة من تكاليفه، لا في ضيق وحرج ومشقة؛ فإن الوسع يقتضى ذلك، فاقتضت الآية أنّ ما كلفهم به مقدور لهم من غير عسر لهم ولا ضيق ولا حرج، بخلاف ما يقدر عليه الشخص فإنه قد يكون مقدوراً له ولكن فيه ضيق وحرج عليه، وأما وسعه الذى هو منه فى سعة فهو دون مدى للطاقة والمجهود؛ بل لنفسه فيه مجال ومتسع، وذلك منافٍ للضيق والحرج ‏{‏وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏78‏]‏، بل يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر‏.‏ قال سفيان بن ـ عيينة ـ في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏‏:‏ إلا يسرها لا عسرها، ولم يكلفها طاقتها، ولو كلفها طاقتها لبلغ المجهود‏.‏
    فهذا فَهْم أئمة الإسلام، وأين هذا من قول من قال‏:‏ إنه كلفهم ما لا يطيقونه البتة، ولا قدرة لهم عليه‏؟‏ ثم أخبر ـ تعالى ـ أن ثمرة هذا التكليف وغايته عائدة عليهم، وأنه ـ تعالى ـ يتعالى عن انتفاعه بكسبهم وتضرره باكتسابهم، بل لهم كسبهم ونفعه، وعليهم اكتسابهم وضرره، فلم يأمرهم بما أمرهم به حاجة منه إليهم، بل رحمة وإحساناً وتكرماً، ولم ينههم عما نهاهم عنه بخلا منه عليهم، بل حمية وحفظاً وصيانة وعافية‏.‏
    وفيه ـ أيضاً ـ أن نفساً لا تعذب باكتساب غيرها، ولا تثاب بكسبه، ففيه معنى قـولـه‏:‏‏{‏وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى‏}‏ ‏[‏ النـجـم‏:‏ 39‏]‏،‏{‏وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 164، الإسراء‏:‏15، فاطر‏:‏18‏]‏ ‏.‏
    وفيه ـ أيضاً ـ إثبات كسب النفس المنافى للجبر‏.‏
    وفيه ـ أيضاً اجتماع الحكمة فيه، فإما كسب خيراً أو اكتسب شراً، لم يبطل اكتسابه كسبه، كما يقوله أهل الإحباط والتخليد، فإنهم يقولون‏:‏ إن عليه ما اكتسب وليس له ما كسب، فالآية رد على جميع هذه الطوائف، فتأمل كيف أتى فيما لها بالكسب الحاصل ولو لأدنى ملابسة، وفيما عليها بالاكتساب الدال على الاهتمام والحرص والعمل؛ فإن ‏(‏اكتسب‏)‏ أبلغ من ‏(‏كسب‏)‏، ففى ذلك تنبيه على غلبة الفضل للعدل، والرحمة للغضب‏.‏
    ثم لما كان ما كلفهم به عهوداً منه ووصايا، وأوامر تجب مراعاتها والمحافظة عليها، وألا يخل بشىء منها؛ ولكن غلبات الطباع البشرية تأبى إلا النسيان والخطأ والضعف والتقصير أرشدهم الله ـ تعالى ـ إلى أن يسألوه مسامحته إياهم فى ذلك كله، ورفع موجبه عنهم بقولهم‏:‏‏{‏رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏286‏]‏، أى‏:‏ لا تكلفنا من الآصار التى يثقل حملها ما كلفته من قبلنا؛ فإنا أضعف أجساداً وأقل احتمالا‏.‏
    ثم لما علموا أنهم غير منفكين مما يقضيه ويقدره عليهم، كما أنهم غير منفكين عما يأمرهم به وينهاهم عنه، سألوه التخفيف فى قضائه وقدره، كما سألوه التخفيف فى أمره ونهيه، فقالوا‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ‏}‏ فهذا فى القضاء والقدر والمصائب، وقولهم‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا‏}‏ في الأمر والنهى والتكليف، فسألوه التخفيف فى النوعين‏.‏
    ثم سألوه العفو والمغفرة والرحمة والنصر على الأعداء؛ فإن بهذه الأربعة تتم لهم النعمة المطلقة، ولا يصفو عيش فى الدنيا والآخرة إلا بها، وعليها مدار السعادة والفلاح، فالعفو متضمن لإسقاط حقه قبلهم ومسامحتهم به، والمغفرة متضمنة لوقايتهم شر ذنوبهم وإقباله عليهم ورضاه عنهم، بخلاف العفو المجرد؛ فإن العافى قد يعفو ولا يقبل على من عفا عنه ولا يرضى عنه، فالعفو ترك محض، والمغفرة إحسان وفضل وجود، والرحمة متضمنة للأمرين مع زيادة الإحسان والعطف والبر، فالثلاثة تتضمن النجاة من الشر والفوز بالخير،والنصرة تتضمن التمكين من إعلان عبادته وإظهار دينه، وإعلاء كلمته، وقهر أعدائه، وشفاء صدورهم منهم،وإذهاب غيظ قلوبهم،وحزازات نفوسهم، وتوسلوا فى خلال هذا الدعاء إليه باعترافهم أنه مولاهم الحق الذى لا مولى لهم سواه، فهو ناصرهم، وهاديهم، وكافيهم، ومعينهم، ومجيب دعواتهم، ومعبودهم‏.‏
    فلما تحققت قلوبهم بهذه المعارف وانقادت وذَلَّتْ لعزة ربها ومولاها وأجابتها جوارحهم، أعطوا كل ما سألوه من ذلك، فلم يسألوا شيئاً منه إلا قال اللّه ـ تعالى‏:‏ ‏(‏قد فعلتُ‏)‏، كما ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم ذلك‏.‏
    فهذه كلمات قصيرة مختصرة فى معرفة مقدار هذه الآيات العظيمة الشأن،الجليلة المقدار، التى خص الله بها رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته من كنز تحت العرش‏.‏
    وبعد، ففيها من المعارف وحقائق العلوم ما تعجز عقول البشر عن الإحاطة به، واللّه المرغوب إليه ألاّ يحرمنا الفهم فى كتابه، إنه رحيم ودود‏.‏
    والحمد للّه وحده، وصلى اللّه وسلم على من لا نبى بعده وآله وصحبه أجمعين‏.‏
    وَقالَ ـ رحمه اللَّه‏:‏
    فصــل
    فى الدعاء المذكور في آخر ‏(‏سورة البقرة‏)‏ وهو قوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا‏}‏ إلى آخرها ‏[‏البقرة‏:‏ 682‏]‏‏.‏
    وقد ثبت فى صحيح مسلم‏:‏ أنه قال ‏(‏قَدْ فَعَلْتُ‏)‏ ، وكذلك فى صحيحه من حديث ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏أعطيتُ فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة من كَنْزٍ تحت العرش لم تقرأ بحرف منها إلا أعطيته‏)‏ وفى صحيحه أيضاً عن ابن مسعود قال‏:‏ لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سِدْرة ينتهى، وهى فى السماء السابعة، وإليها ينتهى ما يعرج من الأرض فيقبض منها، وإليها يتنهى ما يهبط من فوقها فيقبض منها، قال‏:‏‏{‏إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى‏}‏ ‏[‏ النجم‏:‏16‏]‏، قال‏:‏ فراش من ذهب، قال‏:‏فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً‏:‏ أعطى الصلوات الخمس،وأعطى خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن مات من أمته لا يشرك بالله شيئاً المقْحِمَات‏.‏
    قال بعض الناس‏:‏ إذا كان هذا الدعاء قد أجيب، فطلب ما فيه من باب تحصيل الحاصل، وهذا لا فائدة فيه، فيكون هذا الدعاء عبادة محضة ليس المقصود به السؤال، وهذا القول قد قاله طائفة فى جميع الدعاء أنه إن كان المطلوب مقدرا فلا حاجة إلى سؤاله وطلبه، وإن كان غير مقدر لم ينفع الدعاء ـ دعوت أو لم تدع ـ فجعلوا الدعاء تعبداً محضاً، كما قال ذلك طائفة أخرى فى التوكل‏.‏
    وقد بسطنا الكلام على هؤلاء فى غير هذا الموضع، وذكرنا قول من جعل ذلك أمارة أو علامة بناء على أنه ليس فى الوجود سبب يفعل به؛ بل يقترن أحد الحادثين بالآخر، قاله طائفة من القدرية النظار، وأول من عرف عنه ذلك الجَهْم بن صَفْوان ومن وافقه، وذكرنا أن ‏(‏القول الثالث‏)‏ هو الصواب، وهو أن الدعاء والتوكل والعمل الصالح سبب في حصول المدعو به من خير الدنيا والآخرة والمعاصي سبب، وأن الحكم المعلق بالسبب قد يحتاج إلى وجود الشرط وانتفاء الموانع، فإذا حصل ذلك حصل المسبب بلا ريب‏.‏
    والمقصود هنا الكلام في الدعاء الذى قد علم أنه أجيب، فقال بعض الناس‏:‏ هذا تعبد محض لحصول المطلوب بدون دعائنا، فلا يبقى سببا ولا علامة، وهذا ضعيف‏.‏
    أما أولاً‏:‏ فإن العمل الذى لا مصلحة للعبد فيه لا يأمر الله به، وهذا بناء على قول السلف‏:‏ إن اللّه لم يخلق ولم يأمر إلا لحكمة، كما لم يخلق ولم يأمر إلا لسبب‏.‏ والذين ينكرون الأسباب والحكم يقولون‏:‏ بل يأمر بما لا منفعة فيه للعباد البتة، وإن أطاعوه وفعلوا ما أمرهم به، كما بسط الكلام على ذلك فى غير هذا الموضع‏.‏
    والمقصود أن كل ما أمر الله به، أمر به لحكمة، وما نهى عنه نهى لحكمة، وهذا مذهب أئمة الفقهاء قاطبة وسلف الأمة وأئمتها وعامتها، فالتعبد المحض ـ بحيث لا يكون فيه حكمة ـ لم يقع‏.‏ نعم، قد تكون الحكمة فى المأمور به وقد تكون في الأمر، وقد تكون في كليهما، فمن المأمور به ما لو فعله العبد بدون الأمر حصل له منفعة؛ كالعدل، والإحسان إلى الخلق،وصلة الرحم، وغير ذلك‏.‏ فهذا إذ أمر به صار فيه حكمتان حكمة فى نفسه، وحكمة في الأمر، فيبقى له حسن من جهة نفسه ومن جهة أمر الشارع، وهذا هو الغالب على الشريعة، وما أمر الشرع به بعد أن لم يكن إنما كانت حكمته لما أمر به‏.‏
    وكذلك ما نسخ زالت حكمته وصارت فى بدله كالِقبلة‏.‏
    وإذا قدر أن الفعل ليست فيه حكمة أصلاً فهل يصير بنفس الأمر فيه حكمة الطاعة‏؟‏ وهذا جائز عند من يقول بالتعبد المحض وإن لم يقل بجواز الأمر لكل شىء، لكن يجعل من باب الابتلاء والامتحان، فإذا فعل صار العبد به مطيعا، كنهيهم عن الشرب إلا من اغترف غرفة بيده‏.‏
    والتحقيق أن الأمر الذى هو ابتلاء وامتحان يحض عليه من غير منفعة فى الفعل متى اعتقده العبد وعزم على الامتثال حصل المقصود، وإن لم يفعله، كإبراهيم لما أمر بذبح ابنه، وكحديث أقرع وأبرص وأعمى لما طلب منهم إعطاء ابن السبيل، فامتنع الأبرص والأقرع فسُلِبَا النعمة‏.‏ وأما الأعمى فبذل المطلوب، فقيل له‏:‏ أمسك مالك، فإنما ابتليتم، فقد رضى عنك وسخط على صاحبيك‏.‏ وهذا هو الحكمة الناشئة من نفس الأمر والنهى لا من نفس الفعل، فقد يؤمر العبد وينهى وتكون الحكمة طاعته للأمر وانقياده له وبذله للمطلوب، كما كان المطلوب من إبراهيم تقديم حب الله على حبه لابنه، حتى تتم خُلَّته به قبل ذبح هذا المحبوب للّه، فلما أقدم عليه وقوى عزمه بإرادته لذلك، تحقق بأن الله أحب إليه من الولد وغيره، ولم يبق فى قلبه محبوب يزاحم محبة اللّه‏.‏
    وكذلك أصحاب طالوت، ابْتُلُوا بالامتناع من الشرب ليحصل من إيمانهم وطاعتهم ما تحصل به الموافقة، والابتلاء هاهنا كان بنهى لا بأمر، وأما رمى الجمار والسعى بين الصفا والمروة، فالفعل فى نفسه مقصود لما تضمنه من ذكر الله‏.‏
    وقد بين النبى صلى الله عليه وسلم هذا بقوله فى الحديث الذى فى السنن‏:‏ ‏(‏إنما جعل السعى بين الصفا والمروة ورمى الجمار لإقامة ذكر الله‏)‏ رواه أبو داود والترمذى وغيرهما‏.‏ فبين النبى صلى الله عليه وسلم أن هذا له حكمة، فكيف يقال‏:‏ لا حكمة، بل هو تعبد وابتلاء محض‏.‏
    وأما فعل مأمور فى الشرع ليس فيه مصلحة ولا منفعة ولا حكمة إلا مجرد الطاعة، والمؤمنون يفعلونه، فهذا لا أعرفه، بل ما كان من هذا القبيل نسخ بعد العزم، كما نسخ إيجاب الخمسين صلاة إلى خمس‏.‏
    والمعتزلة تنكر الحكمة الناشئة من نفس الأمر؛ ولهذا لم يجوزوا النسخ قبل التمكن، وقد وافقهم على ذلك طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم، كأبى الحسن التميمى ‏[‏هو أبو الحسن عبد العزيز بن الحارث بن آسد بن الليث التميمى، فقيه حنبلى، له إطلاع على مسائل الخلاف ‏.‏ صنف كتبا فى الآصول والفرائع، ولد سنة 317هـ، وتوفى سنة 371هـ‏]‏، وبنوه على أصلهم، وهو أن الأمر عندهم كاشف عن حسن الفعل الثابت فى نفسه لا مثبت لحسن الفعل، وأن الأمر لا يكون إلا بحسن، وغلطوا فى المقدمتين، فإن الأمر وإن كان كاشفا عن حسن الفعل فالفعل بالأمر يصير له حسن آخر غير الحسن الأول، وإذا كان مقصود الآمر الامتحان للطاعة فقد يأمر بما ليس بحسن فى نفسه وينسخه قبل التمكن إذا حصل المقصود من طاعة المأمور وعزمه وانقياده، وهذا موجود فى أمر الله وأمر الناس بعضهم بعضا‏.‏
    والجهمية تنكر أن يكون فى الفعل حكمة أصلا فى نفسه ولا فى نفس الأمر بناء على أصلهم‏:‏ أنه لا يأمر لحكمة، وعلى أن الأفعال بالنسبة إليه سواء، ليس بعضها حسنا وبعضها قبيحا، وكـلا الأصلين قد وافقتهم عليه الأشعرية ومن اتبعهم من الفقهاء، كأصحاب الشافعى ومالك وأحمد وغيرهم، وهما أصلان مبتدعان؛ فإن مذهب السلف والأئمة أن الله يخلق لحكمة ويأمر لحكمة، ومذهب السلف والأئمة أن اللّه يحب الإيمان والعمل الصالح ويرضى ذلك، ولا يحب الكفر والفسوق والعصيان، وإن كان قد شاء وجود ذلك، وقد بسط هذا فى موضع آخر‏.‏
    وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏58‏]‏، فإن نفس السجود خضوع للّه،ولو فعله الإنسان للّّه مع عدم علمه أنه أمر به انتفع، كالسحرة الذين سجدوا قبل الأمر بالسجود‏.‏
    وكذلك قول العبد‏:‏ حُطَّ عنا خطايانا، دعاء للّه وخضوع، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏186‏]‏، وهذه الأفعال المدعو بها فى آخر البقرة أمور مطلوبة للعباد‏.‏
    وقد أجيب بجواب آخر وهو‏:‏ أن اللّه تعالى إذا قدر أمراً فإنه يقدر أسبابه، والدعاء من جملة أسبابه، كما أنه لما قدر النصر يوم بَدْر، وأخبر النبى صلى الله عليه وسلم قبل وقوعه أصحابه بالنصر وبمصارع القوم، كان من أسباب ذلك استغاثة النبى صلى الله عليه وسلم ودعاؤه، وكذلك ما وعده به ربه من الوسيلة، وقد قضى بها له، وقد أمر أمته بطلبها له، وهو ـ سبحانه ـ قدرها بأسباب، منها ما سيكون من الدعاء‏.‏
    وعلى هذا، فالداخل فى السبب هو ما وقع من الدعاء المأمور به واللّه أعلم بذلك، فيثيب هذا الداعى على ما فعله من الدعاء بجعله تمام السبب، ولا يكون على هذا الدعاء سبباً فى اختصاصه بشىء من ذلك، بل فى حصوله لمجموع الأمة، لكن هو يثاب على الدعاء لكونه من جملة الأسباب؛ وهذا لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما من عبد يدعو اللّه بدعوة ليس فيها إثم ولا قَطِعيةُ رَحِمٍ إلا أعطاه الله بها إحدى خِصال ثلاث‏:‏ إما أن يُعجِّل له دعوته، وإما أن يَدَّخِر له من الخير مثلها، وإمـا أن يدفـع عنه مـن البلاء مثلها‏)‏‏.‏ قـالوا‏:‏ يا رسول اللّه، إذا نُكْثِر‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏الله أكثر‏)‏‏.‏ فالداعى بهذا كالداعى بالوسيلة يحصل له من الأجر ما يخصه كالداعي للأمة ولأخيه الغائب، ودعاؤه من أسباب الخير التى بها رحمة الأمة، كما يثاب على سؤاله الوسيلة للنبى صلى الله عليه وسلم بأن تحل عليه الشفاعة يوم القيامة‏.‏
    وهنا جواب ثالث وهو‏:‏ أن كل من دعا بهذا الدعاء حصل له من المدعو المطلوب ما لا يحصل بدون المطلوب من الدعاء، فيكون الدعاء به كدعائه بسائر مطالبه من المغفرة والرحمة، وليس هو كدعاء الغائب للغائب، فإن الملك يقول هناك‏:‏‏(‏ولك بمثله‏)‏، فيدعو له الملك بمثل ما دعا به للغائب، وهنا هو داع لنفسه وللمؤمنين‏.‏
    وبيان هذا أن الشرع، وإن كان قد استقر بموت النبى صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر أن اللّه تجاوز لأمته عن الخطأ والنسيان، وقد أخبر أن الرسول يضع عن أمته إصْرَهم والأغلال التى كانت عليهم،وسأل ربه لأمته ألا يسلط عليهم عدواً من غيرهم فيجتاحهم فأعطاه ذلك، لكن ثبوت هذا الحكم فى حق آحاد الأمة قد لا يحصل إلا بطاعة اللّه ورسوله، فإذا عصى اللّه ذلك الشخص العاصى عوقب عن ذلك بسلب هذه النعمة، وإن كانت الشريعة لم تنسخ‏.‏
    يبين هذا أن فى هذا الدعاء سؤال الله بالعفو والمغفرة والرحمة والنصر على الكفار، ومعلوم أن هذا ليس حاصلا لكل واحد من أفراد الأمة، بل منهم من يدخل النار، ومنهم من ينصر عليه الكفار، ومنهم من يسلب الرزق، لكونهم فرطوا فى طاعة الله ورسوله، فيسلبون ذلك بقدر ما فرطوا أو قصروا‏.‏
    وقول الله‏:‏ ‏(‏قَدْ فَعَلْتُ‏)‏ يقال فيه شيئان‏:‏
    أحدهما‏:‏ أنه قد فعل ذلك بالمؤمنين المذكورين فى الآية، والإيمان المطلق يتضمن طاعة اللّه ورسوله‏.‏ فمن لم يكن كذلك نقص إيمانه الواجب فيستحق من سلب هذه النعم بقدر النقص، ويعوق اللّه عليه ملاذ ذلك، ولم يستحق من الجزاء ما يستحقه من قام بالإيمان الواجب‏.‏
    الثانى‏:‏ أن يقال‏:‏ هذا الدعاء استجيب له فى جملة الأمة، ولا يلزم من ذلك ثبوته لكل فرد، وكلا الأمرين صحيح؛ فإن ثبوت هذا المطلوب لجملة الأمة حاصل، ولولا ذلك لأهلكوا بعذاب الاستئصال كما أهلكت الأمم قبلهم، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏سألت ربى لأمتى ثلاثا فأعطانى اثنتين، ومنعنى واحدة‏:‏ سألته ألا يهلك أمتى بسَنَة عامة فأعطانيها، وسألته ألا يسلط عليهم عدوًا من غيرهم، فيجتاحهم فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بَأْسَهم بينهم فمنعنيها، وقال‏:‏يا محمد،إنى إذا قضيتُ قضاء لم يُرَدَّ‏)‏‏.‏
    وكذلك فى الصحيحين‏:‏ لما نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ‏}‏ قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أعوذ بوجهك‏)‏‏.‏ ‏{‏أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ قال‏:‏ ‏(‏أعوذ بوجهك‏)‏ ‏{‏أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏65‏]‏ قال‏:‏‏(‏هاتان أهْوَن‏)‏‏.‏ وهذا لأنه لا بد أن تقع الذنوب من هذه الأمة، ولابد أن يختلفوا؛ فإن هذا من لوازم الطبع البشرى، ولا يمكن أن يكون بنو آدم إلا كذلك؛ ولهذا لم يكن ما وقع فيها من الاختلاف والقتال والذنوب دليلا على نقصها، بل هي أفضل الأمم، وهذا الواقع بينهم من لوازم البشرية، وهو فى غيرها أكثر وأعظم، وخير غيرها أقل والخير فيها أكثر، والشر فيها أقل، فكل خير فى غيرها فهو فيها أعظم، وكل شر فيها فهو فى غيرها أعظم‏.‏
    وأما حصول المطلوب للآحاد منها فلا يلزم حصوله لكل عاص؛ لأنه لم يقم بالواجب، ولكن قد يحصل للعاصى من ذلك بحسب ما معه من طاعة اللّه تعالى، وأما حصول المغفرة والعفو والرحمة بحسب الإيمان والطاعة فظاهر؛ لأن هذا من الأحكام القدرية الخلقية من جنس الوعد والوعيد، وهذا يتنوع بتنوع الإيمان والعمل الصالح‏.‏
    وأما دفع المؤاخذة بالخطأ والنسيان، ودفع الآصار، فإن هذا قد يشكل لأنه من باب الأحكام الشرعية أحكام الأمر والنهى‏.‏
    فيقال‏:‏ الخطأ والنسيان المرفوع عن الأمة مرفوع عن عصاة الأمة؛فإن العاصى لا يأثم بالخطأ والنسيان؛ فإنه إذا أكل ناسياً أتم صومه، سواء كان مطيعاً فى غير ذلك أو عاصياً، فهذا هو الذى يشكل، وعنه جوابان‏:‏
    أحدهما‏:‏أن الذنوب والمعاصى قد تكون سبباً لعدم العلم بالحنيفية السَّمْحَة؛فإن الإنسان قد يفعل شيئاً ناسيًا أو مخطئاً ويكون لتقصيره فى طاعة الله علماً وعملا،ولا يعلم أن ذلك مرفوع عنه؛إما لجهله،وإما لكونه ليس هناك من يفتيه بالرخصة فى الحنيفية السمحة‏.‏
    والعلماء قد تنازعوا فى كثير من مسائل الخطأ والنسيان، واعتقد كثير منهم بطلان العبادات أو بعضها به،كمن يبطل الصوم بالنسيان،وآخرون بالخطأ،وكذلك الإحرام، وكذلك الكلام فى الصلاة،وكذلك إذا فعل المحلوف عليه ناسياً أو مخطئاً، فإذا كان اللّه ـ سبحانه ـ قد نفى المؤاخذة بالخطأ والنسيان،وخفى ذلك فى مواضع كثيرة على كثير من علماء المسلمين،كان هذا عقوبة لمن لم يجد فى نفسه ثقة إلا هؤلاء فيفتونه بما يقتضى مؤاخذته بالخطأ والنسيان،فلا يكون مقتضى هذا الدعاء حاصلا فى حقه لعدم العلم،لالنسخ الشريعة‏.‏
    واللّه ـ سبحانه ـ جعل مما يعاقب به الناس على الذنوب سلب الهدى والعلم النافع، كقوله‏:‏‏{‏وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏155‏]‏،وقال‏:‏‏{‏وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 88‏]‏، وقال‏:‏‏{‏وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 109، 110‏]‏ وقال‏:‏‏{‏فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏10]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 5‏]‏‏.‏
    وهذا كما أنه حرم على بنى إسرائيل طيبات أحلت لهم لأجل ظلمهم وبغيهم، فشريعة محمد لا تنسخ ولا تعاقب أمته كلها بهذا، ولكن قد تعاقب ظلمتهم بهذا، بأن يحرموا الطيبات، أو بتحريم الطيبات؛ إما تحريماً كونياً بألا يوجد غيثهم، وتهلك ثمارهم، وتقطع المِيرَة عنهم، أو أنهم لا يجدون لذة مأكل ولا مشرب ولا منكح ولا ملبس ونحوه كما كانوا يجدونها قبل ذلك، وتسلط عليهم الغُصَص ‏[‏جمع غُصَّة،وهى ما اعترض فى الحلق ـ من طعام وشراب وغيرهما ـ فأشرق‏.‏ انظر‏:‏ القاموس، مادة‏:‏ غصص‏]‏ وما ينغص ذلك ويعوقه‏.‏ ويجرعون غصص المال والولد والأهل، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 55‏]‏ وقـال‏:‏‏{‏أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ‏}‏ ‏[‏ المؤمنون‏:‏ 55،56‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏15‏]‏، فيكون هذا كابتلاء أهل السبت بالحيتان‏.‏
    وإما أن يعاقبوا باعتقاد تحريم ما هو طيب حلال لخفاء تحليل اللّه ورسوله عندهم، كما قد فعل ذلك كثير من الأمة، اعتقدوا تحريم أشياء فروج عليهم بما يقعون فيه من الأيمان والطلاق، وإن كان الله ورسوله لم يحرم ذلك؛ لكن لما ظنوا أنها محرمة عليهم عوقبوا بحرمان العلم الذى يعلمون به الحل، فصارت محرمة عليهم تحريماً كونياً، وتحريماً شرعياً فى ظاهر الأمر؛ فإن المجتهد عليه أن يقول ما أدى إليه اجتهاده، فإذا لم يؤد اجتهاده إلا إلى تحريم هذه الطيبات لعجزه عن معرفة الأدلة الدالة على الحل، كان عجزه سبباً للتحريم فى حق المقصرين فى طاعة الله‏.‏
    وكذلك اعتقدوا تحريم كثير من المعاملات التى يحتاجون إليها كضمان البساتين، والمشاركات وغيرها؛ وذلك لخفاء أدلة الشرع، فثبت التحريم فى حقهم بما ظنوه من الأدلة، وهذا كما أن الإنسان يعاقب بأن يخفى عليه من الطعام الطيب والشراب الطيب ما هو موجود وهو مقدور عليه لو علمه، لكن لا يعرف بذلك عقوبة له، وإن العبد ليحَرم الرزق بالذنب يُصيبه، وقد قـال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏2، 3‏]‏ فهـو سبحانه إنمـا ضمن الأشياء على وجهها واستقامتها للمتقين، كما ضمن هذا للمتقين‏.‏
    فتبين أن المقصرين فى طاعته من الأمة قد يؤاخذون بالخطأ والنسيان، ومن غير نسخ بعد الرسول، لعدم علمهم بما جاء به الرسول من التيسير، ولعدم علم من عندهم من العلماء بذلك؛ ولهذا يوجد كثير ممن لا يصلى فى السفر قصراً يرى الفطر فى السفر حراما فيصوم فى السفر مع المشقة العظيمة عليه، وهذا عقوبة له لتقصيره فى الطاعة، لكنه مما يكفر اللّه به من خطاياه ما يكفره، كما يكفر خطايا المؤمنين بسائر مصائب الدنيا‏.‏
    وكذلك منهم من يعتقد التربيع فى السفر واجباً فيربع فيبتلى بذلك لتقصيره فى الطاعة، ومنهم من يعتقد تحريم أمور كثيرة من المباحات التى بعضها مباح بالاتفاق، وبعضها متنازع فيه، لكن الرسول لم يحرمه؛ فهؤلاء الذين اعتقدوا وجوب ما لم يوجبه الله ورسوله، وتحريم ما لم يحرمه حمل عليهم إصراً، ولم توضع عنهم جميع الآصار والأغلال وإن كان الرسول قد وضعها، لكنهم لم يعلموها‏.‏
    وقد يبتلون بمطاع يلزمهم ذلك فيكون آصاراً وأغلالا من جهة مطاعهم؛ مثل حاكم، ومفت، وناظر وقف، وأمير ينسب ذلك إلى الشرع؛ لاعتقاده الفاسد أن ذلك من الشرع ويكون عدم علم مطاعهم تيسير اللّه عليهم عقوبة فى حقهم لذنوبهم، كما لو قدر أنه سار بهم فى طريق يضرهم، وعدل بهم عن طريق فيه الماء والمرعى لجهله، لا لتعمده مضرتهم، أو أقام بهم فى بلد غالى الأسعار مع إمكان المقام ببلد آخر‏.‏
    وهذا لأن الناس كما قد يبتلون بمطاع يظلمهم ويقصد ظلمهم، يبتلون أيضا بمطاع يجهل مصلحتهم الشرعية والكونية، فيكون جهل هذا من أسباب عقوبتهم، كما أن ظلم ذلك من أسباب مضرتهم، فهؤلاء لم ترفع عنهم الآصار والأغلال لذنوبهم ومعاصيهم، وإن كان الرسول ليس فى شرعه آصار وأغلال؛ فلهذا تَسلَّط عليهم حكام الجور والظلم، وتساق إليهم الأعداء، وتقاد بسلاسل القهر والقدر، وذلك من الآصار والأغلال التى لم ترفع عنهم مع عقوبات لا تحصى؛ وذلك لضعف الطاعة فى قلوبهم، وتمكن المعاصى وحب الشهوات فيها، فإذا قالوا‏:‏‏{‏رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏286‏]‏ دخل فيه هذا‏.‏
    وأما قوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏286‏]‏، فعلى قولين‏:‏
    قيل‏:‏ هو من باب التحميل القدرى، لا من باب التكليف الشرعى، أى‏:‏ لا تبتلينا بمصائب لا نطيق حملها، كما يبتلى الإنسان بفقر لا يطيقه، أو مرض لا يطيقه، أو حدث، أو خوف، أو حب أو عشق لا يطيقه، ويكون سبب ذلك ذنوبه‏.‏
    وهذا مما يبين أن الذنوب عواقبها مذمومة مطلقاً‏.‏
    وقوله‏:‏‏{‏مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏123‏]‏، و ‏{‏فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏7، 8‏]‏ قول حق، وقال تعالى فى قصة قوم لوط‏:‏ ‏{‏وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 37‏]‏‏.‏
    فما من أحد يبتلى بجنس عملهم إلا ناله شىء من العذاب الأليم، حتى تعمد النظر يورث القلب علاقة يتعذب بها الإنسان، وإن قويت حتى صارت غرامًا وعشقاً زاد العذاب الأليم، سواء قدر أنه قادر على المحبوب أو عاجز عنه؛ فإن كان عاجزاً فهو فى عذاب أليم من الحزن والهَمّ والغَمّ، وإن كان قادراً فهو فى عذاب أليم من خوف فراقه، ومن السعى فى تأليفه وأسباب رضاه؛ فإن نزل به الموت أو افتقر تضاعف علىه العذاب، وإن صار إلى غيره استبدالاً به أو مشاركة قوى عذابه، فإن هذا الجنس يحصل فيه من العذاب ما لا يحصل فى عشق البغايا وما يحصل مثله فى الحلال، وإن حصل في الحلال نوع عذاب كان أخف من نظيره، وكان ذلك سبب ذنوب أخرى‏.‏
    فإذا دعا الإنسان بهذا الدعاء ـ يخص نفسه ويعم المسلمين ـ فله من ذلك أعظم نصيب، كيف لا وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الآيتان من آخر سورة البقرة ما قرأ بهما أحد فى ليلة إلا كفَتَاهُ‏)‏ وكيف لا تكفيانه وما دعا به من ذلك لم يحصل له إلا ما حصل لسائر المؤمنين الذين لم يقرؤوهما، فإن الداعى بهذا الدعاء له منه نصيب يخصه كسائر الأدعية‏.‏
    ومما يبين ذلك أن الصحابة إنما استجيب لهم هذا الدعاء لما التزموا الطاعة للّه مطلقاً بقولهم‏:‏ ‏{‏سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 285‏]‏، ثم أنزل هذا الدعاء، فدعوا به فاستجيب لهم‏.‏
    ولهذا كانوا فى الحنيفية السمحة على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وكانوا فيها على عهد أبى بكر خيراً مما كانوا فيها على عهد عمر، فلما كانوا فى زمن عمر حدث من بعضهم ذنوب أوجبت اجتهاد الإمام فى نوع من التشديد عليهم، كمنعهم من مُتْعَة الحج، وكإيقاع الثلاث إذا قالوها بكلمة، وكتغليظ العقوبة فى الخمر، وكان أطوعهم للّه وأزهدهم ـ مثل أبى عبيدة ـ ينقاد له عمر ما لا ينقاد لغيره، وخفى عليهم بعض مسائل الفرائض وغيرها، حتى تنازعوا فيها، وهم مؤتلفون متحابون، كل منهم يقر الآخر على اجتهاده‏.‏
    فلما كان فى آخر خلافة عثمان زاد التغير والتوسع فى الدنيا، وحدثت أنواع من الأعمال لم تكن على عهد عمر، فحصل بين بعض القلوب تنافر حتى قتل عثمان، فصاروا فى فتنة عظيمة قد قال تعالى‏:‏‏{‏وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏25‏]‏، أى هذه الفتنة لا تصيب الظالم فقط، بل تصيب الظالم والساكت عن نهيه عن الظلم، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يَعُمَّهم اللّه بعقاب منه‏)‏‏.‏
    وصار ذلك سبباً لمنعهم كثيراً من الطيبات، وصاروا يختصمون فى متعة الحج ونحوها مما لم تكن فيه خصومة على عهد عمر، فطائفة تمنع المتعة مطلقاً كابن الزبير، وطائفة تمنع الفسخ كبنى أمية وأكثر الناس، وصاروا يعاقبون مَنْ تمتع، وطائفة أخرى توجب المتعة، وكل منهم لا يقصد مخالفة الرسول، بل خفي عليهم العلم، وكان ذلك سببه ما حدث من الذنوب، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خرجتُ لأخبركم بليلة القَدْر فَتَلاَحا رجلان، فُرفِعَتْ، لعل ذلك أن يكون خيراً لكم‏)‏‏.‏ أى قد يكون إخفاؤها خيراً لكم لتجتهدوا فى ليالى العشر كلها؛ فإنه قد يكون إخفاء بعض الأمور رحمة لبعض الناس‏.‏
    والنزاع فى الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يفض إلى شر عظيم من خفاء الحكم؛ ولهذا صنف رجل كتابا سماه ‏(‏كتاب الاختلاف‏)‏ فقال أحمد‏:‏ سَمِّه ‏(‏كتاب السعة‏)‏ وإن الحق فى نفس الأمر واحد، وقد يكون من رحمة اللّه ببعض الناس خفاؤه لما فى ظهوره من الشدة عليه، ويكون من باب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏101‏]‏‏.‏
    وهكذا ما يوجد فى الأسواق من الطعام والثياب قد يكون فى نفس الأمر مغصوبا، فإذا لم يعلم الإنسان بذلك كان كله له حلالا لا إثم عليه فيه بحال، بخلاف ما إذا علم، فخفاء العلم بما يوجب الشدة قد يكون رحمة، كما أن خفاء العلم بما يوجب الرخصة قد يكون عقوبة، كما أن رفع الشك قد يكون رحمة، وقد يكون عقوبة، والرخصة رحمة وقد يكون مكروه النفس أنفع كما فى الجهاد‏:‏ ‏{‏وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 216‏]‏‏.‏
    والمقصود هنا أن من الذنوب ما يكون سبباً لخفاء العلم النافع أو بعضه؛ بل يكون سبباً لنسيان ما علم، ولاشتباه الحق بالباطل تقع الفتن بسبب ذلك‏.‏
    واللّه ـ سبحانه ـ كان أسكن آدم وزوجه الجنة، وقال لهما‏:‏‏{‏وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏35 ،36‏]‏، فكل عداوة كانت فى ذريتهما وبلاء ومكروه وتكون إلى قيام الساعة وفى النار يوم القيامة سببها الذنوب ومعصية الرب تعالى‏.‏
    فالإنسان إذا كان مقيما على طاعة اللّه باطنا وظاهراً كان فى نعيم الإيمان والعلم وارد عليه من جهاته، وهو فى جنة الدنيا، كما فى الحديث‏:‏ ‏(‏إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا‏)‏‏.‏ قيل‏:‏ وما رياض الجنة‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏مجالس الذكر‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏ما بين بيتى ومنبرى روضة من رياض الجنة‏)‏، فإنه كان يكون هنا فى رياض العلم والإيمان‏.‏
    وكلما كان قلبه فى محبة اللّه وذكره وطاعته كان معلقاً بالمحل الأعلى، فلا يزال فى علو ما دام كذلك، فإذا أذنب هبط قلبه إلى أسفل، فلا يزال فى هبوط ما دام كذلك، ووقعت بينه وبين أمثاله عداوة، فإن أراد الله به خيراً ثاب وعمل فى حال هبوط قلبه إلى أن يستقيم فيصعد قلبه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 37‏]‏ فتقوى القلوب هى التى تنال اللّه،كما قال‏:‏ ‏{‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏10‏]‏،فأما الأمور المنفصلة عنا من اللحوم والدماء فإنها لا تنال اللّه‏.‏
    والباطنية ـ المنكرون لخلق العالم فى ستة أيام، ومعاد الأبدان ـ الذين يجعلون للقرآن تأويلا يوافق قولهم، عندهم ما ثَمَّ ‏(‏جَنَّة‏)‏ إلا لذة ما تتصف بها النفس من العلم والأخلاق الحميدة، وما ثَمَّ ‏(‏نار‏)‏ إلا ألم ما تتصف به النفس من الجهل والأخلاق الذميمة السيئة، فنار النفوس ألمها القائم بها كحسراتها لفوات العلم، أو لفوات الدنيا المحبوبة لها، وحجبها إنما هى ذنوبها‏.‏
    وهذا الكلام مما يذكره أبو حامد فى ‏(‏المضنون به على غير أهله‏)‏،لكن قد يقول هذا‏:‏ليس هو عذاب القبر المذكور فى الأجسام،بل ذاك أمر آخر مما بينه أهل السنة،ولا نعيم عندهم إلا ما يقوم بالنفس من هذا؛ولهذا ليس عندهم نعيم منفصل عن النفس ولا عذاب‏.‏
    وهذا القول من أفسد الأقوال شرعًا وعقلا؛ فإن الناس فى الدنيا يثابون ويعاقبون بأمور منفصلة عنهم، فكيف فى دار الجزاء‏؟‏ ولكن الذى أثبتوه من هذا وهذا منه ما هو حق، ولكن الباطل جحدهم ما جحدوه مما أخبر الله به ورسوله، فهؤلاء عندهم أن آدم لم يكن إلا فى جنة العلم، وهبوطه انخفاض درجته فى العلم، وهذا كذب، ولكن ما أثبتوه من الحق حق،وقصة آدم تدل عليه بطريق الاعتبار الذي تسميه الصوفية الإشارة، لا أنه هو المراد بالآية، لكن قد دل عليه آيات أخر تدل على أن من كذب بالحق عوقب بأن يطبع على قلبه فلا يفهم العلم، أو لا يفهم المراد منه، وأنه يسلط عليه عدوه ويجد ذلاً، كما قال تعالى عن اليهود‏:‏ ‏{‏وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏61‏]‏، ‏{‏ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏61‏]‏‏.‏
    ولا ريب أن لذة العلم أعظم اللذات، واللذة التى تبقى بعد الموت وتنفع فى الآخرة هى لذة العلم بالّله والعمل له، وهو الإيمان به، وهم يجعلون ذلك الوجود المطلق‏.‏
    وأيضا، فنفس العلم به إن لم يكن معه حب له وعبادة له، بل كان مع حب لغيره كائنا من كان، فإن عذاب هذا قد يكون من أعظم العذاب فى الدنيا والآخرة، وهم لا يجعلون كمال اللذة إلا فى نفس العلم‏.‏
    وأيضاً فاقتصارهم على اللذة العقلية خطأ، والنصارى زادوا عليهم السمع والشم، فقالوا‏:‏ يتمتعون بالأرواح المتعشقة والنغمات المطربة، ولم يثبتوا هم ولا اليهود الأكل والشرب ولا النكاح ـ وهى لذة اللمس ـ والمسلمون أثبتوا جميع أنواع اللذات؛ سمعاً، وبصراً، وشماً، وذوقا، ولمسا، للروح والبدن جميعاً، وكان هذا هو الكمال، لا ما يثبته أهل الكتاب ومن هو شر منهم من الفلاسفة الباطنية، وأعظم لذات الآخرة لذة النظر إلى اللّه ـ سبحانه ـ كما فى الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه‏)‏، وهو ثمرة معرفته وعبادته فى الدنيا، فأطيب ما فى الدنيا معرفته، وأطيب ما فى الآخرة النظر إليه ـ سبحانه ـ ولهذا كان التجلى يوم الجمعة فى الآخرة على مقدار صلاة الجمعة فى الدنيا‏.‏
    وأبو حامد يذكر فى كتبه هو وأمثاله ‏(‏الرؤية‏)‏،وأنها أفضل أنواع النعيم، ويذكر كشف الحجُب، وأنهم يرون وجه الله، ولكن هذا كله يريد به ما تقوله الجهمية والفلاسفة؛ فإن الرؤية عندهم ليست إلا العلم، لكن كمـا أن الإنسان قد يرى الشىء بعينيه، وقد يمثل له خياله إذا غاب عنه فهكذا العلم‏.‏ ففى الدنيا ليس عندهم من العلم إلا مثال كالخيال في الحساب، وفى الآخرة يعلمونه بلا مثال، وهو عندهم‏(‏وجود لا داخل العالم ولا خارجه‏)‏، و‏(‏كشف الحجاب‏)‏ عندهم رفع المانع الذى فى الإنسان من الرؤية، وهو أمر عدمي، فحقيقته جعل العبد عالماً، وهذا كله مما تقول به الفلاسفة والباطنية‏.‏
    وهؤلاء إنما يأمرون بالزهد فى الدنيا لينقطع تعلق النفس بها وقت فراق النفس، فلا تبقى النفس مفارقة لشىء يحبه، لكن أبو حامد لا يبيح محظورات الشرع قط، بل يقول‏:‏ قتل واحد من هؤلاء خير من قتل عدد كثير من الكفار‏.‏
    وأما هؤلاء فالواصل عندهم إلى العلم المطلوب قد يبيحون له محظورات الشرائع، حتى الفواحش والخمر وغيرها، إذا كانوا ممن يعتقد تحريم الخمر، وإلا فغالب هؤلاء لا يوجبون شريعة الإسلام، بل يجوزون التهود والتنصر، وكل من كان من هؤلاء واصلا إلى علمهم فهو سعيد‏.‏
    وهكذا تقول الاتحادية منهم؛ كابن سبعين، وابن هود، والتلمسانى، ونحوهم، ويدخلون مع النصارى بِيَعَهُم ‏[‏جمع بيعة، وهى متعبد النصارى‏]‏، ويصلون معهم إلى الشرق، ويشربون معهم ومع اليهود الخمر، ويميلون إلى دين النصارى أكثر من دين المسلمين لما فيه من إباحة المحظورات؛ ولأنهم أقرب إلى الاتحاد والحلول؛ ولأنهم أجهل فيقبلون ما يقولونه أعظم من قبولهم لقول المسلمين،وعلماء النصارى جهال إذا كان فيهم متفلسف عظموه،وهؤلاء يتفلسفون‏.‏
    والواحد من هؤلاء يفرح إذا قيل له‏:‏ لست بمسلم، ويحكى عن نفسه كما كان أحمد الماردينى وهو من أصحاب ابن عربى يحكى عن نفسه أنه دخل إلى بعض ديارات النصارى ليأخذ منهم ما يأكله هو ورفيقه، فأخذ بعضهم يتكلم فى المسلمين، ويقول‏:‏ يقولون‏:‏ كذا وكذا، فقال له آخر‏:‏ لا تتكلم فى المسلمين فهذا واحد منهم، فقال ذلك المتكلم‏:‏ هذا وجهه وجه مسلم‏؟‏ أى ليس هذا بمسلم، فصار يحكيها الماردينى أن النصرانى قال عنه‏:‏ ليس هذا بمسلم، ويفرح بقول النصرانى ويصدقه فيما يقول، أى ليس هو بمسلم‏.‏
    والمتفلسفة يصرحون بهذا‏.‏ يقولون‏:‏ قلنا‏:‏ كذا وكذا، وقال المسلمون‏:‏ كذا وكذا، وربما قالوا‏:‏ قلنا‏:‏ كذا، وقال المِلِّيُّون‏:‏ كذا أى‏:‏ أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى وكتبهم مشحونة بهذا، ولا بد لأحدهم عند أهل الملل أن يكون على دينهم‏.‏
    لكن دخولهم فى هذا كدخولهم فى سياسة الملوك، كما كانوا مع الترك الكفار، وكانوا مع هولاكو ملك المغول الكفار، ومع القان الذى هو أكبر منه خليفة جنكزخان ببلاد الخطا، وانتساب الواحد منهم هناك إلى الإسلام انتساب إلى إسلام يرضاه ذلك الملك بحسب غرضه، كما كان النصير الطوسى ‏[‏هو محمد بن محمد بن الحسن نصير الدين الطوسى، فيلسوف، كان رأسا فى العلوم العقلية، ذا منزلة من هولاكو،فكان يطيعه فيما يشير به عليه،اتخذ خزانة ملأها من الكتب التى نهبت من بغداد والشام والجزيرة، اجتمع فيها نحو أربعمائة ألف مجلد، ولد بطوس سنة 597 هـ، وتوفى سنة 672 هـ‏]‏ وأمثاله مع هولاكو ملك الكفار، وهو الذى أشار عليهم بقتل الخليفة ببغداد لما استولى عليها وأخذ كتب الناس، ملكها ووقفها، وأخذ منها ما يتعلق بغرضه، وأفسد الباقى، وبنى الرصد ووضعها فيه، وكان يعطى من وقف المسلمين لعلماء المشركين البخشية والطوينية،ويعطى فى رصده الفيلسوف والمنجم والطبيب أضعاف ما يعطى الفقيه، ويشرب هو وأصحابه الخمر فى شهر رمضان، ولا يصلون‏.‏
    وكذلك كان بالشام ومصر طائفة مع تصوفهم وتألههم وتزهدهم يشرب أحدهم الخمر فى نهار رمضان،وتارة يصلون وتارة لا يصلون‏.‏ فإنهم لا يدينون بإيجاب واجبات الإسلام وتحريم محرماته عليهم، بل يقولون‏:‏ هذا للعامة والأنبياء، وأما مثلنا فلا يحتاج إلى الأنبياء‏.‏ ويحكون عن بعض الفلاسفة أنه قيل له‏:‏ قد بعث نبى، فقال‏:‏ لو كان الناس كلهم مثلى ما احتاجوا إلى نبى‏.‏ ومثل هذه الحكاية يحكيها من يكون رئيس الأطباء ولا يعرف الزندقة ولا يدرى مضمون هذه الكلمة ما هو؛ لجهله بالنبوات‏.‏ وقيل لرئيسهم الأكبر فى زمن موسى ـ عليه السلام‏:‏ ألا تأتيه فتأخذ عنه‏؟‏ فقال‏:‏ نحن قوم مهديون فلا نحتاج إلى من يهدينا‏.‏
    وأما ما ذكروه من حصول اللذة فى القلب والنعيم بالإيمان بالله والمعرفة به فهو حق، وهو سبب دخول الجنة، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصُفِّدَت الشياطين‏)‏‏.‏ وما ذاك إلا لأنه فى شهر رمضان تنبعث القلوب إلى الخير والأعمال الصالحة التى بها وبسببها تفتح أبواب الجنة، ويمتنع من الشرور التى بها تفتح أبواب النار، وتصفد الشياطين فلا يتمكنون أن يعملوا ما يعملونه فى الإفطار؛ فإن المصفد هو المقيد، لأنهم إنما يتمكنون من بنى آدم بسبب الشهوات، فإذا كُفّوا عن الشهوات صفدت الشياطين‏.‏
    والجنة والنار التى تفتح وتغلق غير ما فى القلوب، ولكن ما فى القلوب سبب له ودليل عليه وأثر من آثاره،وقد قال تعالى‏:‏‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏10‏]‏، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الذى يشرب فى آنية الذهب والفضة إنما يجرجر فى بطنه نار جهنم‏)‏‏.‏ فقيل‏:‏ يأكلون ويشربون ما سيصير ناراً‏.‏ وقيل‏:‏ هو سبب النار ‏.‏ واللّه ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم‏.‏
    وَقالَ شيخ الإسلام أبو العباس تقى الدين ابن تيمية ـ قدس اللّه روحه ونور ضريحه ‏:‏
    فصــل
    فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏18،19‏]‏، قد تنوعت عبارات المفسرين فى لفظ ‏{‏شّهٌد‏}‏ فقالت طائفة ـ منهم مجاهد والفراء وأبو عبيدة ـ‏:‏ أى‏:‏ حكم وقضى‏.‏ وقالت طائفة ـ منهم ثعلب والزجاج ـ‏:‏ أى‏:‏ بين‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ أى‏:‏ أعلم‏.‏ وكذلك قالت طائفة‏:‏ معنى شهادة اللّه‏:‏ الإخبار والإعلام، ومعنى شهادة الملائكة والمؤمنين‏:‏ الإقرار‏.‏ وعن ابن عباس أنه شهد بنفسه لنفسه قبل أن يخلق الخلق حين كان، ولم يكن سماء ولا أرض، ولا بر ولا بحر، فقال‏:‏ ‏{‏شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ‏}‏‏.‏
    وكل هذه الأقوال وما فى معناها صحيحة؛ وذلك أن الشهادة تتضمن كلام الشاهد وقوله وخبره عما شهد به، وهذا قد يكون مع أن الشاهد نفسه يتكلم بذلك ويقوله ويذكره، وإن لم يكن معلماًً به لغيره، ولا مخبراً به لسواه‏.‏ فهذه أول مراتب الشهادة‏.‏
    ثم قد يخبره ويعلمه بذلك، فتكون الشهادة إعلاماً لغيره وإخباراً له، ومن أخبر غيره بشىء فقد شهد به‏.‏سواء كان بلفظ الشهادة أو لم يكن، كما فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏19‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا‏}‏ الآية ‏[‏يوسف‏:‏81‏]‏‏.‏ ففى كلا الموضعين إنما أخبروا خبراً مجرداً، وقد قال‏:‏‏{‏وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 30، 31‏]‏‏.‏
    وفي الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏عدلت شهادة الزور الإشراك بالله‏)‏، قالها مرتين أو ثلاثاً، ثم تلا هذه الآية، وإنما فى الآية‏:‏ ‏{‏وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ‏}‏ وهذا يعم كل قول زور بأى لفظ كان، وعلى أى صفة وجد، فلا يقوله العبد ولا يحضره ولا يسمعه من قول غيره‏.‏ والزور‏:‏ هو الباطل الذى قد ازور عن الحق والاستقامة أى‏:‏ تحول، وقد سماه النبى صلى الله عليه وسلم شهادة الزور، وقد قال فى المظاهرين مـن نسائهم‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏2‏]‏‏.‏
    وفى الصحيحين عن ابن عباس قال‏:‏ شهد عندى رجال مرضيون وأرضاهم عندى عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس‏.‏ وهؤلاء حدثوه أنه نهى عن ذلك، ولم يقولوا‏:‏ نشهد عندك؛ فإن الصحابة لم يكونوا يلتزمون هذا اللفظ فى التحديث، وإن كان أحدهم قد ينطق به، ومنه قولهم فى ماعز‏:‏ فلما شهد على نفسه أربع مرات رجمه النبى صلى الله عليه وسلم ولفظه كان إقراراً ولم يقل‏:‏ أشهد‏.‏
    ومنه قوله تعالى‏:‏‏{‏كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏135‏]‏، وشهادة المرء على نفسه هى إقراره، وهذا لا يشترط فيه لفظ الشهادة باتفاق العلماء، وإنما تنازعوا فى الشهادة عند الحكام‏:‏ هل يشترط فيها لفظ أشهد‏؟‏ على قولين فى مذهب أحمد،وكلام أحمد يقتضى أنه لا يعتبر ذلك، وكذلك مذهب مالك، والثانى يشترط ذلك، كما يحكى عن مذهب أبى حنيفة والشافعى‏.‏
    والمقصود هنا الآية فالشهادة تضمنت مرتبتين‏:‏
    إحداهما‏:‏ تكلم الشاهد وقوله وذكره لما شهد فى نفسه به‏.‏
    والثانىة‏:‏ إخباره وإعلامه لغيره بما شهد به، فمن قال‏:‏ حكم وقضى فهذا من باب اللازم، فإن الحكم والقضاء هو إلزام وأمر‏.‏
    ولا ريب أن الله ألزم الخلق التوحيد وأمرهم به وقضى به وحكم،فقال‏:‏ ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏23‏]‏، وقال‏:‏‏{‏أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 2‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ‏}‏ الآية ‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏51‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏‏[‏التوبة‏:‏31‏]‏، ‏{‏وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 5‏]‏‏.‏
    وهذا كثير فى القرآن يوجب على العباد عبادته وتوحيده، ويحرم عليهم عبادة ما سواه، فقد حكم وقضى أنه لا إله إلا هو‏.‏
    ولكن الكلام فى دلالة لفظ الشهادة على ذلك؛ وذلك أنه إذا شهد أنه لا إله إلا هو، فقد أخبر وبين وأعلم أن ما سواه ليس بإله فلا يعبد، وأنه وحده الإله الذى يستحق العبادة، وهذا يتضمن الأمر بعبادته والنهى عن عبادة ما سواه؛ فإن النفى والإثبات فى مثل هذا يتضمن الأمر والنهى، كما إذا استفتى شخص شخصاً، فقال له قائل‏:‏ هذا ليس بمفت، هذا هو المفتى، ففيه نهى عن استفتاء الأول، وأمر وإرشاد إلى استفتاء الثانى‏.‏
    وكذلك إذا تحاكم إلى غير حاكم، أو طلب شيئا من غير ولى الأمر، فقيل له‏:‏ ليس هذا حاكماً ولا هذا سلطاناً، هذا هو الحاكم وهذا هو السلطان،فهذا النفى والإثبات يتضمن الأمر والنهى، وذلك أن الطالب إنما يطلب من عنده مراده ومقصوده، فإذا ظنه شخصاً فقيل له‏:‏ ليس مرادك عنده وإنما مرادك عند هذا، كان أمراً له بطلب مراده عند هذا دون ذاك‏.‏
    والعابدون إنما مقصودهم أن يعبدوا من هو إله يستحق العبادة، فإذا قيل لهم‏:‏ كل ما سوى اللّه ليس بإله،إنما الإله هو اللّه وحده، كان هذا نهياً لهم عن عبادة ما سواه، وأمرا بعبادته‏.‏
    وأيضاً فلو لم يكن هناك طالب للعبادة فلفظ الإله يقتضى أنه يستحق العبادة، فإذا أخبر أنه هو المستحق للعبادة دون ما سواه كان ذلك أمراً بما يستحقه‏.‏
    وليس المراد هنا بـ ‏(‏الإله‏)‏ من عبده عابد بلا استحقاق، فإن هذه الآلهة كثيرة، ولكن تسميتهم آلهة والخبر عنهم بذلك واتخاذهم معبودين أمر باطل، كما قال تعالى‏:‏‏{‏إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏23‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 26‏]‏‏.‏
    فالآلهة التى جعلها عابدوها آلهة يعبدونها كثيرة، لكن هى لا تستحق العبادة فليست بآلهة، كمن جعل غيره شاهداً أو حاكماً أو مفتياً أو أميراً وهو لا يحسن شيئا من ذلك‏.‏
    ولابد لكل إنسان من إله يألهه ويعبده، ‏(‏تعس عبد الدينار وعبد الدرهم‏)‏، فإن بعض الناس قد أله ذلك محبة وذلا وتعظيما، كما قد بسط فى غير هذا الموضع‏.‏
    فإذا شهد اللّه أنه لا إله إلا هو، فقد حكم وقضى بألا يعبد إلا إياه‏.‏
    وأيضاً فلفظ الحكم والقضاء يستعمل فى الجمل الخبرية، فيقال للجمل الخبرية‏:‏ قضية، ويقال‏:‏ قد حكم فيها بثبوت هذا المعنى وانتفاء هذا المعنى، وكل شاهد ومخبر هو حاكم بهذا الاعتبار قد حكم بثبوت ما أثبته ونفى ما نفاه حكما خبريا، قد يتضمن حكما طلبيا‏.‏

    فصــل
    وشهادة الرب وبيانه وإعلامه يكون بقوله تارة، وبفعله تارة‏.‏
    فالقول‏:‏هو ما أرسل به رسله، وأنزل به كتبه،وأوحاه إلى عباده كما قال‏:‏ ‏{‏يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ‏}‏‏[‏النحل‏:‏ 2‏]‏، إلى غير ذلك من الآيات‏.‏
    وقد علم بالتواتر والاضطرار أن جميع الرسل أخبروا عن اللّّه أنه شهد ويشهد أن لا إله إلا هو بقوله وكلامه، وهذا معلوم من جهة كل من بلغ عنه كلامه؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏24‏]‏‏.‏
    وأما شهادته بفعله فهو ما نصبه من الأدلة الدالة على وحدانيته التى تعلم دلالتها بالعقل، وإن لم يكن هناك خبر عن الله، وهذا يستعمل فيه لفظ الشهادة والدلالة والإرشاد، فإن الدليل يبين المدلول عليه ويظهره، فهو بمنزلة المخبر به الشاهد به، كما قيل‏:‏ سل الأرض‏:‏ من فجر أنهارها، وغرس أشجارها، وأخرج ثمارها، وأحيا نباتها، وأغطش ليلها، وأوضح نهارها، فإن لم تجبك حواراً، أجابتك اعتباراً‏.‏
    وهو ـ سبحانه ـ شهد بما جعلها دالة عليه فإن دلالتها إنما هي بخلقه لها‏.‏ فإذا كانت المخلوقات دالة على أنه لا إله إلا هو، وهو ـ سبحانه ـ الذى جعلها دالة عليه، فإن دلالتها إنما هى بخلقه، وبين ذلك، فهو الشاهد المبين بها أنه لا إله إلا هو، وهذه الشهادة الفعلية ذكرها طائفة‏.‏ قال ابن كيسان ‏[‏هو أبو الحسن محمد بن إبراهيم، عالم بالعربية، نحوا ولغة‏.‏ من أهل بغداد، له تصانيف فى القراءات والغريب والنحو، منها‏:‏ ‏"‏المهذب‏"‏ فى النحو، و‏"‏غريب الحديث‏"‏ وتوفى فى ذى القعدة سنة 299 هـ‏]‏‏:‏‏{‏شَهِدَ اللهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏18‏]‏ بتدبيره العجيب، وأموره المحكمة عند خلقه أنه لا إله إلا هو‏.
    فصــل
    وقوله‏:‏ ‏{‏قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏18‏]‏ هو نصب على الحال، وفيه وجهان‏:‏
    قيل‏:‏ هو حال من شهد أي‏:‏ شهد قائما بالقسط‏.‏
    وقيل‏:‏ من ‏(‏هو‏)‏ أى‏:‏ لا إله إلا هو قائما بالقسط، كما يقال‏:‏ لا إله إلا هو وحده، وكلا المعنيين صحيح‏.‏
    وقوله‏:‏ ‏{‏قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ‏}‏ يجوز أن يعمل فيه كلا العاملين على مذهب الكوفيين فى أن المعمول الواحد يعمل فيه عاملان،كما قالوا فى قوله‏:‏ ‏{‏هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏19‏]‏، و‏{‏آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏96‏]‏، و‏{‏عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏17‏]‏، ونحو ذلك‏.‏ وسيبويه وأصحابه يجعلون لكل عامل معمولا، ويقولون‏:‏ حذف معمول أحدهما لدلالة الآخر عليه،وقول الكوفيين أرجح، كما قد بسطته فى غير هذا الموضع‏.‏
    وعلى المذهبين فقوله‏:‏‏{‏القسط‏}‏ يخرج على هذا، إما كونه يشهد قائمًا بالقسط فإن القائم بالقسط هو القائم بالعدل، كما فى قوله‏:‏ ‏{‏كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ‏}‏‏[‏النساء‏:‏135‏]‏، فالقيام بالقسط يكون فى القول، وهو القول العدل، ويكون فى الفعل‏.‏ فإذا قيل‏:‏ شهد ‏{‏قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ‏}‏ أى‏:‏ متكلما بالعدل مخبراً به آمراً به، كان هذا تحقيقا لكون الشهادة شهادة عدل وقسط، وهى أعدل من كل شهادة، كما أن الشرك أظلم من كل ظلم، وهذه الشهادة أعظم الشهادات‏.‏
    وقد ذكروا فى سبب نزول هذه الآية ما يوافق ذلك، فذكر ابن السائب ‏[‏هو أبو النضر محمد بن السائب بن بشر بن عمرو بن الحارث الكلبى، نسابة، راوية، عالم بالتفسير والأخبار وأيام العرب، له كتاب فى ‏"‏تفسير القرآن‏"‏ وهو ضعيف الحديث، ولد بالكوفة وتوفى بها سنة 146هـ‏]‏‏:‏ أن حَبْرَين من أحبار الشام قدما على النبى صلى الله عليه وسلم، فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه‏:‏ ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبى الذى يخرج فى آخر الزمان‏!‏ فلما دخلا على النبى صلى الله عليه وسلم عرفاه بالصفة، فقالا‏:‏ أنت محمد‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏‏.‏ قالا‏:‏ وأحمد‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏‏.‏ قالا‏:‏ نسألك عن شهادة فإن أخبرتنا بها آمنا بك‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏سلانى‏)‏‏.‏ فقالا‏:‏ أخبرنا عن أعظم شهادة فى كتاب اللّه فنزلت هذه الآية ‏.‏
    ولفظ ‏(‏القيام بالقسط‏)‏ كما يتناول القول، يتناول العمل، فيكون التقدير‏:‏ يشهد وهو قائل بالقسط عامل به لا بالظلم؛ فإن هذه الشهادة تضمنت قولا وعملا، فإنها تضمنت أنه هو الذى يستحق العبادة وحده فيعبد، وأن غيره لا يستحق العبادة، وأن الذين عبدوه وحده هم المفلحون السعداء، وأن المشركين به في النار، فإذا شهد قائما بالعدل المتضمن جزاء المخلصين بالجنة وجزاء المشركين بالنار كان هذا من تمام تحقيق موجب هذه الشهادة، وكان قوله‏:‏ ‏{‏قّائٌمْا بٌالًقٌسًط‏}‏ تنبيها على جزاء المخلصين والمشركين، كما فى قوله‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 33‏]‏‏.‏
    قال طائفة من المفسرين ـ منهم البغوى ـ‏:‏ نظم الآية ‏(‏شهد الله قائما بالقسط‏)‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ‏}‏ أى بتدبير الخلق، كما يقال‏:‏ فلان قائم بأمر فلان، أى يدبره ويتعاهد أسبابه، وقائم بحق فلان، أى مجاز له، فالله تعالى مدبر رزاق مجاز بالأعمال‏.‏
    وإذا اعتبر القسط فى الإلهية كان المعنى‏:‏ ‏(‏لا إله إلا هو قائما بالقسط‏)‏، أى‏:‏ هو وحده الإله قائما بالقسط، فيكون وحده مستحقاً للعبادة مع كونه قائما بالقسط،كما يقال‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله إلهاً واحدا أحداً صمداً‏.‏وهذا الوجه أرجح؛ فإنه يتضمن أن الملائكة وأولى العلم يشهدون له، مع أنه لا إله إلا هو، وأنه قائم بالقسط‏.‏
    والوجه الأول لا يدل على هذا؛ ولأن كونه قائما بالقسط ـ كما شهد به ـ أبلغ من كونه حال الشاهد، وقيامه بالقسط يتضمن أنه يقول الصدق، ويعمل بالعدل، كما قال‏:‏ ‏{‏وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏115‏]‏، وقال هود‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏56‏]‏، فأخبر أن الله على صراط مستقيم، وهو العدل الذى لا عوج فيه‏.‏
    وقال‏:‏ ‏{‏هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏76‏]‏، وهو مثل ضربه الله لنفسه ولما يشرك به من الأوثان، كما ذكر ذلك فى قوله‏:‏‏{‏قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ‏}‏ الآية ‏[‏يونس‏:‏35‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ‏}‏ الآيات، إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏17ـ 21‏]‏، فأخبر أنه خالق منعم عالم، وما يدعون من دونه لا تخلق شيئا ولا تنعم بشىء، ولا تعلم شيئا، وأخبر أنها ميتة، فهل يستوى هذا وهذا‏؟‏ فكيف يعبدونها من دون الله مع هذا الفرق الذى لا فرق أعظم منه‏؟‏ ولهذا كان هذا أعظم الظلم والإفك‏.‏
    ومن هذا الباب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏59‏]‏، فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏75، 76‏]‏، كلاهما مثل بين الله فيه أنه لا يستوى هو وما يشركون به، كما ذكر نظير ذلك فى غير موضع، وإن كان هذا الفرق معلوما بالضرورة لكل أحد، لكنْ المشركون مع اعترافهم بأن آلهتم مخلوقة مملوكة له، يسوون بينه وبينها فى المحبة والدعاء، والعبادة ونحو ذلك‏.‏
    والمقصود هنا أن الرب ـ سبحانه ـ على صراط مستقيم، وذلك بمنزلة قوله‏:‏ ‏{‏قّائٌمْا بٌالًقٌسًط‏}‏، فإن الاستقامة والاعتدال متلازمان، فمن كان قوله وعمله بالقسط كان مستقيما، ومن كان قوله وعمله مستقيما كان قائما بالقسط‏.‏
    ولهذا أمرنا الله ـ سبحانه ـ أن نسأله أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين، وصراطهم هو العدل والميزان؛ ليقوم الناس بالقسط، والصراط المستقيم هو العمل بطاعته وترك معاصيه، فالمعاصى كلها ظلم مناقض للعدل مخالف للقيام بالقسط والعدل، والله ـ سبحانه ـ أعلم‏.‏
    فصــل
    ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏18‏]‏، ذكر عن جعفر بن محمد أنه قال‏:‏ الأولى وصف وتوحيد، والثانية رسم وتعليم، أى قوله‏:‏ ‏{‏لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏‏.‏ ومعنى هذا أن الأولى هو ذكر أن الله شهد بها، فقال‏:‏ ‏{‏شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ‏}‏ والتالى للقرآن إنما يذكر أن الله شهد بها هو والملائكة، وأولو العلم، وليس فى ذلك شهادة من التالى نفسه بها، فذكرها الله مجردة؛ ليقولها التالي فيكون التالي قد شهد بها أنه لا إله إلا هو‏.‏ فالأولى خبر عن الله بالتوحيد لنفسه بشهادته لنفسه، وهذه خبر عن الله بالتوحيد‏.‏
    وختمها بقوله‏:‏ ‏{‏الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏، والعزة تتضمن‏:‏ القدرة والشدة والامتناع والغلبة‏.‏ تقول العرب‏:‏ عز يعز ـ بفتح العين ـ إذا صَلُب، وعز يعز ـ بكسرها ـ إذا امتنع، وعز يعزـ بضمها إذا غلب‏.‏ فهو ـ سبحانه ـ فى نفسه قوى متين، وهو منيع لا ينال، وهو غالب لا يغلب‏.‏
    والحكيم يتضمن حكمه وعلمه وحكمته فيما يقوله ويفعله، فإذا أمر بأمر كان حسناً، وإذا أخبر بخبر كان صدقاً،وإذا أراد خلق شىء كان صواباً،فهو حكيم فى إرادته وأفعاله وأقواله‏.‏
    فصــل
    وقد تضمنت هذه الآية ثلاثة أصول‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله، وأنه قائم بالقسط، وأنه العزيز الحكيم؛ فتضمنت وحدانيته المنافية للشرك، وتضمنت عدله المنافى للظلم، وتضمنت عزته وحكمته المنافية للذل والسفه، وتضمنت تنزيهه عن الشرك والظلم والسفه، ففيها إثبات التوحيد، وإثبات العدل، وإثبات الحكمة، وإثبات القدرة‏.‏
    والمعتزلة قد تحتج بها على ما يدعونه من التوحيد والعدل والحكمة ولا حجة فيها لهم، لكن فيها حجة عليهم، وعلى خصومهم الجبرية أتباع الجهم بن صفوان؛ الذين يقولون‏:‏ كل ما يمكن فعله فهو عدل، وينفون الحكمة، فيقولون‏:‏ يفعل لا لحكمة، فلا حجة فيها لهم؛ فإنه أخبر أنه لا إله إلا هو، وليس فى ذلك نفى الصفات، وهم يسمون نفى الصفات توحيدا، بل الإله هو المستحق للعبادة، والعبادة لا تكون إلا مع محبة المعبود‏.‏
    والمشركون جعلوا للّه أنداداً يحبونهم كحب الله، والذين آمنوا أشد حباً لله، فدل ذلك على أن المؤمنين يحبون الله أعظم من محبة المشركين لأندادهم، فعلم أن الله محبوب لذاته، ومن لم يقل بذلك لم يشهد فى الحقيقة أن لا إله إلا هو‏.‏
    والجهمية والمعتزلة يقولون‏:‏ إن ذاته لا تحب، فهم فى الحقيقة منكرون إلهيته، وهذا مبسوط فى غير هذا الموضع‏.‏
    وقيامه بالقسط مقرون بأنه لا إله الا هو، فذكر ذلك على أنه لا يماثله أحد فى شىء من أموره، والمعتزلة تجعل القسط منه مثل القسط من المخلوقين، فما كان عدلا من المخلوقين كان عدلا من الخالق، وهذا تسوية منهم بين الخالق والمخلوق، وذلك قَدْح فى أنه لا إله إلا هو‏.‏
    والجهمية عندهم أى شىء أمكن وقوعه كان قسطاً، فيكون قوله‏:‏ ‏{‏قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ‏}‏ كلاما لا فائدة فيه ولا مدح؛ فإنه إذا كان كل مقدور قسطا كان المعنى أنه قائم بما يفعله، والمعنى أنه فاعل لما يفعله، وليس فى هذا مدح، ولا هو المفهوم من كونه قائما بالقسط، بل المفهوم منه أنه يقوم بالقسط لا بالظلم مـع قدرته عليه، لكنه ـ سبحانه ـ مقدس منزه أن يظلم أحدا ً،كما قال‏:‏ ‏{‏وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏49‏]‏، وقد أمر عباده أن يكونوا قوامين بالقسط، وقال‏:‏‏{‏أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ‏}‏ ‏[‏ الرعد‏:‏33 ‏]‏، فهو يقوم عليها بكسبها لا بكسب غيرها، وهذا من قيامه بالقسط‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا‏}‏ الآية ‏[‏الأنبياء‏:‏ 47‏]‏‏.‏
    وأيضا، فمن قيامه بالقسط وقيامه على كل نفس بما كسبت‏:‏ أنه لا يظلم مثقال ذرة، كما قال‏:‏ ‏{‏فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ‏}‏ إلى آخرها ‏[‏الزلزلة‏:‏ 7، 8‏]‏‏.‏
    والمعتزلة تحبط الحسنات العظيمة الكثيرة بكبيرة واحدة، وتحبط إيمانه وتوحيده بما هو دون ذلك من الذنوب، وهذا مما تفردوا به من الظلم الذى نزه الله نفسه عنه، فهم ينسبون الله إلى الظلم لا إلى العدل، والله أعلم‏.‏
    فصــل
    وقوله‏:‏ ‏{‏هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏18‏]‏ إثبات لعزته وحكمته، وفيها رد على الطائفتين الجبرية والقدرية ـ فإن الجبرية ـ أتباع جهم ـ ليس له عندهم فى الحقيقة حكمة؛ ولهذا لما أرادت الأشعرية أن تفسر حكمته فسروها إما بالقدرة، وإما بالعلم، وإما بالإرادة‏.‏
    ومعلوم أنه ليس فى شىء من ذلك إثبات لحكمته؛ فإن القادر والعالم والمريد قد يكون حكيمًا وقد لا يكون، والحكمة أمر زائد على ذلك، وهم ويقولون‏:‏ إن الله لا يفعل لحكمة، ويقولون أيضاً‏:‏ الفعل لغرض إنما يكون ممن ينتفع ويتضرر، ويتألم ويلتذ؛ وذلك ينفى عن الله‏.‏
    والمعتزلة أثبتوا أنه يفعل لحكمة، وسموا ذلك غرضاً، هم وطائفة من المثبتة؛ لكن قالوا‏:‏ الحكمة أمر منفصل عنه لا يقوم به، كما قالوا فى كلامه وإرادته، فاستطال عليهم المجبرة بذلك، فقالوا‏:‏ الحكيم‏:‏ من يفعل لحكمة تعود إلى نفسه، فإن لم تعد إلى نفسه لم يكن حكيماً بل كان سفيهاً‏.‏
    فيقال للمجبرة‏:‏ ما نفيتم به الحكمة هو بعينه حجة من نفى الإرادة من المتفلسفة ونحوهم، قالوا‏:‏ الإرادة لا تكون إلا لمن ينتفع ويتضرر، ويتألم ويلتذ، وإثبات إرادة بدون هذا لا يعقل، وأنتم تقولون‏:‏ نحن موافقون للسلف وسائر أهل السنة على إثبات الإرادة، فما كان جوابا لكم عن هذا السؤال فهو جواب سائر أهل السنة لكم، حيث أثبتم إرادة بلا حكمة يراد الفعل لها‏.‏ وقد بسط هذا فى غير هذا الموضع، وبين ما فى لفظ هذه الحجة من الكلمات المجملة، والله أعلم‏.‏
    فصــل
    وإثبات شهادة أولى العلم يتضمن أن الشهادة له بالوحدانية يشهد بها له غيره من المخلوقين؛ الملائكة والبشر، وهذا متفق عليه، يشهدون أن لا إله إلا الله، ويشهدون بما شهد به لنفسه‏.‏
    وزعم طائفة من الاتحادية أنه لا يوحد أحد الله وأنشدوا‏:‏
    ما وحد الواحد من واحد ** إذ كل من وحده جاحد
    وهؤلاء حقيقة قولهم من جنس قول النصارى فى المسيح، يدعون أن حقيقة التوحيد أن يكون الموحِّد هو الموحَّد؛ فيكون الحق هو الناطق على لسان العبد، و الله الموحد لنفسه لا العبد، وهذا ـ فى زعمهم ـ هو السر الذى كان الحَّلاج يعتقده، وهو بزعمهم قول خواص العارفين، لكن لا يصرحون به‏.‏
    وحقيقة قولهم‏:‏ أنهم اعتقدوا فى عموم الصالحين ما اعتقدته النصارى فى المسيح، لكن لم يمكنهم إظهاره؛ فإن دين الإسلام يناقض ذلك مناقضة ظاهرة، فصاروا يشيرون إليه، ويقولون‏:‏إنه من السر المكتوم، ومن علم الأسرار الغيبية، فلا يمكن أن يباح به،وإنما هو قول ملحد، وهو شر من قول النصارى فإن النصارى إنما قالوا ذلك فى المسيح لم يقولوه فى جميع الصالحين‏.‏
    وقد بسط الكلام على ذلك فى غير موضع؛ إذ المقصود التنبيه على ما فى هذه الآية من أصول الإيمان، والتوحيد و إبطال قول المبتدعين‏.‏
    فصــل
    وإذا كانت شهادة الله تتضمن بيانه للعباد، ودلالته لهم، وتعريفهم بما شهد به لنفس، فلابد أن يعرفهم أنه شهد، فإن هذه الشهادة أعظم الشهادات،وإلا فلو شهد شهادة لم يتمكن من العلم بها لم ينتفع بذلك، ولم تقم عليهم حجة بتلك الشهادة، كما أن المخلوق إذا كانت عنده شهادة لم يبينها بل كتمها لم ينتفع أحد بها، ولم تقم بها حجة‏.‏
    ولهذا ذم ـ سبحانه ـ من كتم العلم الذى أنزله وما فيه من الشهادة، كما قال تعالى‏:‏‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏140‏]‏، أى‏:‏ عنده شهادة من الله وكتمها، وهو العلم الذى بينه الله، فإنه خبر من الله وشهادة منه بما فيه‏.‏
    وقد ذم من كتمه، كما كتم بعض أهل الكتاب ما عندهم من الخبر والشهادة لإبراهيم وأهل بيته، وكتموا إسلامهم، وما عندهم من الأخبار بمثل ما أخبر به محمد صلى الله عليه وسلم، وبصفته وغير ذلك، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 159‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 146‏]‏‏.‏
    والشهادة لابد فيها من علم الشاهد وصدقه وبيانه، لا يحصل مقصود الشهادة إلا بهذه الأمور؛ ولهذا ذم من يكتم ويحرف، فقال تعالى‏:‏‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 135‏]‏‏.‏
    وفى الصحيحين عن حكيم بن حزام عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏‏(‏البَيِّعَان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صَدَقا وبَيَّنَا بُورِك لهما فى بَيْعِهما، وإن كذبا وكَتَما مُحِقَتْ بركة بيعهما‏)‏‏.‏
    فصــل
    وإذا كان لابد من بيان شهادته للعباد؛ ليعلموا أنه قد شهد، فهو قد بينها بالطريقين؛ بالسمع والبصر‏.‏ فالسميع يسمع آيات الله المتلوة المنزلة، والبصير يعاين آياته المخلوقة الفعلية؛ وذلك أن شهادته تتضمن بيانه ودلالته للعباد وتعريفهم ذلك، وذلك حاصل بآياته، فإن آياته هى دلالاته وبراهينه التى بها يعرف العباد خبره وشهادته، كما عرفهم بها أمره ونهيه، وهو عليم حكيم؛ فخبره يتضمن أمره ونهيه، وفعله يبين حكمته‏.‏
    فالأنبياء إذا أخبروا عنه بكلامه عرف بذلك شهادته وآياته القولية، ولابد أن يعرف صدق الأنبياء فيما أخبروا عنه؛ وذلك قد عرفه بآياته التى أيد بها الأنبياء ودل بها على صدقهم؛ فإنه لم يبعث نبيا إلا بآيه تبين صدقه، إذ تصديقه بما لا يدل على صدقه غير جائز، كما قال‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏25‏]‏ أى‏:‏ بالآيات البينات، وقال‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏43، 44‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏183‏]‏، وقال ‏{‏فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏184‏]‏‏.‏
    وفى الصحيحين عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما من نبى من الأنبياء إلا وقد أوتى من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذى أوتيته وَحْيًا أوحاه الله إلى فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة‏)‏‏.‏
    فالآيات والبراهين التى أرسل بها الرسل دلالات الله على صدقهم، دل بها العباد، وهى شهادة الله بصدقهم فيما بلغوا عنه، والذى بلغوه فيه شهادته لنفسه فيما أخبر به، ولهذا قال بعض النُّظَّار‏:‏ إن المعجزة تصديق الرسول، وهى تجرى مجرى المرسل، صدقت فهى تصديق بالفعل، تجرى مجرى التصديق بالقول؛ إذ كان الناس لا يسمعون كلام الله المرسل منه، وتصديقه إخبار بصدقه، وشهادة له بالصدق وشهادة له بأنه أرسله وشهادة له بأن كل ما يبلغه عنه كلامه‏.‏
    وهو ـ سبحانه ـ اسمه المؤمن، وهو فى أحد التفسيرين المصدق، الذى يصدق أنبياءه فيما أخبروا عنه بالدلائل التى دل بها على صدقه‏.‏
    وأما الطريق العيانى فهو‏:‏ أن يرى العباد من الآيات الأفقية والنفسية ما يبين لهم أن الوحى الذى بلغته الرسل عن اللّه حق، كما قال تعالى‏:‏‏{‏سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏53‏]‏ أى‏:‏ أو لم يكف بشهادته المخبرة بما علمه، وهو الوحى الذى أخبر به الرسول؛ فإن اللّّه على كل شىء شهيد وعليم به، فإذا أخبر به وشهد كان ذلك كافياً، وإن لم ير المشهود به، وشهادته قد علمت بالآيات التى دل بها على صدق الرسول، فالعالم بهذه الطريق لا يحتاج أن ينظر الآيات المشاهدة، التى تدل على أن القرآن حق، بل قد يعلم ذلك بما علم به أن الرسول صادق فيما أخبر به عن شهادة الله ـ تعالى ـ وكلامه‏.‏
    وكذلك ذكر الكتاب المنزل، فقال‏:‏‏{‏وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ‏}‏ الآيات إلى قوله‏:‏‏{‏إِلَّا الظَّالِمُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏46 ـ49‏]‏ فبين أن القرآن آيات بينات فى صدور الذين أوتوا العلم، فإنه من أعظم الآيات البينة الدالة على صدق من جاء به، وقد اجتمع فيه من الآيات ما لم يجتمع فى غيره؛ فإنه هو الدعوة والحجة، وهو الدليل والمدلول عليه، والحكم، وهو الدعوى، وهو البينة على الدعوى، وهو الشاهد والمشهود به‏.‏
    وقوله‏:‏‏{‏فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏49‏]‏، سواء أريد به أنه بين فى صدورهم،أو أنه محفوظ في صدورهم، أو أريد به الأمران وهو الصواب، فإنه محفوظ فى صدور العلماء، بين فى صدورهم، يعلمون أنه حق، كما قال‏:‏ ‏{‏وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏6‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏19‏]‏،‏{‏وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏‏[‏الحج‏:‏ 54‏]‏‏.‏
    وقال تعالى‏:‏‏{‏وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 50-52‏]‏، فيها بيان ما يوجب السعادة للمؤمنين وينجيهم من العذاب‏.‏
    ثم قال‏:‏ ‏{‏قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏، فإنه إذا كان عالماً بالأشياء كانت شهادته بعلم، وقد بين شهادته بالآيات الدالة على صدق الرسول، ومنها القرآن، و الله أعلم‏.‏
    فصــل
    وأما كونه ـ سبحانه ـ صادقا، فهذا معلوم بالفطرة الضرورية لكل أحد؛ فإن الكذب من أبغض الصفات عند بني آدم، فهو ـ سبحانه ـ منزه عن ذلك، وكل إنسان محمود يتنزه عن ذلك؛ فإن كل أحد يذم الكذب، فهو وصف ذم على الإطلاق‏.‏
    وأما عدم علم الإنسان ببعض الأشياء، فهذا من لوازم المخلوق، ولا يحيط علما بكل شىء إلا اللّه، فلم يكن عدم العلم عند الناس نقصا كالكذب؛ فلهذا يبين الرب علمه بما يشهد به، وأنه أصدق حديثا من كل أحد، وأحسن حكماً، وأصدق قيلا؛ لأنه ـ سبحانه ـ أحق بصفات الكمال من كل أحد، وله المثل الأعلى فى السموات والأرض، وهو يقول الحق، وهو يهدى السبيل وهو سبحانه ـ يتكلم بمشيئته وقدرته‏.‏
    و‏{‏وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏43‏]‏، وهم أهل الكتاب، فهم يشهدون بما جاءت به الأنبياء قبل محمد، فيشهدون أنهم أتوا بمثل ما أتى به كالأمر بعبادة اللّّه وحده، والنهى عن الشرك، والإخبار بيوم القيامة، والشرائع الكلية، ويشهدون أيضاً بما في كتبهم من ذكر صفاته،ورسالته وكتابه‏.‏ وهذان الطريقان بهما تثبت نبوة النبى صلى الله عليه وسلم، وهى الآيات والبراهين الدالة على صدقه، أو شهادة نبى آخر قد علم صدقه له بالنبوة‏.‏
    فذكر هذين النوعين بقوله‏:‏‏{‏قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 43‏]‏، فتلك يعلم بها صدقه بالنظر العقلى فى آياته وبراهينه، وهذه يعلم بها صدقه بالخبر السمعى المنقول عن الأنبياء قبله‏.‏
    وكذلك قوله‏:‏‏{‏قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ‏}‏، فقوله‏:‏ ‏{‏قُلِ اللّهِ‏}‏ فيها وجهان‏:‏
    قيل‏:‏ هو جواب السائل، وقوله‏:‏ ‏{‏شَهِيدٌ‏}‏ خبر مبتدأ، أى‏:‏ هو شهيد‏.‏ وقيل‏:‏ هو مبتدأ، وقوله‏:‏ ‏{‏شَهِيدٌ‏}‏ خبره، فأغنى ذلك عن جواب الاستفهام والأول‏:‏ على قراءة من يقف على قوله‏:‏ ‏{‏قٍلٌ بلَّه‏}‏، والثانى‏:‏ على قراءة من لا يقف، وكلاهما صحيح، لكن الثانى أحسن وهو أتم‏.‏
    وكل أحد يعلم أن الله أكبر شهادة، فلما قال‏:‏ ‏{‏قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً‏}‏ علم أن الله أكبر شهادة من كل شىء، فقيل له‏:‏ ‏{‏قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 19‏]‏، ولما قال‏:‏ ‏{‏اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ‏}‏ كان فى هذا ما يغنى عن قوله‏:‏ إن الله أكبر شهادة‏.‏ وذلك أن كون الله أكبر شهادة هو معلوم، ولا يثبت بمجرد قوله‏:‏ ‏{‏أَكْبَرُ شَهَادةً‏}‏ بخلاف كونه شهيدا بينه وبينهم؛ فإن هذا مما يعلم بالنص والاستدال، فينظر‏:‏ هل شهد الله بصدقه وكذبهم فى تكذيبه؛ أم شهد بكذبه وصدقهم فى تكذيبه‏؟‏ وإذا نظر فى ذلك علم أن الله شهد بصدقه وكذبهم بالنوعين من الآيات، بكلامه الذى أنزله، وبما بين أنه رسول صادق‏.‏
    ولهذا أعقبه بقوله‏:‏ ‏{‏وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏19‏]‏، فإن هذا القرآن فيه الإنذار، وهو آية شهد بها أنه صادق، وبالآيات التى يظهرها فى الآفاق وفى الأنفس، حتى يتبين لهم أن القرآن حق‏.‏
    وقوله فى هذه الآية‏:‏ ‏{‏قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 19‏]‏، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏ قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ‏}‏، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 52‏]‏، وكذلك قوله‏:‏‏{‏هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 8‏]‏، فذكر ـ سبحانه ـ أنه شهيد بينه وبينهم، ولم يقل‏:‏ شاهد علينا، ولا شاهد لى؛ لأنه ضمن الشهادة الحكم، فهو شهيد يحكم بشهادته بينى وبينكم، والحكم قدر زائد على مجرد الشهادة؛فإن الشاهد قد يؤدى الشهادة‏.‏ وأما الحاكم فإنه يحكم بالحق للمحق على المبطل ويأخذ حقه منه، ويعامل المحق بما يستحقه، والمبطل بما يستحقه‏.‏
    وهكذا شهادة الله بين الرسول ومتبعيه، وبين مكذبيه، فإنها تتضمن حكم الله للرسول وأتباعه، يحكم بما يظهره من الآيات الدالة على صدق الرسول على أنها الحق، وتلك الآيات أنواع متعددة، ويحكم له أيضاً بالنجاة والنصر، والتأييد، وسعادة الدنيا والآخرة، ولمكذبيه بالهلاك والعذاب، وشقاء الدنيا والآخرة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ‏}‏‏[‏التوبة‏:‏ 33، والفتح‏:‏28، والصف‏:‏ 9‏]‏، فيظهره بالدلائل والآيات العلمية التى تبين أنه حق، ويظهره أيضاً بنصره وتأييده على مخالفيه، ويكون منصوراً، كما قال تعالى‏:‏‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏25‏]‏، فهذه شهادة حكم، كما قدمنا ذلك فى قوله‏:‏ ‏{‏شَهِدَ اللّهُ‏}‏‏.‏
    قال مجاهد والفراء وأبو عبيدة‏:‏ ‏{‏شَهِدَ اللّهُ‏}‏ أى‏:‏ حكم وقضى، لكن الحكم فى قوله‏:‏ ‏{‏بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ‏}‏ أظهر، وقد يقول الإنسان لآخر‏:‏ فلان شاهد بينى وبينك، أى يتحمل الشهادة بما بيننا، فالله يشهد بما أنزله ويقوله، وهذا مثل الشهادة على أعمال العباد، لكن المكذبون ما كانوا ينكرون التكذيب، ولا كانوا يتهمون الرسول بأنه ينكر دعوى الرسالة، فيكون الشهيد يتضمن الحكم أثبت وأشبه بالقرآن، والله أعلم‏.‏
    فصــل
    وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏لَّـكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏166‏]‏ فإن شهادته بما أنزل إليه هى شهادته بأن الله أنزله منه، وأنه أنزله بعلمه، فما فيه من الخبر هو خبر عن علم الله ليس خبراً عمن دونه، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏14‏]‏، وليس معنى مجرد كونه أنزله أنه هو معلوم له، فإن جميع الأشياء معلومة له، وليس فى ذلك ما يدل على أنها حق، لكن المعنى‏:‏ أنزله فيه علمه، كما يقال‏:‏ فلان يتكلم بعلم، ويقول بعلم؛ فهو ـ سبحانه ـ أنزله بعلمه، كما قال‏:‏ ‏{‏قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏‏[‏الفرقان‏:‏6‏]‏، ولم يقل‏:‏ تكلم به بعلمه؛ لأن ذلك لا يتضمن نزوله إلى الأرض‏.‏
    فإذا قال‏:‏ ‏{‏أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ‏}‏ تضمن أن القرآن المنزل إلى الأرض فيه علم الله، كما قال‏:‏ ‏{‏فَمَنْ
    حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏61‏]‏، وذلك يتضمن أنه كلام الله نفسه، منه نزل ولم ينزل من عند غيره؛ لأن غير الله لا يعلم ما فى نفس الله من العلم ـ ونفسه هى ذاته المقدسة ـ إلا أن يعلمه الله بذلك، كما قال المسيح ـ عليه السلام-‏:‏ ‏{‏تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏، وقالت الملائكة‏:‏ ‏{‏لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏32‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏255‏]‏، وقال‏:‏‏{‏فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏26، 27‏]‏‏.‏ فغيبه الذى اختص به لا يظهر عليه أحداً إلا من ارتضى من رسول، والملائكة لا يعلمون غيب الرب الذى اختص به‏.‏
    وأما ما أظهره لعباده فإنه يعلمه من شاء، وما تتحدث به الملائكة فقد تسترق الشياطين بعضه، لكن هذا ليس من غيبه وعلم نفسه الذى يختص به، بل هذا قد أظهر عليه من شاء من خلقه ،وهو ـ سبحانه ـ قال‏:‏ ‏{‏لَّـكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏166‏]‏ فشهد أنه أنزله بعلمه بالآيات والبراهين التى تدل على أنه كلامه، وأن الرسول صادق‏.‏
    وكذلك قال فى هود‏:‏‏{‏فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏13‏]‏، لما تحداهم بالإتيان بمثله فى قوله‏:‏ ‏{‏فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏34‏]‏ ثم تحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله، فعجزوا عن ذا وذاك، ثم تحداهم أن يأتوا بسورة مثله فعجزوا؛ فإن الخلائق لا يمكنهم أن يأتوا بمثله ولا بسورة مثله، وإذا كان الخلق كلهم عاجزين عن الإتيان بسورة مثله ـ ومحمد منهم ـ علم أنه منزل من الله، نزله بعلمه، لم ينزله بعلم مخلوق، فما فيه من الخبر، فهو خبر عن علم الله‏.‏
    وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 6‏]‏؛ لأن فيه من الأسرار التى لا يعلمها إلا الله ما يدل على أن الله أنزله، فذكره ذلك يستدل به تارة على أنه حق منزل من الله، لكن تضمن من الأخبار عن أسرار السموات والأرض والدنيا والأولين والآخرين وسر الغيب ما لا يعلمه إلا الله‏.‏ فمن هنا نستدل بعلمنا بصدق أخباره أنه من الله‏.‏
    وإذا ثبت أنه أنزله بعلمه ـ تعالى ـ استدللنا بذلك على أن خبره حق، وإذا كان خبراً بعلم الله فما فيه من الخبر يستدل به عن الأنبياء وأممهم، وتارة عن يوم القيامة وما فيها، والخبر الذى يستدل به لابد أن نعلم صحته من غير جهته، وذلك كإخباره بالمستقبلات، فوقعت كما أخبر، وكإخباره بالأمم الماضية بما يوافق ما عند أهل الكتاب من غير تعلم منهم، وإخباره بأمور هى سر عند أصحابها، كما قال‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ‏}‏‏[‏التحريم‏:‏ 3‏]‏، فقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏6‏]‏ استدلال بإخباره؛ ولهذا ذكره تكذيباً لمن قال‏:‏ هو ‏{‏إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 4‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أَنزَلَهُ‏}‏ استدلال على أنه حق، وأن الخبر الذى فيه عن الله حق؛ ولهذا ذكر ذلك بعد ثبوت التحدى، وظهور عجز الخلق عن الإتيان بمثله‏.‏
    فصــل
    ومن شهادته‏:‏ ما يجعله فى القلوب من العلم، وما تنطق به الألسن من ذلك، كما فى الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم مُرَّ عليه بجنازة، فأثنوا عليها خيراً،فقال‏:‏ ‏(‏وَجَبَت، وجَبَتْ‏)‏، ومر عليه بجنازة، فأثنوا عليها شرًا، فقال‏:‏ ‏(‏وجبت، وجبت‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، ما قولك‏:‏ وجبت وجبت‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏هذه الجنازة أثنيتم عليها خيراً فقلت‏:‏ وجبت لها الجنة، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شراً فقلت‏:‏ وجبت لها النار، أنتم شهداء الله فى الأرض‏)‏ فقوله‏:‏ ‏(‏شهداء الله‏)‏ أضافهم إلى الله تعالى‏.‏
    والشهادة تضاف تارة إلى من يشهد له، وإلى من يشهد عنده، فتقبل شهادته كما يقال‏:‏ شهود القاضي وشهود السلطان، ونحو ذلك من الذين تقبل شهادتهم، وقد يدخل فى ذلك من يشهد عليه بما تحمله من الشهادة، ليؤديها عند غيره، كالذين يشهد الناس عليهم بعقودهم أو أقاريرهم‏.‏
    فشهداء الله الذىن يشهدون له بما جعله وفعله، ويؤدون الشهادة عنه، فإنهم إذا رأوا من جعله الله براً تقياً يشهدون أن الله جعله كذلك، ويؤدون عنه الشهادة، فهم شهداء الله فى الأرض، وهو ـ سبحانه ـ الذى أشهدهم بأن جعلهم يعلمون ما يشهدون به، وينطقون به وإعلامه لهم بذلك هو شهادة منه بذلك، فهذا أيضاً من شهادته‏.‏
    وقد قال تعالى‏:‏‏{‏لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏64‏]‏، وفسر النبى صلى الله عليه وسلم البشرى بالرؤيا الصالحة، وفسرها بثناء الناس وحمدهم، والبشرى خبر بما يسر، والخبر شهادة بالبشرى من شهادة الله تعالى، والله ـ سبحانه ـ أعلم‏.‏
    وسئل ـ رحمه الله ـ عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏97‏]‏‏:‏ المراد به أمنه عند الموت من الكفر عند عرض الأديان، أم المراد به إذا أحدث حدثًا لا يقتص منه ما دام فى الحرم‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    التفسير المعروف فى أن الله جعل الحرم بلداً آمنا قدراً وشرعا، فكانوا فى الجاهلية يسفك بعضهم دماء بعض خارج الحرم، فإذا دخلوا الحرم، أو لقى الرجل قاتل أبيه، لم يهجروا حرمته، ففى الإسلام كذلك وأشد‏.‏
    لكن لو أصاب الرجل حَدا خارج الحرم ثم لجأ إليه فهل يكون آمنا لا يقام عليه الحد فيه أم لا‏؟‏ فيه نزاع‏.‏ وأكثر السلف على أنه يكون آمنا، كما نقل عن ابن عمر وابن عباس وغيرهما، وهو مذهب أبى حنيفة والإمام أحمد بن حنبل وغيرهما‏.‏
    وقد استدلوا بهذه الآية وبقول النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله حَرَّم مكة يوم خلق اللّّه السموات والأرض، وأنها لم تحل لأحد قبلى، ولا تحل لأحد بعدى، وإنما أحلت لى ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها، فإن أحد ترخص بقتال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقولوا‏:‏ إنما أحلها اللّه لرسوله ولم يحلها لك‏)‏‏.‏
    ومعلوم أن الرسول إنما أبيح له فيها دم من كان مباحا فى الحل، وقد بين أن ذلك أبيح له دون غيره‏.‏
    والمراد بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَن دَخَلَهُ‏}‏‏:‏ الحرم كله‏.‏
    وأما عرض الأديان وقت الموت فيبتلى به بعض الناس دون بعض، ومن لم يحج خيف عليه الموت على غير الإسلام، كما جاء فى الحديث‏:‏ ‏(‏من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله ثم لم يحج، فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانيا‏)‏‏.‏والله أعلم‏.‏
    وللشّيخ ـ رَحمَه الله ‏:‏
    فى قـوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 175‏]‏‏:‏ هذا هو الصواب الذى عليه جمهور المفسرين؛ كابن عباس، وسعيد بن جُبيْر، وعِكْرمة، والنَّخعِى‏.‏ وأهل اللغة كالفَرَّاء، وابن قتيبة، والزجاج، وابن الأنبارى‏.‏ وعبارة الفراء‏:‏ يخوفكم بأوليائه، كما قال‏:‏ ‏{‏لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 2‏]‏، ببأس شديد، وقوله‏:‏‏{‏لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏15‏]‏، وعبارة الزجاج‏:‏ يخوفكم من أوليائه‏.‏
    قال ابن الأنبارى‏:‏ والذى نختاره فى الآية‏:‏ يخوفكم أولياءه‏.‏ تقول العرب‏:‏ أعطيت الأموال،أي‏:‏ أعطيت القوم الأموال فيحذفون المفعول الأول ويقتصرون على ذكر الثانى؛ وهذا لأن الشيطان يخوف الناس أولياءه تخويفا مطلقا، ليس له فى تخويف ناس بناس ضرورة، فحذف الأول ليس مقصوداً، وهذا يسمى حذف اختصار، كما يقال‏:‏ فلان يعطى الأموال والدراهم‏.‏
    وقد قال بعض المفسرين‏:‏ يخوف أولياءه المنافقين، ونقل هذا عن الحسن والسُّدِّى، وهذا له وجه سنذكره، لكن الأول أظهر؛ لأن الآية إنما نزلت بسبب تخويفهم من الكفار، كما قال قبلها‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً‏}‏ الآيات ‏[‏آل عمران‏:‏173‏]‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ فهى إنما نزلت فيمن خوف المؤمنين من الناس، وقد قال‏:‏‏{‏يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ‏}‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَخَافُوهُمْ‏}‏، والضمير عائد إلى أولياء الشيطان الذين قال فيهم‏:‏ ‏{‏َاخْشَوْهُمْ‏}‏ قبلها‏.‏
    وأما ذلك القول، فالذى قاله فسرها من جهة المعنى، وهو أن الشيطان إنما يخوف أولياءه بالمؤمنين؛ لأن سلطانه على أوليائه بخوف يدخل عليهم المخاوف دائما، فالمخاوف منصبة إليهم محيطة بقولهم، وإن كانوا ذوي هيئات وعَدَد وعُدَد فلا تخافوهم‏.‏
    وأما المؤمنون فهم متوكلون على الله، لا يخوفهم الكفار، أو أنهم أرادوا المفعول الأول، أى يخوف المنافقين أولياءه، وإلا فهو يخوف الكفار، كما يخوف المنافقين، ولو أنه أريد أنه يخوف أولياءه، أى يجعلهم خائفين لم يكن للضمير ما يعود عليه، وهو قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَخَافُوهُمْ‏}‏ وأيضا، فهذا فيه نظر؛ فإن الشيطان يَعِد أولياءه ويُمَنِّيهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏48‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏120‏]‏‏.‏
    ولكن الكفار يلقى الله فى قلوبهم الرعب من المؤمنين والشيطان لا يختار ذلك، قال تعالى‏:‏‏{‏لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏13‏]‏،وقال تعالى‏:‏‏{‏إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏12‏]‏، وقال‏:‏‏{‏سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ‏}‏‏[‏آل عمران‏:‏151‏]‏، وفى حديث قرطبة أن جبريل قال‏:‏ ‏(‏إنى ذاهب إليهم فمزلزل بهم الحِصْن‏)‏‏.‏ فتخويف الكفار والمنافقين وإرعابهم هو من الله نصرة للمؤمنين‏.‏
    ولكن الذين قالوا ذلك من السلف أرادوا‏:‏ أن الشيطان يخوف الذين أظهروا الإسلام، فهم يوالون العدو، فصاروا بذلك منافقين، وإنما يخاف من الكفار المنافقون بتخويف الشيطان لهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏56‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ‏}‏ الآيات، إلى قوله‏:‏ ‏{‏يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏19، 20‏]‏، فكلا القولين صحيح من حيث المعنى، لكن لفظ أوليائه هم الذين يجعلهم الشيطان مخوفين لا خائفين، كما دل عليه سياق الآية ولفظها، والله أعلم‏.‏
    وإذا جعلهم الشيطان مخوفين، فإنما يخافهم من خوفه الشيطان منهم فجعله خائفاً‏.‏
    فالآية دلت على أن الشيطان يجعل أولياءه مخوفين، ويجعل ناساً خائفين منهم، ودلت الآية على أن المؤمن لا يجوز له أن يخاف أولياء الشيطان، ولا يخاف الناس، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏، بل يجب عليه أن يخاف الله، فخوف اللّه أمر به وخوف الشيطان وأوليائه نهى عنه‏.‏
    وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏150‏]‏، فنهى عن خشية الظالم وأمر بخشيته، والذين يبلغون رسالات اللّه ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا اللّه‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏51‏]‏‏.‏
    وبعض الناس يقول‏:‏ يارب، إنى أخافك وأخاف من لا يخافك، وهذا كلام ساقط لا يجوز، بل على العبد أن يخاف اللّه وحده، ولا يخاف أحدًا، لا من يخاف الله ولا من لا يخاف الله؛ فإن من لا يخاف اللّه أخس وأذل أن يخاف؛ فإنه ظالم وهو من أولياء الشيطان، فالخوف منه قد نهى الله عنه، والله أعلم‏.‏
    وَقاَلَ شيخ الإِسلام فى الكلام على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏27‏]‏‏.‏
    فذكر ما يتعلق بشهوات الآدميين من سائر ما تشتهيه أنفسهم حتى النساء والمردان، وقال‏:‏
    العبد يجب عليه إذا وقع فى شىء من ذلك أن يجاهد نفسه وهواه، وتكون مجاهدته للّه ـ تعالى ـ وحده‏.‏
    ثم قال‏:‏ وميل النفس إلى النساء عام فى طبع جميع بنى آدم، وقد يبتلى كثير منهم بالميل إلى الذكران كالمردان، وإن لم يكن يفعل الفاحشة الكبرى كان بما هو دون ذلك من المباشرة، وإن لم تكن كان بالنظر، ويحصل للنفس بذلك ما هو معروف عند الناس‏.‏
    وقد ذكر الناس من أخبار العشاق ما يطول وصفه، فإذا ابتلى المسلم ببعض ذلك كان عليه أن يجاهد نفسه فى طاعة الله ـ تعالى ـ وهو مأمور بهذا الجهاد، وليس هو أمراً حرمه على نفسه فيكون فى طاعة نفسه وهواه، بل هو أمر حرمه اللّه ورسوله ولا حيلة فيه، فتكون المجاهدة للنفس فى طاعة اللّه ورسوله‏.‏
    وفى حديث أبى يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعا‏:‏ ‏(‏من عشق فعَفَّ وكتم وصبر ثم مات، فهو شهيد‏)‏ وأبو يحيى فى حديثه نظر، لكن المعنى الذى ذكر فيه دل عليه الكتاب والسنة؛ فإن اللّه أمره بالتقوى والصبر، فمن التقوى أن يعف عن كل ما حرم الله من نظر بعين، ومن لفظ بلسان، ومن حركة بيد ورجل‏.‏ والصبر أن يصبر عن شكوى به إلى غير الله، فإن هذا هو الصبر الجميل‏.‏
    وأما الكتمان فيراد به شيئان‏:‏
    أحدهما‏:‏ أن يكتم بَثَّه وألمه، ولا يشكو إلى غير اللّه، فمتى شكا إلى غير اللّه نقص صبره، وهذا أعلى الكتمانين، لكن هذا لا يصبر عليه كل أحد، بل كثير من الناس يشكو ما به، وهذا على وجهين؛ فإن شكا ذلك إلى طبيب يعرف طب النفوس ليعالج نفسه بعلاج الإيمان فهو بمنزلة المستفتى، وهذا حسن‏.‏ وإن شكا إلى من يعينه على المحرم فهذا حرام‏.‏ وإن شكا إلى غيره لما فى الشكوى من الراحة كما أن المصاب يشكى مصيبته إلى الناس من غير أن يقصد تعلم ما ينفعه، ولا الاستعانة على معصية، فهذا ينقص صبره، لكن لا يأثم مطلقاً إلا إذا اقترن به ما يحرم كالمصاب الذى يتسخط‏.‏
    والثانى‏:‏ أن يكتم ذلك فلا يتحدث به مع الناس؛ لما فى ذلك من إظهار السوء والفاحشة؛ فإن النفوس إذا سمعت مثل هذا تحركت وتشهت وتمنت وتتيمت‏.‏ والإنسان متى رأى أو سمع أو تخيل من يفعل ما يشتهيه، كان ذلك داعيا له إلى الفعل، والنساء متى رأين البهائم تنزو الذكور منها على الإناث مِلْنَ إلى الباءة والمجامعة، والرجل إذا سمع من يفعل مع المردان والنساء أو رأى ذلك أو تخيله فى نفسه، دعاه ذلك إلى الفعل، وإذا ذكر الإنسان طعاما اشتهاه ومال إليه، وإن وصف له ما يشتهيه من لباس أو امرأة أو مسكن أو غير ذلك، مالت نفسه إليه، والغريب عن وطنه متى ذكر بالوطن حَنَّ إليه‏.‏
    فكل ما كان فى نفس الإنسان محبته إذا تصوره تحركت المحبة والطلب إلى ذلك المحبوب المطلوب، إما إلى وصفه وإما إلى مشاهدته، وكلاهما يحصل به تخيل فى النفس، وقد يحصل التخيل بالسماع والرؤية أو التفكر فى بعض الأمور المتعلقة به؛ فإذا تخيلت النفس تلك الأمور المتعلقة انقلبت إلى تخيلة أخرى فتحركت داعية المحبة، سواء كانت المحبة محمودة أو مذمومة‏.‏
    ولهذا تتحرك النفوس إلى الحج إذا ذكر الحجاز، وتتحرك بذكر الأبرق والأجرع والعُلَى ونحو ذلك؛ لأنه رأى تلك المنازل لما كان ذاهبا إلى المحبوب، فصار ذكرها يذكر المحبوب‏.‏ وكذلك إذا ذكر رسول صلى الله عليه وسلم تذكر به، وتحركت محبته‏.‏
    فالمبتلى بالفاحشة والعشق، إذا ذكر ما به لغيره تحركت النفوس إلى جنس ذلك؛ لأن النفوس مجبولة على حب الصور الجميلة، فإذا تصورت جنس ذلك تحركت إلى المحبوب؛ ولهذا نهى اللّه عن إشاعة الفاحشة‏.‏

    وسئل الشّيخ ـ رَحمَه الله ـ عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏34‏]‏، وقوله تعالى‏:‏‏{‏وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا‏}‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏11‏]‏، يبين لنا شيخنا هذا النشوز من ذاك‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله رب العالمين،النشوز فى قوله تعالى‏:‏‏{‏تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ‏}‏‏:‏ هو أن تنشز عن زوجها فتنفر عنه، بحيث لا تطيعه إذا دعاها للفراش، أو تخرج من منزله بغير إذنه، ونحو ذلك مما فيه امتناع عما يجب عليها من طاعته‏.‏
    وأما النشوز فى قوله‏:‏‏{‏وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا‏}‏، فهو النهوض والقيام والارتفاع‏.‏ وأصل هذه المادة هو الارتفاع والغلظ، ومنه النشز من الأرض وهو المكان المرتفع الغليظ، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏259‏]‏، أى نرفع بعضها إلى بعض، ومن قرأ ‏(‏ننشرها‏)‏ أراد نحييها، فسمى المرأة العاصية ناشزاً لما فيها من الغلظ والارتفاع عن طاعة زوجها، وسمى النهوض نشوزاً؛ لأن القاعد يرتفع عن الأرض، والله أعلم‏.‏
    وقـال‏:‏
    فصــل
    قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ‏}‏ في النساء ‏[‏الآيتان‏:‏36، 37‏]‏، وفى الحديد أنه ‏{‏لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ‏}‏ ‏[‏ الآيتان‏:‏23، 24‏]‏، قد تؤولت فى البخل بالمال والمنع، والبخل بالعلم ونحوه، وهى تعم البخل بكل ما ينفع فى الدين والدنيا من علم ومال وغير ذلك، كما تأولوا قوله‏:‏ ‏{‏وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏3،الأنفال‏:‏3‏]‏، النفقة من المال، والنفقة من العلم‏.‏ وقال معاذ فى العلم‏:‏تعلمه لمن لا يعلمه صدقة‏.‏ وقال أبو الدرداء‏:‏ ما تصدق رجل بصدقة أفضل من موعظة يعظ بها جماعة، فيتفرقون وقد نفعهم الله بها، أو كما قال‏.‏ وفى الأثر‏:‏ نعمت العطية ونعمت الهدية، الكلمة من الخير يسمعها الرجل، ثم يهديها إلى الأخ له، أو كما قال‏.‏
    وهذه صدقة الأنبياء وورثتهم العلماء؛ ولهذا كان الله، وملائكته، وحيتان البحر، وطير الهواء، يصلون على معلم الناس الخير، كما أن كاتم العلم يلعنه اللّه ويلعنه اللاعنون، وبسط هذا كثير فى فضل بيان العلم وذم ضده‏.‏
    والغرض هنا أن الله يبغض المختال الفخور البخيل به، فالبخيل به الذى منعه، والمختال إما أن يختال فلا يطلبه ولا يقبله، وإما أن يختال على بعض الناس فلا يبذله، وهذا كثيراً ما يقع عند بعض الناس أنه يبخل بما عنده من العلم، ويختال به، وأنه يختال عن أن يتعدى من غيره، وضد ذلك التواضع فى طلبه،وبذله، والتكرم بذلك‏.‏
    وقال شيخ الإِسلاَم ـ رَحِمهُ اللَّه‏:‏
    فصــل
    قد كتبنا فى غير موضع الكلام على جمع الله ـ تعالى ـ بين الخيلاء والفخر وبين البخل،كما فى قوله‏:‏‏{‏إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ‏}‏ فى النساء ‏[‏36، 37‏]‏ والحديد ‏[‏23، 24‏]‏، وضد ذلك الإعطاء والتقوى المتضمنة للتواضع،كما قال‏:‏‏{‏فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏5‏]‏، وقال‏:‏‏{‏إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏128‏]‏، وهذان الأصلان هما جماع الدين العام، كما يقال‏:‏ التعظيم لأمر الله، والرحمة لعباد الله‏.‏
    فالتعظيم لأمر اللّه يكون بالخشوع والتواضع، وذلك أصل التقوى والرحمة لعباد الله بالإحسان إليهم، وهذان هما حقيقة الصلاة والزكاة، فإن الصلاة متضمنة للخشوع لله والعبودية له، والتواضع له،والذل له، وذلك كله مضاد للخيلاء والفخر والكبر‏.‏ والزكاة متضمنة لنفع الخلق والإحسان إليهم، وذلك مضاد للبخل‏.‏
    ولهذا وغيره، كثر القِران بين الصلاة والزكاة فى كتاب الله‏.‏
    وقد ذكرنا فيما تقدم‏:‏أن الصلاة بالمعنى العام تتضمن كل ما كان ذكراً للّه أو دعاء له، كما قال عبد اللّه بن مسعود‏:‏ مادمتَ تذكر اللّه فأنت فى صلاة، ولو كنت فى السوق، وهذا المعنى ـ وهو دعاء اللّه أى قصده والتوجه إليه المتضمن ذكره على وجه الخشوع والخضوع ـ هو حقيقة الصلاة الموجودة فى جميع موارد اسم الصلاة، كصلاة القائم والقاعد والمضطجع‏.‏ والقارئ والأمى والناطق والأخرس، وإن تنوعت حركاتها وألفاظها؛ فإن إطلاق لفظ الصلاة على مواردها هو بالتواطؤ المنافى للاشتراك والمجاز، وهذا مبسوط فى غير هذا الموضع‏.‏
    إذ من الناس من ادَّعى فيها الاشتراك،ومنهم من ادعى المجاز، بناء على كونها منقولة من المعنى اللغوى، أو مزيدة، أو على غير ذلك، وليس الأمر كذلك، بل اسم الجنس العام المتواطئ المطلق إذا دل على نوع أو عين، كقولك‏:‏ هذا الإنسان وهذا الحيوان، أو قولك‏:‏ هات الحيوان الذى عندك وهى غنم، فهنا اللفظ قد دل على شيئين‏:‏ على المعنى المشترك الموجود فى جميع الموارد وعلى ما يختص به هذا النوع أو العين، فاللفظ المشترك الموجود في جميع التصاريف على القدر المشترك، وما قرن باللفظ من لام التعريف مثلا أو غيرها دل على الخصوص والتعيين، وكما أن المعنى الكلى المطلق لا وجود له فى الخارج، فكذلك لا يوجد فى الاستعمال لفظ مطلق مجرد عن جميع الأمور المعينة‏.‏
    فإن الكلام إنما يفيد بعد العَقْدِ والتركيب، وذلك تقييد وتخصيص كقولك‏:‏ أكرم الإنسان أو الإنسان خير من الفرس‏.‏ ومثله قوله‏:‏ ‏{‏أَقِمِ الصَّلَاةَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏78‏]‏، ونحو ذلك‏.‏ ومن هنا غلط كثير من الناس فى المعانى الكلية، حيث ظنوا وجودها فى الخارج مجردة عن القيود، وفي اللفظ المتواطئ حيث ظنوا تجرده فى الاستعمال عن القيود‏.‏ والتحقيق‏:‏ أنه لا يوجد المعنى الكلي المطلق في الخارج إلا معينًا مقيدًا، ولا يوجد اللفظ الدال عليه في الاستعمال إلا مقيداً مخصصاً، وإذا قدر المعنى مجرداً كان محله الذهن، وحينئذ يقدر له لفظ مجرد غير موجود فى الاستعمال مجرداً‏.‏
    والمقصود هنا أن اسم الصلاة فيه عموم وإطلاق، ولكن لا يستعمل إلا مقروناً بقيد إنما يختص ببعض موارده كصلواتنا، وصلاة الملائكة، والصلاة من اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ وإنما يغلط الناس فى مثل هذا، حيث يظنون أن صلاة هذا الصنف مثل صلاة هذا، مع علمهم بأن هذا ليس مثل هذا، فإذا لم يكن مثله لم يجب أن تكون صلاته مثل صلاته، وإن كان بينهما قدر متشابه، كما قد حققنا هذا فى الرد على الاتحادية والجهمية والمتفلسفة ونحوهم‏.‏
    ومن هذا الباب أسماء الله وصفاته، والتى يسمى ويوصف العباد بما يشبهها، كالحى والعليم والقدير، ونحو ذلك‏.‏
    وكذلك اسم الزكاة هو المعنى العام،كما فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏كل معروف صدقة‏)‏؛ ولهذا ثبت فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏‏(‏على كل مسلم صدقة‏)‏، وأما الزكاة المالية المفروضة فإنما تجب على بعض المسلمين فى بعض الأوقات، والزكاة المقارنة للصلاة تشاركها فى أن كل مسلم عليه صدقة، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏ قالوا‏:‏ فإن لم يجد‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ فإن لم يستطع‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏يعين صانعا أو يصنع لأخْرَق‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ فإن لم يستطع‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏يكف نفسه عن الشر‏)‏‏.‏
    وأما قوله فى الحديث الصحيح ـ حديث أبى ذر وغيره ـ‏:‏ ‏(‏على كل سُلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهى عن المنكر صدقة‏)‏، فهذا ـ إن شاء اللّه ـ كتضمن هذه الأعمال نفع الخلائق؛ فإنه بمثل هذا العامل يحصل الرزق والنصر والهدى، فيكون ذلك من الصدقة على الخلق‏.‏
    ثم إن هذه الأعمال هى من جنس الصلاة، وجنس الصلاة الذى ينتفع به الغير يتضمن المعنيين‏:‏ الصلاة والصدقة، ألا ترى أن الصلاة على الميت صلاة وصدقة‏؟‏ وكذلك كل دعاء للغير واستغفار، مع أن الدعاء للغير دعاء للنفس أيضاً، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏ما من رجل يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة إلا وكل اللّه به ملكا، كلما دعا له بدعوة قال الملك الموكل به‏:‏ آمين، ولك بمثل‏)‏‏.‏
    وقــال‏:‏
    فصــل
    قول الناس‏:‏ الآدمى جَبَّار ضعيف، أو فلان جبار ضعيف؛ فإن ضعفه يعود إلى ضعف قواه، من قوة العلم والقدرة، وأما تجبره فإنه يعود إلى اعتقاداته وإراداته، أما اعتقاده‏:‏ فأن يتوهم فى نفسه أنه أمر عظيم فوق ما هو ولا يكون ذلك، وهذا هو الاختيال والخيلاء والمخيلة، وهو أن يتخيل عن نفسه ما لا حقيقة له، ومما يوجب ذلك مدحه بالباطل نظما ونثراً وطلبه للمدح الباطل، فإنه يورث هذا الاختيال‏.‏
    وأما الإرادة‏:‏ فإرادة أن يتعظم ويعظم، وهو إرادة العلو فى الأرض والفخر على الناس، وهو أن يريد من العلو ما لا يصلح له أن يريده، وهو الرئاسة والسلطان، حتى يبلغ به الأمر إلى مزاحمة الربوبية كفرعون، ومزاحمة النبوة، وهذا موجود فى جنس العلماء والعُبَّاد والأمراء وغيرهم‏.‏
    وكل واحد من الاعتقاد والإرادة يستلزم جنس الآخر؛ فإن من تخيل أنه عظيم أراد ما يليق بذلك الاختيال، ومن أراد العلو فى الأرض فلابد أن يتخيل عظمة نفسه وتصغير غيره، حتى يطلب ذلك، ففى الإرادة يتخيله مقصوداً، وفى الاعتقاد يتخيله موجوداً، ويطلب توابعه من الإرادات‏.‏
    وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏18‏]‏، وقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الكبر بَطَر الحق وغَمْط الناس‏)‏، فالفخر يشبه غمط الناس، فإن كليهما تكبر على الناس، وأما بطر الحق ـ وهو جحده ودفعه ـ فيشبه الاختيال الباطل، فإنه تخيل أن الحق باطل بجحده ودفعه‏.‏
    ثم هنا وجهان‏:‏
    أحدهما‏:‏ أن يجعل الاختيال وبطر الحق من باب الاعتقادات، وهو أن يجعل الحق باطلا والباطل حقاً، فيما يتعلق بتعظيم النفس وعلو قدرها،فيجحد الحق الذى يخالف هواها وعلوها، ويتخيل الباطل الذى يوافق هواها وعلوها،ويجعل الفخر وغمط الناس من باب الإرادات؛ فإن الفاخر يريد أن يرفع نفسه ويضع غيره، وكذلك غامط الناس‏.‏
    يؤيد هذا ما رواه مسلم فى صحيحه عن عياض بن حمار المجاشعى، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إنه أوحى إلى أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغى أحد على أحد‏)‏، فبين أن التواضع المأمور به ضد البغى والفخر‏.‏ وقال فى الخيلاء التى يبغضها اللّه‏:‏ ‏(‏الاختيال فى الفخر والبغى‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏‏[‏بياض بالأصل‏]‏، فكان فى ذلك ما دل على أن الاستطالة على الناس، إن كانت بغير حق فهى بغى؛ إذ البغى مجاوزة الحد، وإن كانت بحق فهى الفخر، لكن يقال على هذا‏:‏ البغى يتعلق بالإرادة، فلا يجوز أن يجعل هو من باب الاعتقاد وقسيمه من باب الإرادة، بل البغى كأنه فى الأعمال والفخر فى الأقوال، أو يقال‏:‏ البغى بطر الحق، والفخر غمط الناس‏.‏
    الوجه الثانى‏:‏ أن يكونا جميعاً متعلقين بالاعتقاد والإرادة، لكن الخيلاء غمط الحق، يعود إلى الحق فى نفسه، الذى هو حق الله، وإن لم يكن يتعلق به حق آدمى، والفخر وغمط الناس يعود إلى حق الآدميين، فيكون التنويع لتمييز حق الآدميين مما هو حق لله لا يتعلق الآدميين؛ بخلاف الشهوة فى حال الزنا، وأكل مال الغير؛ فلما قال ـ سبحانه ـ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن
    كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏36،37‏]‏ والبخل منع النافع ـ قيد هذا بهذا، وقد كتبت فيما قبل هذا من التعاليق‏:‏ الكلام فى التواضع والإحسان والكلام فى التكبر والبخل‏.
    وَقَالَ شيخ الإسلام‏:‏
    قوله‏:‏‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ‏}‏ الآية بعد قوله‏:‏‏{‏كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏78، 79‏]‏، لو اقتصر على الجمع أعرض العاصى عن ذم نفسه، والتوبة من الذنب، والاستعاذة من شره، وقام بقلبه حجة إبليس، فلم تزده إلا طرداً، كما زادت المشركين ضلالا حين قالوا‏:‏ ‏{‏لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏‏.‏
    ولو اقتصر على الفرق لغابوا عن التوحيد والإيمان بالقدر، واللجاء إلى اللّه فى الهداية، كما فى خطبته صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الحمد الله، نحمده ونستعينه ونستغفره‏)‏ فيشكره ويستعينه على طاعته، ويستغفره من معصيته، ويحمده على إحسانه‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏ونعوذ بالله من شرور أنفسنا‏)‏ إلى آخره، لما استغفر من المعاصى استعاذه من الذنوب التى لم تقع ثم قال‏:‏‏(‏ومن سيئات أعمالنا‏)‏،أى‏:‏ومن عقوباتها،ثم قال‏:‏‏(‏من يهد الله فلا مضل له‏)‏إلخ‏.‏ شهادة بأنه المتصرف فى خلقه، ففيه إثبات القضاء الذى هو نظام التوحيد، هذا كله مقدمة بين يدى الشهادتين، فإنما يتحققان بحمد الله وإعانته، واستغفاره واللجاء إليه، والإيمان بأقداره‏.‏ فهذه الخطبة عقد نظام الإسلام والإيمان‏.‏
    وقال‏:‏ كون الحسنات من الله والسيئات من النفس له وجوه‏:‏
    الأول‏:‏ أن النعم تقع بلا كسب‏.‏
    الثانى‏:‏ أن عمل الحسنات من إحسان الله إلى عبده، فخلق الحياة، وأرسل الرسل، وحبب إليهم الإيمان‏.‏ وإذا تدبرت هذا شكرت الله فزادك، وإذا علمت أن الشر لا يحصل إلا من نفسك تبت فزال‏.‏
    الثالث‏:‏ أن الحسنة تضاعف‏.‏
    الرابع‏:‏ أن الحسنة يحبها ويرضاها، فيحب أن ينعم، ويحب أن يطاع؛ ولهذا تأدب العارفون فأضافوا النعم إليه والشر إلى محله، كما قال إمام الحنفاء‏:‏‏{‏الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ‏}‏ إلى قوله‏:‏‏{‏وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏78ـ80‏]‏‏.‏
    الخامس‏:‏ أن الحسنة مضافة إليه لأنه أحسن بها بكل اعتبار، وأما السيئة فما قدرها إلا لحكمة‏.‏
    السادس‏:‏ أن الحسنات أمور وجودية متعلقة بالرحمة والحكمة؛ لأنها إما فعل مأمور أو ترك محظور، والترك أمر وجودى، فتركه لما عرف أنه ذنب،وكراهته له ومنع نفسه منه أمور وجودية، وإنما يثاب على الترك على هذا الوجه‏.‏
    وقد جعل النبى صلى الله عليه وسلم البغض فى الله من أوثق عُرَى الإيمان، وهو أصل الترك، وجعل المنع لله من كمال الإيمان وهو أصل الترك‏.‏ وكذلك براءة الخليل من قومه المشركين ومعبوديهم ليست تركا محضاً، بل صادراً عن بغض وعداوة‏.‏ وأما السيئات فمنشؤها من الظلم والجهل‏.‏ وفى الحقيقة كلها ترجع إلى الجهل، وإلا فلو تم العلم بها لم يفعلها؛ فإن هذا خاصة العقل،وقد يغفل عن هذا كله بقوة وارد الشهوة، والغفلة، والشهوة أصل الشر، كما قال تعالى‏:‏‏{‏وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا‏}‏الآية ‏[‏الكهف‏:‏28‏]‏‏.‏
    السابع‏:‏ أن ابتلاءه له بالذنوب عقوبة له على عدم فعل ما خلق له وفطر عليه‏.‏
    الثامن‏:‏ أن ما يصيبه من الخير والنعم لا تنحصر أسبابه من إنعام الله عليه، فيرجع فى ذلك إلى الله، ولا يرجو إلا هو؛ فهو يستحق الشكر التام الذى لا يستحقه غيره، وإنما يستحق من الشكر جزاء على ما يسره الله على يديه،ولكن لا يبلغ أن يشكر بمعصية الله، فإنه المنعم بما لا يقدر عليه مخلوق، ونعم المخلوق منه أيضاً، وجزاؤه على الشكر والكفر لا يقدر أحد على مثله‏.‏
    فإذا عرف أن ‏{‏مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏2‏]‏ صار توكله ورجاؤه إلى الله وحده، وإذا عرف ما يستحقه من الشكر الذى يستحقه صار له‏.‏‏.‏‏.‏‏[‏بياض بالأصل‏]‏، والشر انحصر سببه فى النفس؛ فعلم من أين يؤتى فتاب واستعان بالله، كما قال بعض السلف‏:‏ لا يرجون عبد إلا ربه، ولا يخاف إلا ذنبه،وقد تقدم قول السلف ـ ابن عباس وغيره ـ أن ما أصابهم يوم أحد مطلقاً كان بذنوبهم لم يستثن أحد، وهذا من فوائد تخصيص الخطاب؛ لئلا يظن أنه عام مخصوص‏.‏
    التاسع‏:‏ أن السيئة إذا كانت من النفس والسيئة خبيثة، كما قال تعالى‏:‏‏{‏الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ‏}‏ الآية‏[‏النور‏:‏26‏]‏،قال جمهور السلف‏:‏الكلمات الخبيثات للخبيثين،وقال‏:‏‏{‏وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 26‏]‏،وقال‏:‏ ‏{‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏10‏]‏ والأقوال والأفعال صفات للقائل الفاعل، فإذا اتصفت النفس بالخبث فمحلها ما يناسبها،فمن أراد أن يجعل الحيات يعاشرن الناس كالسنانير لم يصلح،بل إذا كان فى النفس خبث طهرت حتى تصلح للجنة، كما فى حديث أبى سعيد ـ الذى فى الصحيح ـ وفيه‏:‏ ‏(‏حتى إذا هُذِّبوا ونُقُّوا أذن لهم فى دخول الجنة‏)‏‏.‏
    فإذا علم الإنسان أن السيئة من نفسه لم يطمع فى السعادة التامة، مع ما فيه من الشر، بل علم تحقيق قوله‏:‏ ‏{‏مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏123‏]‏، ‏{‏فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 7‏]‏ إلخ‏.‏ وعلم أن الرب عليم حكيم، رحيم عدل، وأفعاله على قانون العدل والإحسان، كما فى الصحيح‏:‏ ‏(‏يمين الله ملأى‏)‏ إلى قوله‏:‏ ‏(‏والقسط بيده الأخرى‏)‏ وعلم فساد قول الجهمية الذين يجعلون الثواب والعقاب بلا حكمة ولا عدل‏.‏
    إلى أن قال‏:‏ ومن سلك مسلكهم غايته إذا عظم الأمر والنهى أن يقول ـ كما نقل عن الشاذلى ‏[‏هو أبو الحسن على بن عبد الله بن عبد الجبار بن يوسف بن هرمز الشاذلى المغربى، رأس الطائفة الشاذلية، من المتصوفة، وصاحب الأوراد المسماة ـ حزب الشاذلى ـ ولد سنة 591 هـ، سكن شاذلة قرب تونس، فنسب إليها، وتوفى سنة 656 هـ‏]‏ ـ يكون الجمع فى قلبك مشهوداً، والفرق على لسانك موجودا، كما يوجد فى كلامه وكلام غيره أقوال وأدعية تستلزم تعطيل الأمر والنهى، مما يوجب أن يجوز عنده أن يجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين فى الأرض، ويدعون بأدعية فيها اعتداء، كما فى حزب الشاذلي‏.‏ وآخرون من عوامهم يجوزون أن يكرم الله بكرامات الأولياء لمن هو فاجر وكافر، ويقولون‏:‏ هذه موهبة، ويظنونها من الكرامات وهى من الأحوال الشيطانية التى يكون مثلها للسحرة والكهان، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏هَارُوتَ وَمَارُوتَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 101، 102‏]‏، وصح قوله‏:‏ ‏(‏لتتبعن سنن من كان قبلكم‏)‏‏.‏
    فعدل كثير من المنتسبين إلى الإسلام إلى أن نبذ القرآن وراء ظهره، واتبع ما تتلو الشياطين فلا يعظم أمر القرآن ونهيه ولا يوالى من أمر القرآن بموالاته، ولا يعادى من أمر القرآن بمعاداته بل يعظم من يأتى ببعض الخوارق‏.‏
    ثم منهم من يعرف أنه من الشياطين لكن يعظمه لهواه، ويفضله على طريقة القرآن، وهؤلاء كفار، قال الله ـ تعالى ـ فيهم‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ‏}‏ إلخ ‏[‏النساء‏:‏ 51‏]‏‏.‏
    قال‏:‏ وفى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏‏[‏النساء‏:‏79‏]‏ من الفوائد‏:‏ أن العبد لا يطمئن إلى نفسه، ولا يشتغل بملام الناس وذمهم، بل يسأل اللّه أن يعينه على طاعته؛ ولهذا كان أنفع الدعاء وأعظمه دعاء الفاتحة، وهو محتاج إلى الهدى كل لحظة، ويدخل فيه من أنواع الحاجات ما لا يمكن حصره، ويبينه أن الله ـ سبحانه ـ لم يقص علينا قصة فى القرآن إلا لنعتبر، وإنما يكون الاعتبار إذا قِسْنَا الثانى بالأول، فلولا أن في النفوس ما فى نفوس المكذبين للرسل لم يكن بنا حاجة إلى الاعتبار بمن لا نشبهه قط، ولكن الأمر كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏43‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَتَوَاصَوْا بِهِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏53‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏118‏]‏ ولهذا فى الحديث‏:‏ ‏(‏لتسلكن سنن من كان قبلكم‏)‏‏.‏
    وقد بين القرآن أن السيئات من النفس، وأعظم السيئات جحود الخالق والشرك به، وطلب أن يكون شريكا له، وكلا هذين وقع‏.‏
    وقال بعضهم‏:‏ ما من نفس إلا وفيها ما فى نفس فرعون، وذلك أن الإنسان إذا اعتبر وتعرف أحوال الناس رأى ما يبغض نظيره وأتباعه حسداً، كما فعلت اليهود لما بعث الله من يدعو إلى مثل ما دعا إليه موسى؛ ولهذا أخبر عنهم بنظير ما أخبر به عن فرعون‏.‏
    وَقَالَ الشّيخ الإمَام العَالم العَلاّمة شيخ الإسلام تقى الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحرانى ـ تغمده الله تعالى برحمته‏:‏
    الحمد للّه نحمده ونستعينه، ونستهديه ونستغفره‏.‏ ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له‏.‏
    وأشهد أن لا إله إلا اللّه، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏
    فصــل
    فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏79‏]‏ وبعض ما تضمنته من الحكم العظيمة‏.‏
    هذه الآية ذكرها اللّه فى سياق الأمر بالجهاد، وذم الناكثين عنه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏71‏]‏ الآيات إلى أن ذكر صلاة الخوف، وقد ذكر قبلها طاعة اللّه وطاعة الرسول، والتحاكم إلى اللّه وإلى الرسول، ورد ما تنازع فيه الناس إلى اللّه وإلى الرسول، وذم الذين يتحاكمون ويردون ما تنازعوا فيه إلى غير اللّه والرسول‏.‏
    فكانت تلك الآيات تبييناً للإيمان باللّه وبالرسول؛ ولهذا قال فيها‏:‏ ‏{‏فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏65‏]‏‏.‏
    وهذا جهاد عما جاء به الرسول، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 15‏]‏‏.‏
    وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏24‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏19-21‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 10-14‏]‏‏.‏
    وذكر بعد آيات الجهاد إنزال الكتاب على رسول اللّه ليحكم بين الناس بما أراه اللّه، ونهيه عن ضد ذلك، وذكره فضل الله عليه ورحمته فى حفظه، وعصمته من إضلال الناس له، وتعليمه ما لم يكن يعلم، وذم من شاق الرسول واتبع غير سبيل المؤمنين، وتعظيم أمر الشرك، وشديد خطره وأن اللّه لا يغفره ولكن يغفر ما دونه لمن يشاء ـ إلى أن بين أن أحسن الأديان دينُ من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئا، بشرط أن تكون عبادته بفعل الحسنات التى شرعها، لا بالبدع والأهواء، وهم أهل ملة إبراهيم، الذين اتبعوا ملة إبراهيم حنيفا ‏{‏وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 125‏]‏‏.‏
    فكان فى الأمر بطاعة الرسول والجهاد عليها اتباع التوحيد، وملة إبراهيم‏.‏ وهو إخلاص الدين للّه، وأن يعبد الله بما أمر به على ألسن رسله من الحسنات‏.‏
    وقد ذكر ـ تعالى ـ فى ضمن آيات الجهاد ذَمَّ من يخاف العدو، ويطلب الحياة ، وبين أن ترك الجهاد لا يدفع عنهم الموت، بل أينما كانوا أدركهم الموت، ولو كانوا فى بروج مُشَيَّدة‏.‏ فلا ينالون بترك الجهاد منفعة، بل لا ينالون إلا خسارة الدنيا والآخرة، فقال تعالـى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 77‏]‏‏.‏
    وهذا الفريق قد قيل‏:‏ إنهم منافقون، وقيل‏:‏ نافقوا لما كتب عليهم القتال‏.‏ وقيل‏:‏ بل حصل منهم جبن وفشل، فكان فى قلوبهم مرض،كما قال تعالى‏:‏‏{‏فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 20، 21‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏12‏]‏‏.‏
    والمعنى متناول لهؤلاء ولهؤلاء ولكل من كان بهذه الحال‏.‏
    ثم قال‏:‏ ‏{‏أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 78‏]‏‏.‏
    فالضمير فى قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ‏}‏ يعود إلى من ذكر، وهم ‏(‏الذين يخشون الناس‏)‏ أو يعود إلى معلوم، وإن لم يذكر، كما فى مواضع كثيرة‏.‏
    وقد قيل‏:‏ إن هؤلاء كانوا كفاراً من اليهود‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا منافقين‏.‏ وقيل‏:‏ بل كانوا من هؤلاء وهؤلاء‏.‏ والمعنى يعم كل من كان كذلك، ولكن تناوله لمن أظهر الإسلام وأمر بالجهاد أولى‏.‏
    ثم إذا تناول الذم هؤلاء، فهو للكفار الذين لا يظهرون الإسلام أولى وأحْرَى‏.‏
    والذى عليه عامة المفسرين‏:‏ أن ‏(‏الحسنة‏)‏ و‏(‏السيئة‏)‏ يراد بهما النعم والمصائب، ليس المراد مجرد ما يفعله الإنسان باختياره، باعتباره من الحسنات أو السيئات‏.‏
    فصــل
    ولفظ ‏(‏الحسنات‏)‏ و ‏(‏السيئات‏)‏ فى كتاب اللّه يتناول هذا وهذا، قال اللّه تعالى عن المنافقين‏:‏ ‏{‏إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏120‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏50‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏168‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏48‏]‏، وقال تعالى فى حق الكفار المتطيرين بموسى ومن معه‏:‏ ‏{‏َإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ‏}‏ ذكر هذا بعد قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ‏}‏‏[‏الأعراف‏:‏130، 131‏]‏‏.‏
    وأما الأعمال المأمور بها والمنهى عنها ففى مثل قوله تعالى‏:‏‏{‏مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏84‏]‏ ‏{‏وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏160‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏114‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏70‏]‏‏.‏
    وهنا قال‏:‏ ‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏79‏]‏ ولم يقل‏:‏ وما فعلت، وما كسبت، كما قال‏:‏ ‏{‏وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏30‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏49‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏52‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ‏}‏‏[‏الرعد‏:‏31‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏106‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 155، 156‏]‏‏.‏
    فلهذا كان قول ‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ‏}‏ و‏{‏مِن سَيِّئَةٍ‏}‏ متناول لما يصيب الإنسان، ويأتيه من النعم التى تسره، ومن المصائب التى تسوءه‏.‏
    فالآية متناولة لهذا قطعاً، وكذلك قال عامة المفسرين‏.‏
    قال أبو العالية‏:‏ ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ‏}‏ قال‏:‏ هذه فى السراء ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ‏}‏ قال‏:‏ وهذه فى الضراء‏.‏
    وقال السدى‏:‏ ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ‏}‏‏:‏ قالوا‏:‏ والحسنة؛ الخصب؛ ينتج خيولهم وأنعامهم ومواشيهم، ويحسن حالهم، وتلد نساؤهم الغلمان قالوا‏:‏‏{‏هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ‏}‏ قالوا ـ والسيئة‏:‏ الضرر فى أموالهم، تشائما بمحمد ـ قالوا‏:‏ ‏{‏هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ‏}‏ يقولون‏:‏ بتركنا ديننا، واتباعنا محمداً أصابنا هذا البلاء، فأنزل الله ‏{‏قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ‏}‏ الحسنة والسيئة ‏{‏فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا‏}‏ قال القرآن‏.‏
    وقال الوالبى عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ‏}‏ قال‏:‏ ما فتح الله عليك يوم بدر، وكذلك قال الضحاك‏.‏
    وقال الوالبى أيضا عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏مِنْ حَسَنَةٍ‏}‏ قال‏:‏ ما أصاب من الغنيمة والفتح فمن الله، قال‏:‏ ‏(‏والسيئة‏)‏ ما أصابه يوم أحد؛ إذ شُجّ فى وجهه، وكسرت رَبَاعيتَهُ‏.‏
    وقال‏:‏ أما ‏(‏الحسنة‏)‏ فأنعم اللّه بها عليك، وأما ‏(‏السيئة‏)‏ فابتلاك الله بها‏.‏
    وروى ـ أيضا ـ عن حجاج عن عطية عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ‏}‏ قال‏:‏ هذا يوم بَدْر ‏{‏أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ قال‏:‏ هذا يوم أُحُد‏.‏ يقول‏:‏ ما كان من نَكْبَة فمن ذنبك، وأنا قدرت ذلك عليك‏.‏
    وكذلك روى ابن عيينة، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن أبى صالح‏:‏ ‏{‏فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ قال‏:‏ فبذنبك، وأنا قدرتها عليك‏.‏ روى هذه الآثار ابن أبى حاتم وغيره‏.‏
    وروى ـ أيضًا ـ عن مُطرِّف بن عبد اللّه بن الشِّخِّير قال‏:‏ ما تريدون من القدر‏؟‏ أما تكفيكم هذه الآية التى فى سورة النساء‏:‏ ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ‏}‏‏؟‏ ‏[‏النساء‏:‏78‏]‏ أي‏:‏ من نفسك، واللّه ما وكلوا إلى القدر، وقد أمروا به، وإليه يصيرون‏.‏
    وكذلك فى تفسير أبى صالح عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏إِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ‏}‏‏:‏ الخصب والمطر ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ‏}‏‏:‏ الجدب والبلاء‏.‏
    وقال ابن قتيبة‏:‏ ‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ قال‏:‏ الحسنة النعمة، والسيئة‏:‏ البلية‏.‏
    وقد ذكر أبو الفرج فى قوله‏:‏‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ‏}‏ و ‏{‏مِن سَيِّئَةٍ‏}‏ ثلاثة أقوال‏:‏
    أحدها‏:‏ أن الحسنة‏:‏ ما فتح الله عليهم يوم بدر، والسيئة‏:‏ ما أصابهم يوم أحد‏.‏ قال‏:‏ رواه ابن أبى طلحة ـ وهو الوالبى ـ عن ابن عباس‏.‏
    قال‏:‏ والثانى‏:‏ الحسنة‏:‏ الطاعة، والسيئة‏:‏ المعصية‏.‏ قاله أبو العالية‏.‏
    والثالث‏:‏ الحسنة‏:‏ النعمة، والسيئة‏:‏ البلية‏.‏ قاله ابن مُنَبِّه‏.‏قال‏:‏ وعن أبى العالية نحوه‏.‏ وهو أصح‏.‏
    قلت‏:‏ هذا هو القول المعروف بالإسناد عن أبي العالية، كما تقدم من تفسيره المعروف الذى يروى عنه هو وغيره، من طريق أبى جعفر الدارى عن الربيع بن أنس عنه وأمثاله‏.‏
    وأما الثانى فهو لم يذكر إسناده، ولكن ينقل من كتب المفسرين الذين يذكرون أقوال السلف بلا إسناد، وكثير منها ضعيف، بل كذب لا يثبت عمن نقل عنه‏.‏ وعامة المفسرين المتأخرين ـ أيضا ـ يفسرونه على مثل أقوال السلف، وطائفة منهم تحملها على الطاعة والمعصية‏.‏
    فأما الصنف الأول، فهى تتناوله قطعا‏.‏ كما يدل عليه لفظها وسياقها ومعناها وأقوال السلف‏.‏
    وأما المعنى الثانى، فليس مراداً دون الأول قطعاً، ولكن قد يقال‏:‏ إنه مراد مع الأول؛ باعتبار أن ما يهديه اللّه إليه من الطاعة هو نعمة فى حقه من اللّّه أصابته، وما يقع منه من المعصية هو سيئة أصابته، ونفسه التى عملت السيئة‏.‏ وإذا كان الجزاء من نفسه، فالعمل الذى أوجب الجزاء أولى أن يكون من نفسه‏.‏
    فلا منافاة أن تكون سيئة العمل وسيئة الجزاء من نفسه، مع أن الجميع مقدر ـ كما تقدم ‏.‏ وقد روى عن مجاهد عن ابن عباس؛ أنه كان يقرأ‏:‏ ‏(‏فمن نفسك وأنا قدرتها عليك‏)‏‏.‏
    فصــل
    والمعصية الثانية قد تكون عقوبة الأولى، فتكون من سيئات الجزاء مع أنها من سيئات العمل‏.‏
    قال النبى صلى الله عليه وسلم ـ فى الحديث المتفق على صحته ـ عن ابن مسعود ـ رضى اللّه عنه ـ عن النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏عليكم بالصِدْق؛ إن الصدق يهدى إلى البِرِّ، والبر يهدى إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق، ويَتَحَرَّى الصدق، حتى يكتب عند اللّه صِدِّيقا‏.‏ وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدى إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب، ويتحرى الكذب حتى يكتب عند اللّه كَذَّاباً‏)‏‏.‏
    وقد ذكر فى غير موضع من القرآن ما يبين أن الحسنة الثانية قد تكون من ثواب الأولى، وكذلك السيئة الثانية قد تكون من عقوبة الأولى، قال تعالى‏:‏‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّـا أَجْراً عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 66ـ 68‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏69‏]‏‏.‏وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِم وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 4- 6‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 10‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 15، 16‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏28‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏154‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏138‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏44‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏201، 202‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏24‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏22‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏14‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏1-3‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏70، 71‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 54‏]‏‏.‏
    قال أبو عثمان النيسابورى‏:‏ من أمّر السنة على نفسه ـ قولا وفعلاً ـ نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه ـ قولا وفعلا ـ نطق بالبدعة؛ لأن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا‏}‏‏.‏
    قلت‏:‏ وقد قال فى آخر السورة‏:‏ ‏{‏فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏63‏]‏‏.‏
    وقال تعالى‏:‏‏{‏وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏109، 110‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ‏}‏ ‏[‏ آل عمران‏:‏155‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏‏:‏‏[‏الصف‏:‏ 5 ـ 7‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 88‏]‏، وقال تعالى ـ أيضا ـ‏:‏ ‏{‏وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏155‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏258‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏25،26‏]‏، وقال ـ تعالى ـ فى النوعين‏:‏ ‏{‏إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏12،13‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 151‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏2 ـ 4‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 111، 112‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَـكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏80، 81‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ‏}‏ ‏[‏ المائـدة‏:‏82‏]‏، وقـال تعالـى‏:‏ ‏{‏فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ أَفَلَا َتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 22 ـ 26‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏75 ـ 77‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏83‏]‏، وقال تعالى ـ فى ضد هذا ـ‏:‏ ‏{‏وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 20- 23‏]‏‏.‏
    وتوليتهم الأدبار ليس مما نهوا عنه، ولكن هو من جزاء أعمالهم، وهذا باب واسع‏.‏
    فصــل
    وإذا كانت السيئات التى يعملها الإنسان قد تكون من جزاء سيئات تقدمت ـ وهى مضرة ـ جاز أن يقال‏:‏ هى مما أصابه من السيئات وهى بذنوب تقدمت‏.‏
    وعلى كل تقدير، فالذنوب التى يعملها هى من نفسه، وإن كانت مقدرة عليه؛ فإنه إذا كان الجزاء الذى هو مسبب عنها من نفسه، فعمله الذى هو ذلك الجزاء من نفسه بطريق الأولى، وكان النبى صلى الله عليه وسلم يقول فى خطبته‏:‏ ‏(‏نعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا‏)‏‏.‏
    وقال له أبو بكر ـ رضى الله عنه‏:‏ علمنى دعاء‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏قل اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، رب كل شىء ومليكه؛ أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسى، وشر الشيطان وشِرْكه، وأن أقترف على نفسى سوءاً، أو أجره إلى مسلم، قُلْه إذا أصبحت، وإذا أمسيت، وإذا أخذت مضجعك‏)‏‏.‏
    فقد بين أن قوله‏:‏ ‏{‏فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏‏[‏النساء‏:‏79‏]‏ يتناول العقوبات على الأعمال، ويتناول الأعمال، مع أن الكل بقدر الله‏.‏
    فصــل
    وليس للقدرية أن يحتجوا بالآية لوجوه‏:‏
    منها‏:‏ أنهم يقولون‏:‏ فعل العبد ـ حسنة كان أو سيئة ـ هو منه، لا من اللّه، بل الله قد أعطى كل واحد من الاستطاعة ما يفعل به الحسنات والسيئات، لكن هذا عندهم أحْدَث إرادة فَعَل بها الحسنات، وهذا أحدث إرادة فعل بها السيئات، وليس واحد منها من إحداث الرب عندهم‏.‏
    والقرآن قد فرق بين الحسنات والسيئات، وهم لا يفرقون فى الأعمال بين الحسنات والسيئات إلا من جهة الأمر، لا من جهة كون اللّه خلق الحسنات دون السيئات، بل هو عندهم لم يخلق لا هذا ولا هذا‏.‏
    لكن منهم من يقول‏:‏ بأنه يحدث من الأعمال الحسنة والسيئة ما يكون جزاء، كما يقوله أهل السنة‏.‏
    لكن على هذا، فليست عندهم كل الحسنات من الله، ولا كل السيئات، بل بعض هذا، وبعض هذا‏.‏
    الثانى‏:‏ أنه قال‏:‏ ‏{‏كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏78‏]‏ فجعل الحسنات من عند الله كما جعل السيئات من عند الله، وهم لا يقولون بذلك فى الأعمال، بل فى الجزاء‏.‏ وقوله ـ بعد هذا ـ‏:‏ ‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ‏}‏ و ‏{‏مِن سَيِّئَةٍ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏79‏]‏ مثل قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ ‏}‏‏[‏النساء‏:‏78‏]‏‏.‏
    الثالث‏:‏ أن الآية أريد بها‏:‏ النعم والمصائب ـ كما تقدم ـ وليس للقدرية المجبرة أن تحتج بهذه الآية على نفى أعمالهم التى استحقوا بها العقاب؛ فإن قوله‏:‏‏{‏كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ‏}‏ هو النعم والمصائب؛ ولأن قوله‏:‏ ‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏79‏]‏، حجة عليهم، وبيان أن الإنسان هو فاعل السيئات، وأنه يستحق عليها العقاب‏.‏ واللّه ينعم عليه بالحسنات ـ عملها وجزائها ـ فإنه إذا كان ما أصابهم من حسنة فهو من اللّه؛ فالنعم من اللّه، سواء كانت ابتداء أو كانت جزاء‏.‏ وإذا كانت جزاء ـ وهى من الله ـ فالعمل الصالح الذى كان سببها هو ـ أيضاً ـ من الله، أنعم بهما الله على العبد‏.‏
    وإلا فلو كان هو من نفسه ـ كما كانت السيئات من نفسه ـ لكان كل ذلك من نفسه، والله ـ تعالى ـ قد فرق بين نوعين فى الكتاب والسنة، كما فى الحديث الصحيح الإلهى عن الله‏:‏ ‏(‏يا عبادى، إنما هى أعمالكم أحصيها لكم، ثم أُوفِّيكُمْ إياها، فمن وَجَد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا
    قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏165‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏36‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏41‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ‏}‏‏[‏هود‏:‏101‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏76‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏85‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 7‏]‏، وقد أمروا أن يقولوا فى الصلاة‏:‏ ‏{‏اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمت َعَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّين‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6، 7‏]‏‏.‏
    فصــل
    وقد ظن طائفة أن فى الآية إشكالا، أو تناقضاً فى الظاهر، حيث قال‏:‏ ‏{‏كٍلَِ مٌَنً عٌندٌ بلَّهٌ‏}‏ ثم فرق بين الحسنات والسيئات، فقال‏:‏ ‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏79‏]‏‏.‏
    وهذا من قلة فهمهم، وعدم تدبرهم الآية، وليس فى الآية تناقض، لا فى ظاهرها، ولا فى باطنها، لا فى لفظها ولا معناها؛ فإنه ذكر عن المنافقين، والذين فى قلوبهم مرض، الناكصين عن الجهاد، ما ذكره بقوله‏:‏ ‏{‏أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏78‏]‏، هذا يقولونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أى‏:‏ بسبب ما أمرتنا به من دينك، والرجوع عما كنا عليه، أصابتنا هذه السيئات؛ لأنك أمرتنا بما أوجبها‏.‏ فالسيئات هى المصائب، والأعمال التى ظنوا أنها سبب المصائب هو أمرهم بها‏.‏
    وقولهم‏:‏ ‏{‏مِنْ عِندِكَ‏}‏ تتناول مصائب الجهاد التى توجب الهزيمة؛ لأنه أمرهم بالجهاد، وتتناول ـ أيضا ـ مصائب الرزق على جهة التشاؤم، والتطير، أى‏:‏ هذا عقوبة لنا بسبب دينك، كما كان قوم فرعون يتطيرون بموسى وبمن معه، وكما قال أهل القرية للمرسلين‏:‏ ‏{‏إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏18‏]‏، وكما قال الكفار من ثمود لصالح ولقومه‏:‏ ‏{‏اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 74‏]‏، فكانوا يقولون عما يصيبهم ـ من الحرب، والزلزال والجراح والقتل، وغير ذلك مما يحصل من العدو ـ‏:‏ هو منك؛ لأنك أمرتنا بالأعمال الموجبة لذلك ‏.‏ ويقولون عن هذا، وعن المصائب السمائية‏:‏ إنها منك، أى‏:‏ بسبب طاعتنا لك واتباعنا لدينك، أصابتنا هذه المصائب، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 11‏]‏‏.‏
    فهذا يتناول كل من جعل طاعة الرسول، وفعل ما بعث به مسبباً لشر أصابه، إما من السماء وإما من آدمى، وهؤلاء كثيرون‏.‏
    لم يقولوا‏:‏ ‏{‏هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ‏}‏ بمعنى‏:‏ أنك أنت الذى أحدثتها؛ فإنهم يعلمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحدث شيئا من ذلك، ولم يكن قولهم‏:‏ ‏{‏مِنْ عِندِكَ‏}‏ خطاباً من بعضهم لبعض، بل هو خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏
    ومن فهم هذا تبين له أن قوله‏:‏ ‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ لا يناقض قوله‏:‏‏{‏كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ‏}‏ بل هو محقق له؛ لأنهم ـ هم ومن أشبههم إلى يوم القيامة ـ يجعلون ما جاء به الرسول، والعمل به سبباً لما قد يصيبهم من مصائب، وكذلك من أطاعه إلى يوم القيامة‏.‏
    وكانوا تارة يقدحون فيما جاء به، ويقولون‏:‏ ليس هذا مما أمر اللّه به، ولو كان مما أمر اللّه به لما جرى على أهله هذا البلاء‏.‏
    وتارة لا يقدحون فى الأصل، لكن يقدحون فى القضية المعينة، فيقولون‏:‏ هذا بسوء تدبير الرسول، كما قال عبد الله بن أُبَيّ بن سلول يوم أُحُد ـ إذ كان رأيه مع رأى النبى صلى الله عليه وسلم ألاّ يخرجوا من المدينة ـ فسأله صلى الله عليه وسلم ناس ممن كان لهم رغبة فى الجهاد أن يخرج، فوافقهم، ودخل بيته ولبس لأمَتَه فلما لبس لأمته ندموا، وقالوا للنبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنت أعلم، فإن شئت ألاّ نخرج، فلا نخرج فقال‏:‏ ‏(‏ما ينبغى لنبى إذا لبس لأمته أن ينزعها، حتى يحكم الله بينه وبين عدوه‏)‏ ‏[‏واللأمة‏:‏ الدرع، وقيل‏:‏ السلاح‏.‏ ولأمة الحرب‏:‏ أداته‏]‏ يعنى‏:‏ أن الجهاد يلزم بالشروع، كما يلزم الحج، لا يجوز ترك ما شرع فيه منه إلا عند العجز بالإحصار فى الحج‏.‏
    فصــل
    والمفسرون ذكروا فى قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ‏}‏‏[‏النساء‏:‏78‏]‏ هذا وهذا‏.‏
    فعن ابن عباس، والسدى، وغيرهما‏:‏ أنهم يقولون هذا تشاؤماً بدينه‏.‏
    وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال‏:‏ بسوء تدبيرك ـ يعنى كما قاله عبد الله بن أبى وغيره يوم أحد ـ وهم كالذين‏{‏قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 168‏]‏‏.‏
    فبكل حال قولهم‏:‏ ‏{‏مِنْ عِندِكَ‏}‏ هو طعن فيما أمر الله به ورسوله من الإيمان والجهاد، وجعل ذلك هو الموجب للمصائب التى تصيب المؤمنين المطيعين، كما أصابتهم يوم أحد‏.‏ وتارة تصيب عدوهم، فيقول الكافرون‏:‏ هذا بشؤم هؤلاء، كما قال أصحاب القرية للمرسلين‏:‏ ‏{‏إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 18‏]‏، وكما قال تعالى ـ عن آل فرعون ـ‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏‏[‏ الأعراف‏:‏ 131‏]‏، وقال تعالى ـ عن قوم صالح‏:‏ ‏{‏قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏47‏]‏‏.‏
    ولما قال أهل القرية‏:‏ ‏{‏إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 18، 19‏]‏‏.‏
    قال الضحاك فى قوله‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ‏}‏ يقول‏:‏ الأمر من قبل اللّه، ما أصابكم من أمر فمن اللّه، بما كسبت أيديكم‏.‏
    وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏:‏ معايبكم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ عملكم عند الله‏.‏
    وفى رواية غير على‏:‏ عملكم عند الله ولكنكم ‏{‏قَوْمٌ تُفْتَنُونَ‏}‏، أى‏:‏ تبتلون بطاعة اللّه ومعصيته‏.‏ رواهما ابن أبى حاتم وغيره‏.‏
    وعن ابن إسحاق قال‏:‏ قالت الرسل‏:‏ ‏{‏طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ‏}‏ أى‏:‏ أعمالكم‏.‏
    فقد فسروا ‏(‏الطائر‏)‏ بالأعمال وجزائها؛ لأنهم كانوا يقولون‏:‏ إنما أصابنا ما أصابنا من المصائب بذنوب الرسل وأتباعهم‏.‏
    فبين الله ـ سبحانه ـ أن طائرهم ـ وهو الأعمال وجزاؤها ـ هو عند اللّه وهو معهم‏.‏ فهو معهم لأن أعمالهم وما قدر من جزائها معهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 13‏]‏، وهو من اللّه؛ لأن اللّه ـ تعالى ـ قدر تلك المصائب بأعمالهم‏.‏فمن عنده تتنزل عليهم المصائب،جزاء على أعمالهم لا بسبب الرسل وأتباعهم‏.‏
    وفى هذا يقال‏:‏ إنهم يجزون بأعمالهم، لا بأعمال غيرهم؛ ولذلك قال فى هذه الآية ـ لما كان المنافقون والكفار ومن في قلبه مرض يقول‏:‏ هذا الذى أصابنا هو بسبب ما جاء به محمد، عقوبة دينية وصل إلينا ـ بين سبحانه أن ما أصابهم من المصائب إنما هو بذنوبهم‏.‏
    ففى هذا رد على من أعرض عن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لئلا تصيبه تلك المصائب، وعلى من انتسب إلى الإيمان بالرسول، ونسبها إلى فعل ما جاء به الرسول، وعلى من أصابته مع كفره بالرسول ونسبها إلى ما جاء به الرسول‏.‏
    فصــل
    والمقصود أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ليس سبباً لشىء من المصائب، ولا تكون طاعة اللّه ورسوله قط سبباً لمصيبة، بل طاعة الله والرسول لا تقتضى إلا جزاء أصحابها بخيرى الدنيا والآخرة، ولكن قد تصيب المؤمنين بالله ورسوله مصائب بسبب ذنوبهم، لا بما أطاعوا فيه الله والرسول، كما لحقهم يوم أحُد بسبب ذنوبهم، لا بسبب طاعتهم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏
    وكذلك ما ابتلوا به فى السراء والضراء والزلزال، ليس هو بسبب نفس إيمانهم وطاعتهم، لكن امتحنوا به، ليتخلصوا مما فيهم من الشر وفتنوا به كما يفتن الذهب بالنار؛ ليتميز طيبه من خبيثه، والنفوس فيها شر، والامتحان يمحص المؤمن من ذلك الشر الذى فى نفسه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 140، 141‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 154‏]‏، ولهذا قال صالح ـ عليه السلام ـ لقومه‏:‏‏{‏طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ‏}‏‏[‏النمل‏:‏ 47‏]‏‏.‏
    ولهذا كانت المصائب تكفر سيئات المؤمنين وبالصبر عليها ترتفع درجاتهم، وما أصابهم فى الجهاد من مصائب بأيدى العدو، فإنه يعظم أجرهم بالصبر عليها‏.‏
    وفى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما من غازية يغزون فى سبيل الله، فيسلمون ويغنمون إلا تعجلوا ثلثى أجرهم، وإن أصيبوا وأخفقوا تم لهم أجرهم‏)‏‏.‏
    وأما ما يلحقهم من الجوع والعطش والتعب، فذاك يكتب لهم به عمل صالح، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 120‏]‏‏.‏
    وشواهد هذا كثيرة‏.‏
    فصــل
    والمقصود أن قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏78‏]‏ فإنهم جعلوا ما يصيبهم من المصائب بسبب ما جاءهم به الرسول، وكانوا يقولون‏:‏ النعمة التى تصيبنا هى من عند الله، والمصيبة من عند محمد، أى‏:‏ بسبب دينه وما أمر به، فقال تعالى‏:‏ قل هذا وهذا من عند الله، لا من عند محمد، محمد لا يأتى لا بنعمة ولا بمصيبة؛ ولهذا قال بعد هذا‏:‏ ‏{‏فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 78‏]‏ قال السدى وغيره‏:‏ هو القرآن؛ فإن القرآن إذا هم فقهوا ما فيه تبين لهم أنه إنما أمرهم بالخير، والعدل والصدق، والتوحيد‏.‏ لم يأمرهم بما يكون سبباً للمصائب؛ فإنهم إذا فهموا ما فى القرآن علموا أنه لا يكون سبباً للشر مطلقاً‏.‏
    وهذا مما يبين أن ما أمر الله به يعلم بالأمر به حسنه ونفعه، وأنه مصلحة للعباد، وليس كما يقول من يقول‏:‏ قد يأمر الله العباد بما لا مصلحة لهم فيه إذا فعلوه، بل فيه مضرة لهم‏.‏
    فإنه لو كان كذلك لكان قد يصدقه المتطيرون بالرسل وأتباعهم‏.‏
    ومما يوضح ذلك‏:‏ أنه لما قال‏:‏ ‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ قال بعدها‏:‏‏{‏وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏79‏]‏، فإنه قد شهد له بالرسالة بما أظهره على يديه من الآيات والمعجزات، وإذا شهد الله له كفى به شهيداً، ولم يضره جحد هؤلاء لرسالته، بما ذكروه من الشبه التى هى عليهم لا لهم، بما أرادوا أن يجعلوا سيئاتهم وعقوباتهم حجة على إبطال رسالته، والله ـ تعالى ـ قد شهد له أنه أرسله للناس رسولا، فكان ختم الكلام بهذا إبطالا لقولهم‏:‏ إن المصائب من عند الرسول؛ ولهذا قال بعد هذا‏:‏ ‏{‏مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏80‏]‏‏.‏
    فصــل
    وكان فيما ذكره إبطال لقول الجهمية المجبرة ونحوهم، ممن يقول‏:‏ إن الله قد يعذب العباد بلا ذنب، وأنه قد يأمر العباد بما لا ينفعهم، بل بما يضرهم، فإن فعلوا ما أمرهم به حصل لهم الضرر، وإن لم يفعلوه عاقبهم‏.‏
    يقولون هذا ومثله، ويزعمون أن هذا لأنه يفعل ما يشاء‏.‏
    والقرآن يرد على هؤلاء من وجوه كثيرة، كما يرد على المكذبين بالقدر‏.‏
    فالآية ترد على هؤلاء وهؤلاء ـ كما تقدم ـ مع احتجاج الفريقين بها، وهي حجة على الفريقين‏.‏
    فإن قال نفاة القدر‏:‏ إنما قال فى الحسنة‏:‏ هى من الله، وفى السيئة‏:‏ هى من نفسك، لأنه يأمر بهذا، وينهى عن هذا، باتفاق المسلمين‏.‏
    قالوا‏:‏ ونحن نقول‏:‏ المشيئة ملازمة للأمر، فما أمر به فقد شاءه، وما لم يأمر به لم يشأه‏.‏ فكانت مشيئته وأمره حَاضَّة على الطاعة دون المعصية؛ فلهذا كانت هذه منه دون هذه‏.‏
    قيل‏:‏ أما الآية، فقد تبين أن الذين قالوا‏:‏ الحسنة من عند الله والسيئة من عندك، أرادوا‏:‏ من عندك يا محمد، أى‏:‏ بسبب دينك‏.‏ فجعلوا رسالة الرسول هى سبب المصائب، وهذا غير مسألة القدر‏.‏
    وإذا كان قد أريد‏:‏ أن الطاعة والمعصية ـ مما قد قيل ـ كان قوله‏:‏‏{‏كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 78‏]‏ حجة عليكم ـ كما تقدم‏.‏
    وقوله بعد هذا‏:‏‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏79‏]‏ لا ينافى ذلك، بل ‏(‏الحسنة‏)‏ أنعم الله بها وبثوابها، و‏(‏السيئة‏)‏ هى من نفس الإنسان ناشئة، وإن كانت بقضائه وقدره، كما قال تعالى‏:‏‏{‏مٌن شّرٌَ مّا خّلّقّ‏}‏ ‏[‏الفلق‏:‏2‏]‏، فمن المخلوقات ماله شر، وإن كان بقضائه وقدره‏.‏
    وأنتم تقولون‏:‏ الطاعة والمعصية هما من إحداث الإنسان، بدون أن يجعل الله هذا فاعلا وهذا فاعلا، وبدون أن يخص الله المؤمن بنعمة ورحمة أطاعه بها‏؟‏ وهذا مخالف للقرآن‏.‏
    فَصـل
    فإن قيل‏:‏ إذا كانت الطاعات والمعاصى مقدرة، والنعم والمصائب مقدرة، فلم فرق بين الحسنات التى هى النعم، والسيئات التى هى المصائب‏؟‏ فجعل هذه من الله، وهذه من نفس الإنسان‏؟‏
    قيل‏:‏ لفروق بينهما‏:‏
    الفرق الأول‏:‏ أن نعم الله وإحسانه إلى عباده يقع ابتداء بلا سبب منهم أصلا، فهو ينعم بالعافية والرزق والنصر، وغير ذلك على من لم يعمل خيراً قط، وينشئ للجنة خلقاً يسكنهم فضول الجنة، وقد خلقهم فى الآخرة لم يعملوا خيراً، ويدخل أطفال المؤمنين ومجانينهم الجنة برحمته بلا عمل‏.‏ وأما العقاب، فلا يعاقب أحداً إلا بعمله‏.‏
    الفرق الثانى‏:‏ أن الذى يعمل الحسنات، إذا عملها، فنفس عمله ـ الحسنات ـ هو من إحسان الله، وبفضله عليه بالهداية والإيمان، كما قال أهل الجنة‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏43‏]‏‏.‏
    وفى الحديث الصحيح‏:‏‏(‏يا عبادى، إنما هى أعمالكم أُحْصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وَجَد خيراً فليحمد الله،ومن وجد غير ذلك فلا يَلُومَنَّ إلا نفسه‏)‏‏.‏
    فنفس خلق الله لهم أحياء، وجعله لهم السمع والأبصار والأفئدة، هو من نعمته‏.‏ ونفس إرسال الرسول إليهم، وتبليغه البلاغ المبين الذي اهتدوا به، هو من نعمته‏.‏
    وإلهامهم الإيمان، وهدايتهم إليه، وتخصيصهم بمزيد نعمة حصل لهم بها الإيمان دون الكافرين؛ هو من نعمته، كما قال تعالى‏:‏‏{‏وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 7، 8‏]‏‏.‏
    فجميع ما يتقلب فيه العالم من خيرى الدنيا والآخرة، هو نعمة محضة منه، بلا سبب سابق يوجب لهم حقاً، ولا حول ولا قوة لهم من أنفسهم إلا به، وهو خالق نفوسهم، وخالق أعمالها الصالحة وخالق الجزاء‏.‏
    فقوله‏:‏‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ‏}‏‏[‏النساء‏:‏79‏]‏ حق من كل وجه، ظاهراً وباطناً على مذهب أهل السنة‏.‏
    وأما السيئة‏:‏ فلا تكون إلا بذنب العبد، وذنبه من نفسه‏.‏وهو لم يقل‏:‏ إنى لم أقدر ذلك ولم أخلقه، بل ذكر للناس ما ينفعهم‏.‏
    فصــل
    فإذا تدبر العبد علم أن ما هو فيه من الحسنات من فضل الله، فشكر الله، فزاده الله من فضله عملا صالحاً، ونعماً يفيضها عليه‏.‏
    وإذا علم أن الشر لا يحصل له إلا من نفسه بذنوبه استغفر وتاب،فزال عنه سبب الشر‏.‏ فيكون العبد دائماً شاكراً مستغفراً، فلا يزال الخير يتضاعف له، والشر يندفع عنه، كما كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول فى خطبته‏:‏ ‏(‏الحمد للّه‏)‏ فيشكر الله، ثم يقول‏:‏ ‏(‏نستعينه ونستغفره‏)‏ نستعينه على الطاعة، ونستغفره من المعصية، ثم يقول‏:‏ ‏(‏ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا‏)‏ فيستعيذ به من الشر الذى فى النفس، ومن عقوبة عمله، فليس الشر إلا من نفسه ومن عمل نفسه، فيستعيذ الله من شر النفس؛ أن يعمل بسبب سيئاته الخطايا، ثم إذا عمل استعاذ بالله من سيئات عمله ومن عقوبات عمله، فاستعانه على الطاعة وأسبابها، واستعاذ به من المعصية وعقابها‏.‏
    فعِلْمُ العبد بأن ما أصابه من حسنة فمن الله، وما أصابه من سيئة فمن نفسه ـ يوجب له هذا وهذا، فهو ـ سبحانه ـ فرق بينهما هنا، بعد أن جمع بينهما فى قوله‏:‏ ‏{‏كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ‏}‏‏[‏النساء‏:‏78‏]‏‏.‏
    فبين أن الحسنات والسيئات‏:‏ النعم والمصائب، والطاعات والمعاصى، على قول من أدخلها فى‏:‏ ‏{‏مٌَنً عٌندٌ بلَّهٌ‏}‏‏.‏
    ثم بين الفرق الذى ينتفعون به، وهو أن هذا الخير من نعمة الله، فاشكروه يزدكم، وهذا الشر من ذنوبكم، فاستغفروه، يدفعه عنكم‏.‏
    قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 33‏]‏،وقال تعالى‏:‏ ‏{‏الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏1ـ 3‏]‏‏.‏
    والمذنب إذا استغفر ربه من ذنبه، فقد تَأَسَّى بالسعداء من الأنبياء والمؤمنين، كآدم وغيره‏.‏وإذا أصر، واحتج بالقدر، فقد تأسى بالأشقياء، كإبليس ومن اتبعه من الغاوين‏.‏
    فكان من ذكره‏:‏ أن السيئة من نفس الإنسان بذنوبه، بعد أن ذكر‏:‏ أن الجميع من عند الله ـ تنبيهاً على الاستغفار والتوبة، والاستعاذة باللّه من شر نفسه وسيئات عمله، والدعاء بذلك فى الصباح والمساء، وعند المنام، كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أبا بكر الصديق، أفضل الأمة، حيث علمه أن يقول‏:‏‏(‏اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أعوذ بك من شر نفسى وشر الشيطان وشِرْكه، وأن أقترف على نفسى سوءاً أو أجره إلى مسلم‏)‏‏.‏ فيستغفر مما مضى، ويستعيذ مما يستقبل، فيكون من حزب السعداء‏.‏
    وإذا علم أن الحسنة من الله ـ الجزاء والعمل ـ سأله أن يعينه على فعل الحسنات، بقوله‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏، وبقوله‏:‏ ‏{‏اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏6 ‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏8 ‏]‏ ونحو ذلك‏.‏
    وأما إذا أخبر أن الجميع من عند الله فقط، ولم يذكر الفرق، فإنه يحصل من هذا التسوية، فأعرض العاصى والمذنب عن ذم نفسه وعن التوبة من ذنوبها، والاستعاذة من شرها، بل وقام فى نفسه أن يحتج على الله بالقدر‏.‏ وتلك حجة داحضة لا تنفعه، بل تزيده عذاباً وشقاء، كما زادت إبليس لما قال‏:‏ ‏{‏فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏16‏]‏، وقال‏:‏‏{‏رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 39‏]‏‏.‏
    وكالذين يقولون يوم القيامة‏:‏‏{‏لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏57‏]‏، وكالذين قالوا‏:‏ ‏{‏لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏148‏]‏‏.‏
    فمن احتج بالقدر على ما فعله من ذنوبه، وأعرض عما أمر الله به، من التوبة والاستغفار، والاستعانة بالله، والاستعاذة به، واستهدائه ـ كان من أخسر الناس فى الدنيا والآخرة‏.‏ فهذا من فوائد ذكر الفرق بين الجمع‏.‏
    فصــل
    الفرق الثالث‏:‏ أن الحسنة يضاعفها الله وينميها، ويثيب على الهم بها، والسيئة لا يضاعفها، ولا يؤاخذ على الهم بها‏.‏ فيعطى صاحب الحسنة من الحسنات فوق ما عمل، وصاحب السيئة لا يجزيه إلا بقدر عمله، قال تعالى‏:‏‏{‏مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏160‏]‏‏.‏
    الفرق الرابع‏:‏ أن الحسنة مضافة إليه؛ لأنه أحسن بها من كل وجه ـ كما تقدم ـ فما من وجه من وجوهها إلا وهو يقتضى الإضافة إليه‏.‏
    وأما السيئة فهو إنما يخلقها بحكمة، وهى باعتبار تلك الحكمة من إحسانه، فإن الرب لا يفعل سيئة قط، بل فعله كله حسن وحسنات، وفعله كله خير‏.‏
    ولهذا كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول فى دعاء الاستفتاح‏:‏ ‏(‏والخير بيديك، والشر ليس إليك‏)‏، فإنه لا يخلق شراً محضاً، بل كل ما يخلقه ففيه حكمة، هو باعتبارها خير، ولكن قد يكون فيه شر لبعض الناس وهو شر جزئى إضافى، فأما شر كلى، أو شر مطلق، فالرب منزه عنه، وهذا هو الشر الذى ليس إليه‏.‏
    وأما الشر الجزئى الإضافى، فهو خير باعتبار حكمته؛ ولهذا لا يضاف الشر إليه مفرداً قط، بل إما أن يدخل فى عموم المخلوقات، كقوله‏:‏‏{‏وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏101‏]‏ وإما أن يضاف إلى السبب كقوله تعالى‏:‏‏{‏مِن شَرِّ مَا خَلَقَ‏}‏ ‏[‏الفلق‏:‏2 ‏]‏ وإما أن يحذف فاعله، كقول الجن‏:‏ ‏{‏وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 10‏]‏‏.‏
    وهذا الموضع ضل فيه فريقان من الناس الخائضين فى القدر بالباطل‏:‏ فرقة كذبت بهذا، وقالت‏:‏ إنه لا يخلق أفعال العباد، ولا يشاء كل ما يكون؛ لأن الذنوب قبيحة، وهو لا يفعل القبيح، وإرادتها قبيحة، وهو لا يريد القبيح‏.‏
    وفرقة لما رأت أنه خالق هذا كله ولم تؤمن أنه خلق هذا لحكمة، بل قالت‏:‏ إذا كان يخلق هذا فيجوز أن يخلق كل شر، ولا يخلق شيئاً لحكمة، وما ثم فعل تنزه عنه بل كل ما كان ممكناً جاز أن يفعله‏.‏
    وجوزوا أن يأمر بكل كفر ومعصية، وينهى عن كل إيمان وطاعة، وصدق وعدل، وأن يعذب الأنبياء، وينعم الفراعنة والمشركين وغير ذلك ولم يفرقوا بين مفعول ومفعول‏.‏
    وهذا منكر من القول وزور، كالأول، قال تعالى‏:‏‏{‏أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏21‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 35، 36‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 28‏]‏ ونحو ذلك مما يوجب أنه يفرق بين الحسنات والسيئات، وبين المحسن والمسىء، وأن من جوز عليه التسوية بينهما، فقد أتى بقول منكر، وزور ينكر عليه‏.‏
    وليس إذا خلق ما يتأذى به بعض الحيوان لا يكون فيه حكمة، بل فيه من الحكمة والرحمة ما يخفى على بعضهم، مما لا يقدر قدره إلا الله‏.‏
    وليس إذا وقع فى المخلوقات ما هو شر جزئي بالإضافة يكون شراً كلياً عاما، بل الأمور العامة الكلية لا تكون إلا خيراً ومصلحة للعباد، كالمطر العام، وكإرسال رسول عام‏.‏
    وهذا مما يقتضى أنه لا يجوز أن يؤيد اللّه كذاباً عليه بالمعجزات التى أيد بها أنبياءه الصادقين؛ فإن هذا شر عام للناس، يضلهم ويفسد عليهم دينهم ودنياهم وآخرتهم‏.‏
    وليس هذا كالملك الظالم، والعدو؛ فإن الملك الظالم لابد أن يدفع اللّه به من الشر أكثر من ظلمه‏.‏
    وقد قيل‏:‏ ستون سنة بإمام ظالم، خير من ليلة واحدة بلا إمام‏.‏
    وإذا قدر كثرة ظلمه، فذاك ضرر في الدين، كالمصائب تكون كفارة لذنوبهم ويثابون عليها، ويرجعون فيها إلى اللّه، ويستغفرونه ويتوبون إليه، وكذلك ما يسلط عليهم من العدو‏.‏
    وأما من يكذب على الله، ويقول ـ أي يدعى ـ‏:‏ إنه نبى، فلو أيده اللّه تأييد الصادق، للزم أن يسوى بينه وبين الصادق‏.‏
    فيستوى الهدى والضلال، والخير والشر، وطريق الجنة وطريق النار، ويرتفع التمييز بين هذا وهذا، وهذا مما يوجب الفساد العام للناس فى دينهم ودنياهم وآخرتهم‏.‏
    ولهذا أمر النبى صلى الله عليه وسلم بقتال من يقاتل على الدين الفاسد من أهل البدع، كالخوارج، وأمر بالصبر على جور الأئمة، ونهى عن قتالهم والخروج عليهم؛ ولهذا قد يمكن اللّه كثيراً من الملوك الظالمين مدة‏.‏
    وأما المتنبئون الكذابون، فلا يطيل تمكينهم، بل لابد أن يهلكهم؛ لأن فسادهم عام في الدين والدنيا والآخرة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 44 ـ 46‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏24‏]‏، فأخبر أنه ـ بتقدير الافتراء ـ لابد أن يعاقب من افترى عليه‏.‏
    فصــل
    وهذا الموضع مما اضطرب فيه الناس، فاستدلت القدرية النفاة والمجبرة على أنه إذا جاز أن يضل شخصاً، جاز أن يضل كل الناس‏.‏وإذا جاز أن يعذب حيواناً بلا ذنب ولا عوض، جاز أن يعذب كل حي بلا ذنب ولا عوض، وإذا جاز عليه ألا يعين واحداً ممن أمره على طاعة أمره، جاز ألا يعين كل الخلق‏.‏ فلم يفرق الطائفتان بين الشر الخاص والعام، وبين الشر الإضافى، والشر المطلق، ولم يجعلوا فى الشر الإضافى حكمة يصير بها من قسم الخير‏.‏
    ثم قال النفاة‏:‏ وقد علم أنه منزه عن تلك الأفعال، فإنا لو جوزنا عليه هذا لجوزنا عليه تأييد الكذاب بالمعجزات، وتعذيب الأنبياء وإكرام الكفار، وغير ذلك، مما يستعظم العقلاء إضافته إلى اللّه ـ تعالى‏.‏
    فقالت المثبتة من الجهمية المجبرة‏:‏ بل كل الأفعال جائزة عليه، كما جاز ذلك الخاص، وإنما يعلم أنه لا يفعل بما لا يفعل، أو يفعل ما يفعل بالخبر، خبر الأنبياء عنه‏.‏وإلا فمهما قدر جاز أن يفعله، وجاز ألا يفعله، ليس فى نفس الأمر سبب ولا حكمة، ولا صفة تقتضي التخصيص ببعض الأفعال دون بعض، بل ليس إلا مشيئة، نسبتها إلى جميع الحوادث سواء، ترجح أحد المتماثلين بلا مرجح‏.‏
    فقيل لهم‏:‏ فيجوز تأييد الكذاب بالمعجز، فلا يبقى المعجز دليلا على صدق الأنبياء‏.‏ فلا يبقى خبر نبى يعلم به الفرق، فيلزم ـ مع الكفر بالأنبياء ـ ألا يعلم الفرق، لا بسمع ولا بعقل‏.‏
    فاحتالوا للفرق بين المعجزات وغيرها، بأن تجويز إتيان الكذاب بالمعجزات يستلزم تعجيز الباري ـ تعالى ـ عما به يفرق بين الصادق والكاذب، أو لأن دلالتها على الصدق معلوم بالاضطرار، كما قد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع، وبين خطأ الطائفتين، وأن هؤلاء الذين اتبعوا جَهْماً في الجبر ـ ونفوا حكمة الله ورحمته، والأسباب التى بها يفعل، وما خلقه من القوى وغيرها ـ هم مبتدعة مخالفون للكتاب والسنة وإجماع السلف، مع مخالفتهم لصريح المعقول‏.‏
    كما أن القدرية النفاة مخالفون للكتاب والسنة وإجماع السلف، مع مخالفتهم لصريح المعقول‏.‏
    فصــل
    والمقصود هنا الكلام على قوله‏:‏ ‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ ‏[‏ النساء‏:‏ 79‏]‏، وأن هذا يقتضي أن العبد لا يزال شاكراً مستغفراً‏.‏
    وقد ذكر أن الشر لا يضاف إلى الله إلا على أحد الوجوه الثلاثة‏.‏ وقد تضمنت الفاتحة للأقسام الثلاثة، هو ـ سبحانه‏:‏ الرحمن الذي وسعت رحمته كل شىء، وفي الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وقد سبقت وغلبت رحمته غضبه، وهو الغفور الودود، الحليم الرحيم‏.‏
    فإرادته أصل كل خير ونعمة، وكل خير ونعمة فمنه‏:‏ ‏{‏وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 53‏]‏‏.‏
    وقد قال سبحانه‏:‏ ‏{‏نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيم‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 49، 50‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 98‏]‏ فالمغفرة والرحمة من صفاته المذكورة بأسمائه‏.‏ فهى من موجب نفسه المقدسة، ومقتضاها ولوازمها‏.‏
    وأما العذاب، فمن مخلوقاته، الذي خلقه بحكمة، هو باعتبارها حكمة ورحمة‏.‏ فالإنسان لا يأتيه الخير إلا من ربه وإحسانه وجوده، ولا يأتيه الشر إلا من نفسه، فما أصابه من حسنة فمن اللّه، وما أصابه من سيئة فمن نفسه‏.‏
    وقوله‏:‏ ‏{‏مَّا أَصَابَكَ‏}‏ إما أن تكون كاف الخطاب له صلى الله عليه وسلم ـ كما قال ابن عباس وغيره ـ وهو الأظهر؛ لقوله بعد ذلك‏:‏ ‏{‏وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏‏.‏
    وإما أن تكون لكل واحد واحد من الآدميين، كقوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ‏}‏ ‏[‏ الانفطار‏:‏ 6‏]‏‏.‏
    لكن هذا ضعيف، فإنه لم يتقدم هنا ذكر الإنسان ولا مكانه، وإنما تقدم ذكر طائفة قالوا ما قالوه‏.‏ فلو أريد ذكرهم لقيل ‏:‏ ‏(‏ما أصابهم من حسنة فمن اللّه وما أصابهم من سيئة‏)‏‏.‏
    لكن خوطب الرسول بهذا؛ لأنه سيد ولد آدم‏.‏ وإذا كان هذا حكمه، كان هذا حكم غيره بطريق الأولى والأحرى، كما فى مثل قوله‏:‏ ‏{‏اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏1‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏65‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 94‏]‏‏.‏
    ثم هذا الخطاب نوعان‏:‏ نوع يختص لفظه به لكن يتناول غيره بطريق الأولى، كقوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمًْ‏}‏‏[‏التحريم‏:‏ 1، 2 ‏]‏‏.‏
    ونوع قد يكون خطابه خطابا به لجميع الناس، كما يقول كثير من المفسرين‏:‏ الخطاب له والمراد غيره‏.‏
    وليس المعنى‏:‏ أنه لم يخاطب بذلك، بل هو المقدم‏.‏ فالخطاب له خطاب لجميع الجنس البشري‏.‏ وإن كان هو لا يقع منه ما نهى عنه، ولا يترك ما أمر به، بل هذا يقع من غيره، كما يقول ولي الأمر للأمير‏:‏ سافر غداً إلى المكان الفلاني، أي أنت ومن معك من العسكر‏.‏ وكما ينهى أعز من عنده عن شيء، فيكون نهياً لمن دونه، وهذا معروف من الخطاب‏.‏
    فقوله‏:‏ ‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ الخطاب له صلى الله عليه وسلم، وجميع الخلق داخلون فى هذا الخطاب بالعموم، وبطريق الأولى، بخلاف قوله‏:‏ ‏{‏وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً‏}‏‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏، فإن هذا له خاصة‏.‏ ولكن من يبلغ عنه يدخل فى معنى الخطاب، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏بَلِّغوا عني ولو آية‏)‏، وقال‏:‏‏(‏نَضَّر اللّه امرأ سمع منا حديثاً فبلغه إلى من لم يسمعه‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏ليبلغ الشاهد الغائب‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏إن العلماء ورثة الأنبياء‏)‏، وقد قال تعالى فى القرآن‏:‏ ‏{‏وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏19‏]‏‏.‏
    والمقصود هنا أن الحسنة مضافة إليه ـ سبحانه ـ من كل وجه، والسيئة مضافة إليه لأنه خلقها،كما خلق الحسنة فلهذا قال‏:‏‏{‏كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ‏}‏‏.‏ثم إنه إنما خلقها لحكمة،ولا تضاف إليه من جهة أنها سيئة، بل تضاف إلى النفس التى تفعل الشر بها لا لحكمة، فتستحق أن يضاف الشر والسيئة إليها، فإنها لا تقصد بما تفعله من الذنوب خيراً يكون فعله لأجله أرجح، بل ما كان هكذا فهو من باب الحسنات؛ ولهذا كان فعل اللّه حسناً، لا يفعل قبيحاً ولا سيئاً قط‏.‏
    وقد دخل فى هذا سيئات الجزاء والعمل؛ لأن المراد بقوله‏:‏‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ‏}‏ و‏{‏مِن سَيِّئَةٍ‏}‏ النعم والمصائب ـ كما تقدم ـ لكن إذا كانت المصيبة من نفسه ـ لأنه أذنب ـ فالذنب من نفسه بطريق الأولى، فالسيئات من نفسه بلا ريب، وإنما جعلها منه مع الحسنة بقوله‏:‏ ‏{‏كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ‏}‏ كما تقدم؛ لأنها لا تضاف إلى اللّه مفردة، بل إما فى العموم، كقوله‏:‏ ‏{‏كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ‏}‏‏.‏
    وكذلك الأسماء التى فيها ذكر الشر، لا تذكر إلا مقرونة، كقولنا‏:‏ ‏(‏الضار النافع، المعطى المانع، المعز المذل‏)‏ أو مقيدة، كقوله‏:‏‏{‏إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏22‏]‏‏.‏
    وكل ما خلقه ـ مما فيه شر جزئي إضافى ـ ففيه من الخير العام والحكمة والرحمة أضعاف ذلك، مثل إرسال موسى إلى فرعون، فإنه حصل به التكذيب والهلاك لفرعون وقومه، وذلك شر بالإضافة إليهم، لكن حصل به ـ من النفع العام للخلق إلى يوم القيامة، والاعتبار بقصة فرعون ـ ما هو خير عام، فانتفع بذلك أضعاف أضعاف من استضر به، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 55‏]‏ وقال تعالى ـ بعد ذكر قصته‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏26‏]‏‏.‏
    وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم، شقى برسالته طائفة من مشركي العرب وكفار أهل الكتاب، وهم الذين كذبوه، وأهلكهم اللّه تعالى بسببه، ولكن سعد بها أضعاف أضعاف هؤلاء‏.‏
    ولذلك من شقى به من أهل الكتاب كانوا مبدلين محرفين قبل أن يبعث اللّه محمداً صلى الله عليه وسلم فأهلك اللّّه بالجهاد طائفة، واهتدى به من أهل الكتاب أضعاف أضعاف أولئك‏.‏
    والذين أذلهم الله من أهل الكتاب بالقهر والصَّغَار ‏[‏أى‏:‏ الذل والهوان‏]‏، أو من المشركين الذين أحدث فيهم الصغار، فهؤلاء كان قهرهم رحمة لهم؛ لئلا يعظم كفرهم، ويكثر شرهم‏.‏
    ثم بعدهم حصل من الهدى والرحمة لغيرهم ما لا يحصيهم إلا اللّه، وهم دائماً يهتدى منهم ناس من بعد ناس ببركة ظهور دينه بالحجة واليد‏.‏
    فالمصلحة بإرساله وإعزازه، وإظهار دينه، فيها من الرحمة التى حصلت بذلك ما لا نسبة لها إلى ما حصل بذلك لبعض الناس من شر جزئي إضافى، لما فى ذلك من الخير والحكمة أيضا؛ إذ ليس فيما خلقه الله ـ سبحانه ـ شر محض أصلا، بل هو شر بالإضافة‏.
    فصــل
    الفرق الخامس‏:‏ أن ما يحصل للإنسان من الحسنات التى يعملها كلها أمور وجودية، أنعم اللّه بها عليه، وحصلت بمشيئة اللّه ورحمته وحكمته وقدرته وخلقه، ليس فى الحسنات أمر عدمي غير مضاف إلى اللّه، بل كلها أمر وجودي، وكل موجود وحادث فاللّه هو الذى يحدثه‏.‏
    وذلك أن الحسنات إما فعل مأمور به، أو ترك منهى عنه، والترك أمر وجودي‏.‏ فترك الإنسان لما نهى عنه، ومعرفته بأنه ذنب قبيح، وبأنه سبب للعذاب، وبغضه وكراهته له، ومنع نفسه منه إذا هويته، واشتهته، وطلبته كل هذه أمور وجودية، كما أن معرفته بأن الحسنات - كالعدل والصدق ـ حسنة، وفعله لها أمور وجودية‏.‏
    ولهذا إنما يثاب الإنسان على فعل الحسنات إذا فعلها محبا لها بنية وقصد فعلها ابتغاء وجه ربه، وطاعة للّه ولرسوله، ويثاب على ترك السيئات إذا تركها بالكراهة لها، والامتناع منها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏7‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏40،41‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏45‏]‏‏.‏
    وفى الصحيحين عن أنس، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ثلاث من كُنَّ فيه وَجَد حلاوة الإيمان‏:‏ من كان اللّّه ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع فى الكفر، بعد إذ أنقذه اللّه منه، كما يكره أن يلقى في النار‏)‏‏.‏
    وفى السنن عن البراء بن عازب، عن النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أوثق عُرَى الإيمان الحب فى اللّه، والبغض فى اللّه‏)‏‏.‏
    وفيها عن أبي أمامة عن النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أحب للّه، وأبغض للّه، وأعطى للّه، ومنع الله، فقد استكمل الإيمان‏)‏‏.‏
    وفى الصحيح عن أبى سعيد الخدري، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان‏)‏‏.‏
    وفى الصحيح من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ـ لما ذكر الخلوف ـ قال‏:‏‏(‏من جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل‏)‏، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏4‏]‏‏.‏
    وقال على لسان الخليل‏:‏ ‏{‏إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏26، 27‏]‏،وقال‏:‏‏{‏قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏ الشعراء‏:‏75 ـ 77‏]‏، وقال‏:‏‏{‏فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏78،79‏]‏‏.‏
    فهذا البغض والعداوة والبراءة - مما يعبد من دون الله ومن عابديه - هي أمور موجودة فى القلب، وعلى اللسان والجوارح، كما أن حب الله وموالاته وموالاة أوليائه أمور موجودة فى القلب، وعلى اللسان والجوارح، وهي تحقيق قول ‏(‏لا إله إلا اللّه‏)‏، وهو إثبات تأليه القلب لله حباً خالصاً وذلا صادقاً، ومنع تأليهه لغير اللّه، وبغض ذلك وكراهته، فلا يعبد إلا اللّه، ويحب أن يعبده، ويبغض عبادة غيره ويحب التوكل عليه وخشيته ودعاءه، ويبغض التوكل على غيره وخشيته ودعاءه‏.‏
    فهذه كلها أمور موجودة فى القلب، وهي الحسنات التى يثيب الله عليها‏.‏
    وأما مجرد عدم السيئات، من غير أن يعرف أنها سيئة، ولا يكرهها، بل لا يفعلها لكونها لم تخطر بباله، أو تخطر كما تخطر الجمادات التى لا يحبها ولا يبغضها، فهذا لا يثاب على عدم ما يفعله من السيئات، ولكن لا يعاقب أيضاً على فعلها، فكأنه لم يفعلها، فهذا تكون السيئات فى حقه بمنزلتها فى حق الطفل والمجنون والبهيمة، لا ثواب ولا عقاب‏.‏
    ولكن إذا قامت عليه الحجة بعلمه تحريمها؛ فإن لم يعتقد تحريمها ويكرهها وإلا عوقب على ترك الإيمان بتحريمها‏.‏
    فصــل
    وقد تنازع الناس في الترك‏:‏ هل هو أمر وجودي أو عدمي‏؟‏ والأكثرون على أنه وجودي‏.‏
    وقالت طائفة ـ كأبي هاشم بن الجبائي ـ‏:‏ إنه عدمي، وأن المأمور يعاقب على مجرد عدم الفعل، لا على ترك يقوم بنفسه، ويسمون ‏(‏المذمية‏)‏؛ لأنهم رتبوا الذم على العدم المحض‏.‏
    والأكثرون يقولون‏:‏ الترك أمر وجودي، فلا يثاب من ترك المحظور إلا على ترك يقوم بنفسه‏.‏ وتارك المأمور إنما يعاقب على ترك يقوم بنفسه، وهو أن يأمره الرسول صلى الله عليه وسلم بالفعل فيمتنع، فهذا الامتناع أمر وجودي؛ ولذلك فهو يشتغل عما أمر به بفعل ضده، كما يشتغل عن عبادة اللّه وحده بعبادة غيره، فيعاقب على ذلك‏.‏
    ولهذا كان كل من لم يعبد الله وحده، فلابد أن يكون عابداً لغيره، يعبد غيره فيكون مشركا‏.‏ وليس في بني آدم قسم ثالث، بل إما موحد، أو مشرك، أو من خلط هذا بهذا كالمبدلين من أهل الملل؛ النصارى ومن أشبههم من الضلال، المنتسبين إلى الإسلام، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 98ـ 100‏]‏، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏42‏]‏ لما قال إبليس‏:‏ ‏{‏لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ‏}‏ قال تعالى‏:‏‏{‏إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ‏}‏‏[‏الحجر‏:‏39،42‏]‏‏.‏
    فإبليس لا يغوى المخلصين، ولا سلطان له عليهم، إنما سلطانه على الغاوين، وهم الذين يتولونه، وهم الذين به مشركون‏.‏
    وقوله‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ‏}‏ صفتان لموصوف واحد‏.‏ فكل من تولاه فهو به مشرك، وكل من أشرك به فقد تولاه‏.‏
    قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ‏}‏ ‏[‏يــس‏:‏ 60، 61‏]‏‏.‏
    وكل من عبد غير اللّه فإنما يعبد الشيطان، وإن كان يظن أنه يعبد الملائكة والأنبياء، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏40، 41‏]‏‏.‏
    ولهذا تتمثل الشياطين لمن يعبد الملائكة والأنبياء والصالحين ويخاطبونهم، فيظنون أن الذى خاطبهم مَلَك أو نبى، أو وَلِيّ وإنما هو شيطان، جعل نفسه ملكا من الملائكة، كما يصيب عُبَّاد الكواكب وأصحاب العزائم والطلسمات، يسمون أسماء، يقولون‏:‏ هي أسماء الملائكة، مثل منططرون وغيره، وإنما هي أسماء الجن‏.‏
    وكذلك الذين يدعون المخلوقين من الأنبياء والأولياء والملائكة، قد يتمثل لأحدهم من يخاطبه، فيظنه النبى، أو الصالح الذي دعاه، وإنما هو شيطان تصور فى صورته، أو قال‏:‏ أنا هو، لمن لم يعرف صورة ذلك المدعو‏.‏
    وهذا كثير يجري لمن يدعو المخلوقين، من النصارى ومن المنتسبين إلى الإسلام، يدعونهم عند قبورهم، أو مغيبهم، ويستغيثون بهم، فيأتيهم من يقول‏:‏ إنه ذلك المستغاث به، فى صورة آدمي، إما راكباً، وإما غير راكب‏.‏ فيعتقد المستغيث أنه ذلك النبى، والصالح، أو أنه سِرّه، أو روحانيته، أو رقيقته أو المعنى تَشَكَّل، أو يقول‏:‏ إنه ملك جاء على صورته، وإنما هو شيطان يغويه؛ لكونه أشرك بالله ودعا غيره؛ الميت فمن دونه‏.‏ فصار للشيطان عليه سلطان بذلك الشرك، فظن أنه يدعو النبى، أو الصالح، أو الملك، وأنه هو الذي شفع له، أو هو الذي أجاب دعوته، وإنما هو الشيطان؛ ليزيده غلواً فى كفره وضلاله‏.‏
    فكل من لم يعبد اللّه مخلصاً له الدين، فلابد أن يكون مشركاً عابداً لغير اللّه، وهو فى الحقيقة عابد للشيطان‏.‏
    فكل واحد مـن بنى آدم إما عابد للرحمن، وإما عابد للشيطان، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ‏}‏‏[‏ الزخرف‏:‏36 ـ39‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏17‏]‏‏.‏
    فبنو آدم منحصرون فى الأصناف الستة، وبسط هذا له موضع آخر‏.‏
    فصــل
    والمقصود هنا أن الثواب والعقاب إنما يكون على عمل وجودي بفعل الحسنات، كعبادة اللّه وحده، وترك السيئات، كترك الشرك أمر وجودي، وفعل السيئات، مثل ترك التوحيد، وعبادة غير الله أمر وجودي، قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏84‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 7‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏46‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏للِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ‏}‏ إلى قـولـه تعالى‏:‏ ‏{‏أٍوًلّئٌكّ أّصًحّابٍ بنَّارٌ هٍمً فٌيهّا خّالٌدٍونّ ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏26،27‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏10‏]‏‏.‏
    فأما عدم الحسنات والسيئات فجزاؤه عدم الثواب والعقاب‏.‏
    وإذا فرض رجل آمن بالرسول مجملا، وبقي مدة لا يفعل كثيراً من المحرمات، ولا سمع أنها محرمة، فلم يعتقد تحريمها، مثل من آمن ولم يعلم أن الله حرم الميتة والدم ولحم الخنزير، ولا علم أنه حرم نكاح الأقارب سوى أربعة أصناف، ولا حرم بالمصاهرة أربعة أصناف ـ حرم على كل من الزوجين أصول الآخر وفروعه ـ فإذا آمن ولم يفعل هذه المحرمات، ولا اعتقد تحريمها؛ لأنه لم يسمع ذلك، فهذا لا يثاب ولا يعاقب‏.‏
    ولكن إذا علم التحريم فاعتقده، أثيب على اعتقاده، وإذا ترك ذلك ـ مع دعاء النفس إليه ـ أثيب ثوابا آخر، كالذي تدعوه نفسه إلى الشهوات فينهاها، كالصائم الذي تشتهي نفسه الأكل والجماع فينهاها، والذي تشتهي نفسه شرب الخمر والفواحش فينهاها‏.‏ فهذا يثاب ثواباً آخر، بحسب نهيه لنفسه، وصبره على المحرمات، واشتغاله بالطاعات التى هي ضدها، فإذا فعل تلك الطاعات،كانت مانعة له عن المحرمات‏.‏
    وإذا تبين هذا، فالحسنات التى يثاب عليها كلها وجودية، نعمة من اللّه ـ تعالى ـ وما أحبته النفس من ذلك، وكرهته من السيئات، فهو الذي حبب الإيمان إلى المؤمنين، وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان‏.‏

    فصــل
    وأما السيئات، فمنشؤها الجهل والظلم، فإن أحداً لا يفعل سيئة قبيحة إلا لعدم علمه بكونها سيئة قبيحة، أو لهواه وميل نفسه إليها‏.‏
    ولا يترك حسنة واجبة إلا لعدم علمه بوجوبها، أو لبغض نفسه لها‏.‏
    وفى الحقيقة، فالسيئات كلها ترجع للجهل، وإلا فلو كان عالماً علماً نافعاً بأن فعل هذا يضره ضرراً راجحاً ولم يفعله؛ فإن هذا خاصية العاقل؛ ولهذا إذا كان من الحسنات ما يعلم أنه يضره ضراراً راجحاً، كالسقوط من مكان عال، أو في نهر يغرقه، أو المرور بجنب حائط مائل، أو دخول نار متأججة، أو رمي ماله فى البحر ونحو ذلك، لم يفعله، لعلمه بأن هذا ضرر لا منفعة فيه‏.‏ ومن لم يعلم أن هذا يضره ـ كالصبى، والمجنون، والساهي، والغافل ـ فقد يفعل ذلك‏.‏
    ومن أقدم على ما يضره ـ مع علمه بما فيه من الضرر عليه ـ فلظنه أن منفعته راجحة‏.‏
    فإما أن يجزم بضرر مرجوح، أو يظن أن الخير راجح، فلابد من رجحان الخير، إما فى الظن وإما فى المظنون، كالذي يركب البحر ويسافر الأسفار البعيدة للربح، فإنه لو جزم بأنه يغرق أو يخسر لما سافر، لكنه يترجح عنده السلامة والربح، وإن كان مخطئاً فى هذا الظن‏.‏
    وكذلك الذنوب، إذا جزم السارق بأنه يؤخذ ويقطع، لم يسرق‏.‏ وكذلك الزاني، إذا جزم بأنه يرجم، لم يزن‏.‏ والشارب يختلف حاله، فقد يقدم على جلد أربعين وثمانين، ويديم الشرب مع ذلك؛ ولهذا كان الصحيح‏:‏ أن عقوبة الشارب غير محدودة، بل يجوز أن تنتهي إلى القتل، إذا لم ينته إلا بذلك، كما جاءت بذلك الأحاديث، كما هو مذكور فى غير هذا الموضع‏.‏
    وكذلك العقوبات، متى جزم طالب الذنب بأنه يحصل له به الضرر الراجح لم يفعله، بل إما ألا يكون جازماً بتحريمه، أو يكون غير جازم بعقوبته، بل يرجو العفو بحسنات، أو توبة، أو بعفو اللّه، أو يغفل عن هذا كله، ولا يستحضر تحريماً، ولا وعيداً فيبقى غافلا غير مستحضر للتحريم، والغفلة من أضداد العلم‏.‏

    فصــل
    فالغفلة والشهوة أصل الشر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏28‏]‏، والهوى وحده لا يستقل بفعل السيئات إلا مع الجهل، وإلا فصاحب الهوى إذا علم قطعاً أن ذلك يضره ضرراً راجحاً، انصرفت نفسه عنه بالطبع؛ فإن اللّه ـ تعالى ـ جعل فى النفس حباً لما ينفعها، وبغضاً لما يضرها، فلا تفعل ما تجزم بأنه يضرها ضرراً راجحاً، بل متى فعلته كان لضعف العقل‏.‏
    ولهذا يوصف هذا بأنه عاقل، وذو نُهَى، وذو حِجَى‏.‏
    ولهذا كان البلاء العظيم من الشيطان، لا من مجرد النفس؛ فإن الشيطان يزين لها السيئات، ويأمرها بها، ويذكر لها ما فيها من المحاسن التى هي منافع لا مضار، كما فعل إبليس بآدم وحواء، فقال‏:‏ ‏{‏يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا‏}‏‏[‏طه‏:‏120، 121‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏20‏]‏‏.‏
    ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏36، 37‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا‏}‏ ‏[‏ فاطر‏:‏ 8 ‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 108‏]‏‏.‏
    وقوله‏:‏ ‏{‏زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ‏}‏ هو بتوسيط تزيين الملائكة والأنبياء والمؤمنين للخير، وتزيين شياطين الجن والإنس للشر، قال تعالى‏:‏‏{‏وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏137‏]‏‏.‏
    فأصل ما يوقع الناس فى السيئات الجهل، وعدم العلم بكونها تضرهم ضرراً راجحاً، أو ظن أنها تنفعهم نفعاً راجحاً؛ ولهذا قال الصحابة ـ رضى اللّّه عنهم ـ‏:‏ كل من عصى الله فهو جاهل، وفسروا بذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏17‏]‏، كقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 54‏]‏، ولهذا يسمى حـال فعل السيئات‏:‏ الجاهلية؛ فإنه يصاحبها حال من حال جاهلية‏.‏
    قال أبو العالية‏:‏ سألت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏17‏]‏ فقالوا‏:‏ كل من عصى اللّه فهو جاهل‏.‏ ومن تاب قبيل الموت، فقد تاب من قريب‏.‏
    وعن قتادة قال‏:‏ أجمع أصحاب محمد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على أن كل من عصى ربه فهو فى جهالة، عمداً كان أو لم يكن، وكل من عصى اللّه فهو جاهل‏.‏ وكذلك قال التابعون ومن بعدهم‏.‏
    قال مجاهد‏:‏ من عمل ذنباً ـ من شيخ أو شاب ـ فهو بجهالة‏.‏ وقال‏:‏ من عصى ربه فهو جاهل، حتى ينزع عن معصيته ‏.‏ وقال ـ أيضاً ـ‏:‏ هو إعطاء الجهالة العمد ‏.‏ وقال مجاهد ـ أيضاً ـ‏:‏ من عمل سوءاً خطأ، أو إثماً عمداً، فهو جاهل، حتى ينزع منه‏.‏ رواهن ابن أبي حاتم‏.‏ ثم قال‏:‏ وروى عن قتادة، وعمرو بن مُرَّة، والثوري، ونحو ذلك‏:‏ خطأ، أو عمداً‏.‏
    وروى عن مجاهد والضحاك قالا‏:‏ ليس من جهالته ألا يعلم حلالا ولا حراما، ولكن من جهالته‏:‏ حين دخل فيه‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ الدنيا كلها جهالة‏.‏
    وعن الحسن البصري‏:‏ أنه سئل عنها، فقال‏:‏ هم قوم لم يعلموا ما لهم مما عليهم‏.‏ قيل له‏:‏ أرأيت لو كانوا قد علموا‏؟‏ قال‏:‏ فليخرجوا منها، فإنها جهالة‏.‏
    قلت‏:‏ ومما يبين ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏28‏]‏، وكل من خشيه، وأطاعه، وترك معصيته، فهو عالم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 9‏]‏‏.‏
    وقال رجل للشعبى‏:‏ أيها العالم‏.‏ فقال‏:‏ إنما العالم من يخشى اللّه‏.‏
    وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء‏}‏ يقتضي أن كل من خشى اللّه فهو عالم؛ فإنه لا يخشاه إلا عالم‏.‏
    ويقتضي ـ أيضاً ـ أن العالم من يخشى اللّه ـ كما قال السلف‏.‏
    قال ابن مسعود‏:‏ كفى بخشية اللّه علماً، وكفى بالاغترار جهلا‏.‏
    ومثل هذا الحصر يكون من الطرفين، حصر الأول في الثانى، وهو مطرد، وحصر الثانى فى الأول نحو قوله‏:‏‏{‏إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ‏}‏ ‏[‏يــس‏:‏11‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏45‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏15، 16‏]‏‏.‏
    وذلك أنه أثبت الخشية للعلماء، ونفاها عن غيرهم، وهذا كالاستثناء؛ فإنه من النفي إثبات،عند جمهور العلماء، كقولنا‏:‏‏(‏لا إله إلا الله‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 82‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَه‏}‏‏[‏سبأ‏:‏23‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏33‏]‏‏.‏
    وقد ذهب طائفة إلى أن المستثنى مسكوت عنه، لم يثبت له ما ذكر، ولم ينف عنه‏.‏
    وهؤلاء يقولون ذلك فى صيغة الحصر بطريق الأولى، فيقولون‏:‏ نفي الخشية عن غير العلماء، ولم يثبتها لهم‏.‏
    والصواب‏:‏ قول الجمهور، أن هذا كقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏33‏]‏ فإنه ينفي التحريم عن غير هذه الأصناف ويثبتها لها، لكن أثبتها للجنس، أو لكل واحد واحد من العلماء، كما يقال‏:‏ إنما يحج المسلمون، ولا يحج إلا مسلم، وذلك أن المستثنى هل هو مقتض أو شرط‏؟‏
    ففي هذه الآية وأمثالها هو مقتض، فهو عام؛ فإن العلم بما أنذرت به الرسل يوجب الخوف‏.‏ فإذا كان العلم يوجب الخشية الحاملة على فعل الحسنات، وترك السيئات، وكل عاص فهو جاهل، ليس بتام العلم‏.‏ يبين ما ذكرنا من أن أصل السيئات الجهل، وعدم العلم‏.‏ وإذا كان كذلك، فعدم العلم ليس شيئا موجوداً، بل هو مثل عدم القدرة، وعدم السمع والبصر، وسائر الأعدام‏.‏
    والعدم لا فاعل له، وليس هو شيئاً، وإنما الشيء الموجود ‏.‏ واللّه تعالى خالق كل شىء، فلا يجوز أن يضاف العدم المحض إلى الله، لكن قد يقترن به ما هو موجود‏.‏
    فإذا لم يكن عالماً باللّه، لا يدعوه إلى الحسنات، وترك السيئات‏.‏
    والنفس بطبعها متحولة،فإنها حية،والإرادة والحركة الإرادية من لوازم الحياة؛ ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم ـ فى الحديث الصحيح‏:‏‏(‏أصدَقُ الأسماء حارث وهَمَّام‏)‏، فكل آدمي حارث وهمام، أي عامل كاسب، وهو همام، أي‏:‏ يهم ويريد، فهو متحرك بالإرادة‏.‏
    وقد جاء فى الحديث‏:‏ ‏(‏مثل القلب مثل ريشة ملقاة بأرض فَلاة‏)‏ ‏[‏فلاة‏:‏ أى لا ماء فيها ‏.‏ انظر‏:‏ القاموس مادة‏:‏ فلو‏]‏، ‏(‏ولَلْقَلْبُ أشد تَقَلُّباً من القِدْر إذا استجمعت غلياناً‏)‏‏.‏
    فلما كانت الإرادة والعمل من لوازم ذاتها، فإذا هداها اللّه، علمها ما ينفعها وما يضرها، فأرادت ما ينفعها، وتركت ما يضرها‏.‏

    فصــل
    والله ـ سبحانه ـ قد تفضل على بنى آدم بأمرين، هما أصل السعادة‏:‏
    أحدهما‏:‏ أن كل مولود يولد على الفطرة، كما فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدانه، أو يُنَصِّرانه، أو يُمَجِّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جَمْعَاء، هل تحسون فيها من جَدْعاء‏؟‏‏)‏ ثم يقول أبو هريرة‏:‏ اقرؤوا إن شئتم‏{‏ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا‏}‏، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ‏}‏ ‏[‏ الروم‏:‏30‏]‏‏.‏
    وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يقول اللّه تعالى‏:‏ خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بى ما لم أنزل به سلطاناً‏)‏‏.‏
    فالنفس بفطرتها إذا تركت كانت مقرة للّه بالإلهية، محبة له، تعبده لا تشرك به شيئاً، ولكن يفسدها ما يزين لها شياطين الإنس والجن بما يوحى بعضهم إلى بعض من الباطل، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172، 173‏]‏‏.‏
    وتفسير هذه الآية مبسوط فى غير هذا الموضع‏.‏
    الثانى‏:‏ أن الله ـ تعالى ـ قد هدى الناس هداية عامة بما جعل فيهم بالفطرة من المعرفة وأسباب العلم، وبما أنزل إليهم من الكتب، وأرسل إليهم من الرسل، قال تعالى‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1ـ 5‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏1ـ 4‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏1ـ 3‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏10‏]‏‏.‏
    ففي كل أحد ما يقتضى معرفته بالحق ومحبته له، وقد هداه ربه إلى أنواع من العلم يمكنه أن يتوصل بها إلى سعادة الأولى والآخرة‏.‏ وجعل فى فطرته محبة لذلك، لكن قد يعرض الإنسان ـ بجاهليته وغفلته ـ عن طلب علم ما ينفعه‏.‏
    وكونه لا يطلب ذلك، ولا يريده، أمر عدمي، لا يضاف إلى اللّه ـ تعالى ـ فلا يضاف إلى الله لا عدم علمه بالحق، ولا عدم إرادته للخير‏.‏
    لكن النفس ـ كما تقدم ـ الإرادة والحركة من لوازمها، فإنها حية حياة طبيعية، لكن سعادتها ونجاتها إنما تتحقق بأن تحيا الحياة النافعة الكاملة، وكان ما لها من الحياة الطبيعية موجباً لعذابها، فلا هي حية متنعمة بالحياة، ولا هي ميتة مستريحة من العذاب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 9-13‏]‏، فالجزاء من جنس العمل، لما كان فى الدنيا ليس بحي الحياة النافعة التى خلق لأجلها، بل كانت حياته من جنس حياة البهائم، ولم يكن ميتا عديم الإحساس، كان فى الآخرة كذلك، فإن مقصود الحياة هو حصول ما ينتفع به الحي ويستلذ به، والحي لابد له من لذة أو ألم، فإذا لم تحصل له اللذة لم يحصل له مقصود الحياة؛ فإن الألم ليس مقصوداً‏.‏
    كمن هو حي فى الدنيا، وبه أمراض عظيمة لا تدعه يتنعم بشيء مما يتنعم به الأحياء، فهذا يبقى طول حياته يختار الموت، ولا يحصل له‏.‏
    فلما كان من طبع النفس الملازم لها وجود الإرادة والعمل، إذ هو حارث همام، فإن عرفت الحق وأرادته، وأحبته وعبدته، فذلك من تمام إنعام الله عليها‏.‏ وإلا فهي بطبعها لابد لها من مراد معبود غير الله، ومرادات سيئة تضرها، فهذا الشر قد تركب من كونها لم تعرف الله ولم تعبده، وهذا عدم لا يضاف إلى فاعل، ومن كونها بطبعها لابد لها من مراد معبود، فعبدت غيره‏.‏ وهذا هو الشر الذي تعذب عليه، وهو من مقتضى طبعها مع عدم هداها‏.‏
    والقدرية يعترفون بهذا جميعه، وبأن الله خلق الإنسان مريداً، لكن يجعلون المخلوق كونه مريداً بالقوة والقبول، أي قابلا لأن يريد هذا وهذا‏.‏
    وأما كونه مريداً لهذا المعين، وهذا المعين، فهذا عندهم ليس مخلوقاً لله وغلطوا فى ذلك غلطاً فاحشاً؛ فإن اللّه خالق هذا كله‏.‏
    وإرادة النفس لما يريده من الذنوب وفعلها، هو من جملة مخلوقات الله تعالى؛ فإن الله خالق كل شىء، وهو الذي ألهم النفس ـ التى سواها ـ فجورها وتقواها‏.‏
    وكان النبى صلى الله عليه وسلم يقول فى دعائه‏:‏ ‏(‏اللهم آت نفسي تقواها، وزَكِّها، أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها‏)‏‏.‏
    وهو ـ سبحانه ـ جعل إبراهيم وآله أئمة يهدون بأمره، وجعل فرعون وآله أئمة يدعون إلى النار، ويوم القيامة لا يُنْصَرون‏.‏
    لكن هذا لا يضاف مفرداً إلى الله ـ تعالى ـ لوجهين‏:‏ من جهة علته الغائية، ومن جهة سببه وعلته الفاعلية‏.‏
    أما الغائية، فإن اللّه إنما خلقه لحكمة هو باعتبارها خير لا شر، وإن كان شراً إضافياً، فإذا أضيف مفرداً توهم المتوهم مذهب جَهم‏:‏ أن الله يخلق الشر المحض الذي لا خير فيه لأحد لا لحكمة ولا رحمة، والأخبار والسنة والاعتبار تبطل هذا المذهب‏.‏
    كما أنه إذا قيل‏:‏ محمد وأمته يسفكون الدماء، ويفسدون فى الأرض، كان هذا ذماً لهم، وكان باطلا‏.‏ وإذا قيل‏:‏ يجاهدون في سبيل الله لتكون كلمة اللّه هي العليا، ويكون الدين كله لله، ويقتلون من منعهم من ذلك، كان هذا مدحاً لهم، وكان حقاً‏.‏
    فإذا قيل‏:‏ إن الرب ـ تبارك وتعالى ـ حكيم رحيم، أحسن كل شىء خلقه، وأتقن ما صنع، وهو أرحم الراحمين، أرحم بعباده من الوالدة بولدها، والخير كله بيديه، والشر ليس إليه، بل لا يفعل إلا خيراً، وما خلقه من ألم لبعض الحيوانات أو من أعمالهم المذمومة، فله فيها حكمة عظيمة، ونعمة جسيمة ـ كان هذا حقاً، وهو مدح للرب وثناء عليه‏.‏
    وأما إذا قيل‏:‏ إنه يخلق الشر الذي لا خير فيه ولا منفعة لأحد، ولا له فيها حكمة ولا رحمة، ويعذب الناس بلا ذنب ـ لم يكن هذا مدحا للرب، ولا ثناء عليه، بل كان بالعكس‏.‏
    ومن هؤلاء من يقول‏:‏ إن اللّه تعالى أضر على خلقه من إبليس‏.‏
    وبسط القول فى بيان فساد قول هؤلاء له موضع آخر‏.‏
    وقد بينا بعض ما فى خلق جهنم وإبليس والسيئات من الحكمة والرحمة، وما لم نعلم أعظم مما علمناه‏.‏
    فتبارك اللّه أحسن الخالقين، وأرحم الراحمين، وخير الغافرين، ومالك يوم الدين، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، الذي لا يحصى العباد ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، الذي له الحمد فى الأولى والآخر، وله الحكم وإليه ترجعون، الذي يستحق الحمد والحب والرضا لذاته،ولإحسانه إلى عباده ـ سبحانه وتعالى ـ يستحق أن يحمد لما له فى نفسه من المحامد والإحسان إلى عباده‏.‏ هذا حمد شكر، وذاك حمد مطلقاً‏.‏
    وقد ذكرنا ـ فى غير هذا الموضع ـ ما قيل‏:‏ من أن كل ما خلقه اللّه فهو نعمة على عباده المؤمنين، يستحق أن يحمدوه ويشكروه عليه، وهو من آلائه؛ ولهذا قال فى آخر سورة النجم‏:‏ ‏{‏فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ تَتَمَارَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 55‏]‏، وفى سورة الرحمن يذكر‏:‏ ‏{‏كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 26‏]‏ ونحو ذلك، ثم يقول عقب ذلك‏:‏ ‏{‏فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 28‏]‏‏.‏
    وقال آخرون ـ منهم الزجاج، وأبو الفرج ابن الجوزي ـ‏:‏ ‏{‏فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏ أي‏:‏ من هذه الأشياء المذكورة؛ لأنها كلها ينعم بها عليكم فى دلالتها إياكم على وحدانيته، وفي رزقه إياكم ما به قوامكم‏.‏
    وهذا قالوه فى سورة الرحمن‏.‏
    وقالوا فى قوله‏:‏ ‏{‏فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ تَتَمَارَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 55‏]‏ ‏؟‏‏:‏ فبأي نِعَم ربك التى تدل على وحدانيته تتشكك‏؟‏ وقيل‏:‏ تشك وتجادل‏؟‏ قال ابن عباس‏:‏ تكذب‏؟‏
    قلت‏:‏ قد ضمن ‏{‏تَتَمَارَى‏}‏ معنى تكذب؛ ولهذا عداه بالتاء؛ فإن التماري تفاعل من المراء‏.‏ يقال‏:‏ تمارينا فى الهلال‏.‏ والمراء فى القرآن كفر، وهو يكون تكذيب وتشكيك‏.‏
    وقد يقال‏:‏ لما كان الخطاب لهم، قال‏:‏‏{‏تَتَمَارَى‏}‏ أي يتمارون، ولم يقل‏:‏ تميرا؛ فإن التفاعل يكون بين اثنين تماريا ‏.‏ قالوا‏:‏ والخطاب للإنسان ‏.‏ قيل‏:‏ للوليد بن المغيرة؛ فإنه قال‏:‏ ‏{‏أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى‏}‏ ‏[‏النجم 36-38‏]‏، ثم التفت إليه فقال‏:‏ ‏{‏فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ تَتَمَارَى‏}‏ تكذب، كما قال‏:‏ ‏{‏خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏14-16‏]‏‏.‏
    ففي كل ما خلقه الله إحسان إلى عباده، يحمد عليه حمد شكر،وله فيه حكمة تعود إليه، يستحق لأجلها أن يحمد عليه حمداً يستحقه لذاته‏.‏
    فجميع المخلوقات فيها إنعام على العباد، كالثقلين المخاطبين بقوله‏:‏ ‏{‏فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏ من جهة أنها آيات للرب، يحصل بها هدايتهم وإيمانهم الذى يسعدون به فى الدنيا والآخرة، فيدلهم عليه وعلى وحدانيته وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته‏.‏
    والآيات التى بعث بها الأنبياء وأيدهم بها ونصرهم، وإهلاك عدوهم ـ كما ذكره في سورة النجم‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏50 ـ 54‏]‏، تدلهم على صدق الأنبياء فيما أخبروا به من الأمر والنهي، والوعد والوعيد، ما بشروا به وأنذروا به‏.‏
    ولهذا قال عقيب ذلك‏:‏‏{‏هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏56‏]‏، قيل‏:‏ هو محمد‏.‏ وقيل‏:‏ هو القرآن؛ فإن الله سمى كلا منهما بشيراً ونذيراً، فقال فى رسول الله‏:‏ ‏{‏إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏188‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا‏}‏‏[‏الأحزاب‏:‏45‏]‏، وقال ـ تعالى ـ فى القرآن‏:‏ ‏{‏كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 3، 4‏]‏، وهما متلازمان‏.‏
    وكل من هذين المعنيين مراد، يقال‏:‏ هذا نذير أنذر بما أنذرت به الرسل والكتب الأولى‏.‏
    وقوله‏:‏ ‏{‏مِّنَ النُّذُرِ‏}‏ أي‏:‏ من جنسها، أي رسول من الرسل المرسلين‏.‏
    ففي المخلوقات نعم من جهة حصول الهدى والإيمان، والاعتبار والموعظة بها‏.‏ وهذه أفضل النعم‏.‏
    فأفضل النعم نعمة الإيمان وكل مخلوق من المخلوقات فهو الآيات التى يحصل بها ما يحصل من هذه النعمة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 111‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ‏}‏‏[‏ق‏:‏ 8‏]‏‏.‏
    وما يصيب الإنسان، إن كان يَسُرُّه فهو نعمة بينة، وإن كان يسؤوه فهو نعمة من جهة أنه يُكَفِّر خطاياه، ويثاب بالصبر عليه‏.‏ ومن جهة أن فيه حكمة ورحمة لا يعلمها ‏{‏وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 216‏]‏‏.‏
    وقد قال فى الحديث‏:‏ ‏(‏واللَّهِ، لا يَقْضِى اللَّهُ للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له، إن أصابته سَرَّاء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضَرَّاء صبر، فكان خيراً له‏)‏‏.‏ وإذا كان هذا وهذا، فكلاهما من نعم اللّه عليه‏.‏
    وكلتا النعمتين تحتاج مع الشكر إلى الصبر‏.‏
    أما نعمة الضراء، فاحتياجها إلى الصبر ظاهر، وأما نعمة السراء، فتحتاج إلى الصبر على الطاعة فيها؛ فإن فتنة السراء أعظم من فتنة الضراء، كما قال بعض السلف‏:‏ ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر‏.‏
    وفى الحديث‏:‏ ‏(‏أعوذ بك من فتنة الفقر، وشر فتنة الغنى‏)‏‏.‏
    والفقر يصلح عليه خَلْق كثير، والغنى لا يصلح عليه إلا أقل منهم‏.‏
    ولهذا كان أكثر من يدخل الجنة المساكين؛ لأن فتنة الفقر أهون وكلاهما يحتاج إلى الصبر والشكر، لكن لما كان في السراء اللذة، وفى الضراء الألم، اشتهر ذكر الشكر فى السراء، والصبر في الضراء، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَـئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏9ـ 11‏]‏، ولأن صاحب السراء أحوج إلى الشكر، وصاحب الضراء أحوج إلى الصبر؛ فإن صبر هذا وشكر هذا واجب، إذا تركه استحق العقاب‏.‏
    وأما صبر صاحب السراء، فقد يكون مستحباً إذا كان عن فضول الشهوات، وقد يكون واجباً، ولكن لإتيانه بالشكر ـ الذي هو حسنات ـ يغفر له ما يغفر من سيئاته‏.‏
    وكذلك صاحب الضراء، لا يكون الشكر فى حقه مستحباً إذا كان شكراً يصير به من السابقين المقربين‏.‏ وقد يكون تقصيره فى الشكر مما يغفر له، لما يأتي به من الصبر؛ فإن اجتماع الشكر والصبر ـ جميعاً ـ يكون مع تألم النفس وتلذذها، يصبر على الألم، ويشكر على النعم‏.‏ وهذا حال يعسر على كثير من الناس، وبسط هذا له موضع آخر‏.‏
    والمقصود هنا أن الله ـ تعالى ـ منعم بهذا كله، وإن كان لا يظهر الإنعام به فى الابتداء لأكثر الناس، فإن اللّه يعلم وأنتم لا تعلمون، فكل ما يفعله اللّه فهو نعمة منه‏.‏
    وأما ذنوب الإنسان، فهي من نفسه، ومع هذا فهي ـ مع حسن العاقبة ـ نعمة، وهي نعمة على غيره بما يحصل له بها من الاعتبار والهدى والإيمان؛ ولهذا كان من أحسن الدعاء قوله‏:‏ ‏(‏اللهم لا تجعلني عبرة لغيري، ولا تجعل أحداً أسعد بما علمتني منى‏)‏‏.‏
    وفي دعاء القرآن‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏85‏]‏، و‏{‏لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 5‏]‏، كما فيه‏:‏ ‏{‏وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏74‏]‏ أي‏:‏ فاجعلنا أئمة لمن يقتدي بنا ويأتم، ولا تجعلنا فتنة لمن يضل بنا ويشقى‏.‏
    و‏(‏الآلاء‏)‏ فى اللغة‏:‏ هي النعم، وهي تتضمن القدرة‏.‏
    قال ابن قتيبة‏:‏ لما عدد الله في هذه السورة ـ سورة الرحمن ـ نعماءه، وذَكَّر عباده آلاءه ونبههم على قدرته، جعل كل كلمة من ذلك فاصلة بين نعمتين، ليفهم النعم ويقررهم بها‏.‏
    وقد روى الحاكم ـ فى صحيحه ـ والترمذي، عن جابر، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ قرأ علينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الرحمن حتى ختمها، ثم قال‏:‏ ‏(‏مالي أراكم سكوتا‏؟‏ لَلْجِنُّ كانوا أحسن منكم رَدّا، ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة ـ ‏{‏فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏ ـ إلا قالوا‏:‏ ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد‏)‏‏.‏
    واللّه ـ تعالى ـ يذكر فى القرآن بآياته الدالة على قدرته وربوبيته، ويذكر بآياته التى فيها نعمه وإحسانه إلى عباده، ويذكر بآياته المبينة لحكمته تعالى، وهي كلها متلازمة‏.‏
    فكل ما خلق فهو نعمة، ودليل على قدرته وعلى حكمته‏.‏
    لكن نعمة الرزق، والانتفاع بالمآكل والمشارب والمساكن والملابس ظاهرة لكل أحد؛ فلهذا يستدل بها ـ كما فى سورة النحل ـ وتسمى سورة النعم، كما قاله قتادة وغيره‏.‏
    وعلى هذا، فكثير من الناس يقول‏:‏ الحمد أعم من الشكر، من جهة أسبابه، فإنه يكون على نعمة وعلى غير نعمة، والشكر أعم من جهة أنواعه؛ فإنه يكون بالقلب واللسان واليد‏.‏
    فإذا كان كل مخلوق فيه نعمة،لم يكن الحمد إلا على نعمة، والحمد لله على كل حال؛ لأنه ما من حال يقضيها إلا وهي نعمة على عباده‏.‏
    لكن هذا فَهْم من عرف ما فى المخلوقات من النعم‏.‏ والجهمية والجبرية بمعزل عن هذا‏.‏
    وكذلك كل ما يخلقه، ففيه له حكمة،فهو محمود عليه باعتبار تلك الحكمة والجهميةـ أيضاً ـ بمعزل عن هذا‏.‏
    وكذلك القدرية ـ الذين يقولون‏:‏ لا تعود الحكمة إليه، بل ما ثم إلا نفع الخلق ـ فما عندهم إلا شكر، كما ليس عند الجهمية إلا قدرة‏.‏
    والقدرة المجردة عن نعمة وحكمة لا يظهر فيها وصف حمد، كالقادر الذي يفعل ما لا ينتفع به، ولا ينفع به أحداً، فهذا لا يحمد‏.‏
    فحقيقة قول الجهمية ـ أتباع جَهْم ـ أنه لا يستحق الحمد، فله عندهم ملك بلا حمد، مع تقصيرهم فى معرفة ملكه‏.‏
    كما أن المعتزلة له عندهم من الحمد بلا ملك تام؛ إذ كان عندهم يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، وتحدث حوادث بلا قدرته‏.‏
    وعلى مذهب السلف، له الملك وله الحمد تامين، وهو محمود على حكمته، كما هو محمود على قدرته ورحمته‏.‏
    وقد قال‏:‏ ‏{‏شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏18‏]‏، فله الوحدانية في إلهيته، وله العدل، وله العزة والحكمة‏.‏
    وهذه الأربعة إنما يثبتها السلف وأتباعهم، فمن قصر عن معرفة السنة، فقد نقص الرب بعض حقه‏.‏
    والجهمي الجبري لا يثبت عدلا ولا حكمة، ولا توحيد إلهية، بل توحيد ربوبيته‏.‏
    والمعتزلي ـ أيضاً ـ لا يثبت فى الحقيقة توحيد إلهية ولا عدلا فى الحسنات والسيئات، ولا عزة ولا حكمة فى الحقيقة، وإن قال‏:‏ إنه يثبت الحكمة بما معناها يعود إلى غيره‏.‏ وتلك لا يصلح أن تكون حكمة، من فعل لا لأمر يرجع إليه، بل لغيره هو عند العقلاء قاطبة بها ليس بحكيم، بل سفيه‏.‏
    وإذا كان الحمد لا يقع إلا على نعمة، فقد ثبت أنه رأس الشكر، فهو أول الشكر‏.‏
    والحمد ـ وإن كان على نعمته وعلى حكمته، فالشكر بالأعمال هو على نعمته، وهو عبادة له لإلهيته التى تتضمن حكمته، فقد صار مجموع الأمور داخلا فى الشكر‏.‏
    ولهذا عظم القرآن أمر الشكر، ولم يعظم أمر الحمد مجرداً؛ إذ كان نوعاً من الشكر‏.‏
    وشرع الحمد ـ الذي هو الشكر المقول ـ أمام كل خطاب مع التوحيد‏.‏
    ففي الفاتحة الشكرُ والتوحيد، والخطب الشرعية لابد فيها من الشكر والتوحيد‏.‏ والباقيات الصالحات نوعان؛ فسبحان اللّه وبحمده فيها الشكر والتنزيه والتعظيم، ولا إله إلا اللّه، واللّه أكبر فيها التوحيد والتكبير‏.‏
    وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 65‏]‏‏.‏
    وهل الحمد على كل ما يحمد به الممدوح، وإن لم يكن باختياره، أو لا يكون الحمد إلا على الأمور الاختيارية، كما قيل فى الذم‏؟‏ فيه نظر ليس هذا موضعه‏.‏
    وفى الصحيح‏:‏ أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول‏:‏ ‏(‏ربنا ولك الحمد، ملء السماء، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بَعْدُ، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيتَ، ولا مُعْطِيَ لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجَدُّ منك الجد‏)‏‏.‏ هذا لفظ الحديث‏.‏ ‏(‏أحق‏)‏‏:‏ أفعل التفضيل‏.‏
    وقد غلط فيه طائفة من المصنفين، فقالوا‏:‏‏(‏حق ما قال العبد‏)‏، وهذا ليس لفظ الرسول‏.‏ وليس هو بقول سديد؛ فإن العبد يقول الحق والباطل، بل حق ما يقوله الرب، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏84‏]‏‏.‏
    ولكن لفظه‏:‏‏(‏أحق ما قال العبد‏)‏ خبر مبتدأ محذوف، أي الحمد أحق ما قال العبد، أو هذا ـ وهو الحمد ـ أحق ما قال العبد‏.‏
    ففيه بيان‏:‏ أن الحمد للّه أحق ما قاله العباد؛ ولهذا أوجب قوله في كل صلاة، وأن تفتتح به الفاتحة، وأوجب قوله في كل خطبة، وفى كل أمر ذي بال‏.‏
    والحمد ضد الذم، والحمد يكون على محاسن المحمود، مع المحبة له، كما أن الذم يكون على مساويه، مع البغض له‏.‏
    فإذا قيل‏:‏ إنه ـ سبحانه ـ يفعل الخير والحسنات، وهو حكيم رحيم بعباده، أرحم بعباده من الوالدة بولدها ـ أوجب ذلك أن يحبه عباده ويحمدوه‏.‏
    وأما إذا قيل‏:‏ بل يخلق ما هو شر محض، لا نفع فيه، ولا رحمة، ولا حكمة لأحد، وإنما يتصف بإرادة ترجح مثلا على مثل، لا فرق عنده بين أن يرحم أو يعذب، وليست نفسه ولا إرادته مرجحة للإحسان إلى الخلق، بل تعذيبهم وتنعيمهم سواء عنده، وهو ـ مع هذا ـ يخلق ما يخلق لمجرد العذاب والشر، ويفعل ما يفعل لا لحكمة ـ ونحو ذلك، مما يقوله الجهمية ـ لم يكن هذا موجباً لأن يحبه العباد ويحمدوه، بل هو موجب للعكس‏.‏
    ولهذا فإن كثيراً من هؤلاء ينطقون بالذم والشتم والطعن، ويذكرون ذلك نظماً ونثراً‏.‏
    وكثير من شيوخ هؤلاء وعلمائهم من يذكر فى كلامه ما يقتضي هذا، ومن لم يقله بلسانه فقلبه ممتلئ به، لكن يرى أن ليس فى ذكره منفعة، أو يخاف من عموم المسلمين‏.‏
    وفي شعر طائفة من الشيوخ ذكر نحو هذا‏.‏
    وهؤلاء يقيمون حجج إبليس وأتباعه على اللّه، ويجعلون الرب ظالماً لهم‏.‏
    وهو خلاف ما وصف اللّه به نفسه، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 76‏]‏،وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏101‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏46‏]‏‏.‏
    كيف يكون ظالماً وهم فيما بينهم لو أساء بعضهم إلى بعض، أو قصر فى حقه لكان يؤاخذه، ويعاقبه وينتقم منه، ويكون ذلك عدلا إذا لم يعتد عليه‏؟‏‏!‏
    ولو قال‏:‏ إن الذي فعلته قدر علي فلا ذنب لي فيه، لم يكن هذا عذراً له عندهم باتفاق العقلاء‏.‏
    فإذا كان العقلاء متفقين على أن حق المخلوق لا يجوز إسقاطه احتجاجاً بالقدر،فكيف يجوز إسقاط حق الخالق احتجاجاً بالقدر وهو ـ سبحانه ـ الحكم العدل، الذي لا يظلم مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها، ويؤت من لدنه أجراً عظيماً‏؟‏ وهذا مبسوط فى غير هذا الموضع‏.‏
    فقوله‏:‏ ‏(‏أحق ما قال العبد‏)‏‏:‏ يقتضي أن حمد الله أحق ما قاله العبد، فله الحمد على كل حال؛ لأنه لا يفعل إلا الخير والإحسان، الذي يستحق الحمد عليه ـ سبحانه وتعالى ـ وإن كان العباد لا يعلمون‏.‏
    وهو ـ سبحانه ـ خلق الإنسان، وخلق نفسه متحركة بالطبع حركة لابد فيها من الشر لحكمة بالغة، ورحمة سابغة‏.‏
    فإذا قيل‏:‏ فلم لم يخلقها على غير هذا الوجه‏؟‏
    قيل‏:‏ كان يكون ذلك خلقاً غير الإنسان، وكانت الحكمة التى خلقها بخلق الإنسان لا تحصل، وهذا سؤال الملائكة حيث قالوا‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏30‏]‏، وما لم تعلمه الملائكة، فكيف يعلمه آحاد الناس‏.‏
    ونفس الإنسان خلقت كما قال اللّه تعالى‏:‏‏{‏إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 19ـ21‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ‏}‏‏[‏الأنبياء‏:‏37‏]‏‏.‏
    فقد خلقت خلقة تستلزم وجود ما وجد منها لحكمة عظيمة، ورحمة عميمة، فكان ذلك خيراً ورحمة، وإن كان فيه شر إضافي ـ كما تقدم ـ فهذا من جهة الغاية، مع أنه لا يضاف الشر إلى الله‏.‏
    وأما الوجه الثاني من جهة السبب‏:‏ فإن هذا الشر إنما وجد لعدم العلم والإرادة التى تصلح النفس، فإنها خلقت بفطرتها تقتضي معرفة اللّه ومحبته‏.‏ وقد هديت إلى علوم وأعمال تعينها على ذلك، وهذا كله من فضل الله وإحسانه، لكن النفس المذنبة لما لم يحصل لها من يكملها، بل حصل لها من زين لها السيئات ـ من شياطين الإنس والجن ـ مالت إلى ذلك، وفعلت السيئات، فكان فعلها للسيئات مركباً من عدم ما ينفع وهو الأفضل، ووجود هؤلاء الذين حيروها، والعدم لا يضاف إلى اللّه‏.‏ وهؤلاء القول فيهم كالقول فيها؛ خلقهم لحكمة‏.‏
    فلما كان عدم ما تعمل به وتصلح هو أحد السببين، وكان الشر المحض الذي لا خير فيه هو العدم المحض، والعدم لا يضاف إلى الله؛ فإنه ليس شيئاً، واللّه خالق كل شيء ـ كانت السيئات منها بأعتبار ‏[‏أن‏]‏ ذاتها فى نفسها مستلزمة للحركة الإرادية التى تحصل منهاـ مع عدم ما يصلحها ـ تلك السيئات‏.‏
    والعبد إذا اعترف وأقر بأن اللّه خالق أفعاله كلها، فهو على وجهين‏:‏ إن اعترف به إقراراً بخلق الله كل شيء، بقدرته ونفوذ مشيئته، وإقراراً بكلماته التامات التى لا يجاوزهن بَرٌّ ولا فاجر، واعترافا بفقره وحاجته إلى اللّه، وأنه إن لم يهده فهو ضال، وإن لم يتب عليه فهو مصر، وإن لم يغفر له فهو هالك ـ خضع لعزته وحكمته ـ فهذا حال المؤمنين الذين يرحمهم اللّه، ويهديهم ويوفقهم لطاعته‏.‏
    وإن قال ذلك احتجاجاً على الرب، ودفعاً للأمر والنهي عنه، وإقامة لعذر نفسه - فهذا ذنب أعظم من الأول‏.‏ وهذا من أتباع الشيطان، ولا يزيده ذلك إلا شراً، وقد ذكرنا أن الرب ـ سبحانه ـ محمود لنفسه ولإحسانه إلى خلقه؛ ولذلك هو يستحق المحبة لنفسه ولإحسانه إلى عباده، ويستحق أن يرضى العبد بقضائه؛ لأن حكمه عدل لا يفعل إلا خيراً وعدلا، ولأنه لا يقضى للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له ‏(‏إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له‏)‏‏.‏
    فالمؤمن يرضى بقضائه لما يستحقه الرب لنفسه ـ من الحمد والثناء ـ ولأنه محسن إلى المؤمن‏.‏
    وما تسأله طائفة من الناس، وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا يقضي اللّه للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له‏)‏‏.‏ وقد قضى عليه بالسيئات الموجبة للعقاب، فكيف يكون ذلك خيراً‏؟‏
    وعنه جوابان‏:‏
    أحدهما‏:‏ أن أعمال العباد لم تدخل فى الحديث، وإنما دخل فيه ما يصيب الإنسان من النعم والمصائب، كما فى قوله‏:‏ ‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏79‏]‏؛ ولهذا قال‏:‏ ‏(‏إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له‏)‏، فجعل القضاء ما يصيبه من سراء وضراء‏.‏ هذا ظاهر لفظ الحديث، فلا إشكال عليه‏.‏
    الوجه الثانى‏:‏ أنه إذا قدر أن الأعمال دخلت فى هذا، فقد قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن‏)‏‏.‏
    فإذا قضى له بأن يحسن، فهذا مما يسره، فيشكر اللّه عليه‏.‏
    وإذا قضى عليه بسيئة، فهي إنما تكون سيئة يستحق العقوبة عليها إذا لم يتب منها، فإن تاب أبدلت بحسنة، فيشكر اللّه عليها، وإن لم يتب ابتلى بمصائب تكفرها فصبر عليها، فيكون ذلك خيراً له‏.‏ والرسول صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا يقضي الله للمؤمن‏)‏، والمؤمن هو الذي لا يصر على ذنب، بل يتوب منه، فيكون حسنة، كما قد جاء في عدة آيات‏:‏ أن العبد ليعمل الذنب فيدخل به الجنة بعمله، لا يزال يتوب منه حتى يدخل بتوبته منه الجنة‏.‏
    والذنب يوجب ذل العبد وخضوعه، ودعاء اللّه واستغفاره إياه، وشهوده بفقره وحاجته إليه، وأنه لا يغفر الذنوب إلا هو‏.‏
    فيحصل للمؤمن ـ بسبب الذنب ـ من الحسنات ما لم يكن يحصل بدون ذلك، فيكون هذا القضاء خيراً له‏.‏
    فهو فى ذنوبه بين أمرين‏:‏ إما أن يتوب فيتوب اللّه عليه، فيكون من التوابين الذين يحبهم الله‏.‏
    وإما أن يكفر عنه بمصائب؛ تصيبه ضراء فيصبر عليها، فيكفر عنه السيئات بتلك المصائب، وبالصبر عليها ترتفع درجاته‏.‏
    وقد جاء فى بعض الأحاديث‏:‏ يقول الله تعالى‏:‏‏(‏أهْلُ ذِكْرِى أهل مجالستى، وأهل شكرى أهل زيادتى، وأهل طاعتى أهل كرامتى، وأهل معصيتى لا أؤيسهم من رحمتى، إن تابوا فأنا حبيبهم ـ أي محبهم؛ فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ـ وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأكَفِّرَ عنهم المعائب‏)‏‏.‏
    وفى قوله تعالى‏:‏ ‏(‏من نفسك‏)‏ من الفوائد‏:‏ أن العبد لا يركن إلى نفسه، ولا يسكن إليها؛ فإن الشر لا يجىء إلا منها، ولا يشتغل بملام الناس ولا ذمهم إذا أساؤوا إليه؛ فإن ذلك من السيئات التى أصابته، وهي إنما أصابته بذنوبه، فيرجع إلى الذنوب فيستغفر منها، ويستعيذ باللّه من شر نفسه وسيئات عمله، ويسأل اللّه أن يعينه على طاعته، فبذلك يحصل له كل خير، ويندفع عنه كل شر‏.‏
    ولهذا كان أنفع الدعاء، وأعظمه وأحكمه دعاء الفاتحة‏:‏‏{‏اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏6، 7‏]‏، فإنه إذا هداه هذا الصراط أعانه على طاعته وترك معصيته، فلم يصبه شر، لا في الدنيا ولا في الآخرة‏.‏
    لكن الذنوب هي من لوازم نفس الإنسان، وهو محتاج إلى الهدى في كل لحظة، وهو إلى الهدى أحوج منه إلى الأكل والشرب‏.‏
    ليس كما يقوله طائفة من المفسرين‏:‏ إنه قد هداه، فلماذا يسأل الهدى‏؟‏
    وأن المراد بسؤال الهدى‏:‏ الثبات، أو مزيد الهداية‏.‏
    بل العبد محتاج إلى أن يعلمه ربه ما يفعله من تفاصيل أحواله‏.‏ وإلى ما يتولد من تفاصيل الأمور فى كل يوم، وإلى أن يلهم أن يعمل ذلك‏.‏
    فإنه لا يكفى مجرد علمه إن لم يجعله الله مريداً للعمل بعلمه، وإلا كان العلم حجة عليه، ولم يكن مهتدياً، والعبد محتاج إلى أن يجعله اللّه قادراً على العمل بتلك الإرادة الصالحة‏.‏
    فإنه لا يكون مهتدياً إلى الصراط المستقيم ـ صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ـ إلا بهذه العلوم والإرادات، والقدرة على ذلك‏.‏
    ويدخل فى ذلك من أنواع الحاجات ما لا يمكن إحصاؤه‏.‏
    ولهذا كان الناس مأمورين بهذا الدعاء في كل صلاة؛ لفرط حاجتهم إليه، فليسوا إلى شيء أحوج منهم إلى هذا الدعاء‏.‏
    وإنما يعرف بعض قدر هذا الدعاء من اعتبر أحوال نفسه ونفوس الإنس والجن، والمأمورين بهذا الدعاء، ورأى ما فى النفوس من الجهل والظلم الذي يقتضي شقاءها فى الدنيا والآخرة، فيعلم أن الله ـ بفضله ورحمته ـ جعل هذا الدعاء من أعظم الأسباب المقتضية للخير، المانعة من الشر‏.‏
    ومما يبين ذلك أن اللّه ـ تعالى ـ لم يقص علينا فى القرآن قصة أحد إلا لنعتبر بها، لما فى الاعتبار بها من حاجتنا إليه ومصلحتنا‏.‏
    وإنما يكون الاعتبار إذا قسنا الثانى بالأول، وكانا مشتركين في المقتضى للحكم‏.‏
    فلولا أن في نفوس الناس من جنس ما كان فى نفوس المكذبين للرسل ـ فرعون ومن قبله ـ لم يكن بنا حاجة إلى الاعتبار بمن لا نشبهه قط، ولكن الأمر كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏43‏]‏، وكما قـال تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏52‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏118‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏30‏]‏‏.‏
    ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لتسلكن سَنَنَ من كان قبلكم حَذْوَ القُذَّة بالقذة، حتى لو دخلوا جُحْر ضَبٍّ لدخلتموه‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ اليهود والنصارى‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏فمن‏؟‏‏)‏‏.‏
    وقال‏:‏ ‏(‏لتأخذن أمتى مأخذ الأمم قبلها، شِبْراً بشبر، وذراعاً بذراع‏)‏‏.‏ قيل‏:‏ يا رسول اللّه، فارس والروم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏فمن‏؟‏‏)‏ وكلا الحديثين فى الصحيحين‏.‏
    ولما كان فى غزوة حُنَيْن كان للمشركين شجرة، يقال لها‏:‏ ذات أنواط، يعلقون عليها أسلحتهم، وينوطونها بها، ويستظلون بها متبركين فقال بعض الناس‏:‏ يا رسول اللّه، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏الله أكبر، قلتم كما قال قوم موسى لموسى‏:‏ اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، إنها السَّنَنَ، لتركبن سَنَن من كان قبلكم‏)‏‏.‏
    وقد بين القرآن أن السيئات من النفس، وإن كانت بقدر اللّه‏.‏
    فأعظم السيئات جحود الخالق، والشرك به، وطلب النفس أن تكون شريكة ونِدا له، أو أن تكون إلها من دونه، وكلا هذين وقع؛ فإن فرعون طلب أن يكون إلها معبوداً دون الله تعالى، وقال‏:‏ ‏{‏مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏38‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 24‏]‏، وقال لموسى‏:‏ ‏{‏لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 29‏]‏، و ‏{‏اسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏54‏]‏‏.‏
    وإبليس يطلب أن يعبد ويطاع من دون اللّه، فيريد أن يعبد ويطاع هو، ولا يعبد اللّه ولا يطاع‏.‏ وهذا الذى فى فرعون وإبليس هو غاية الظلم والجهل‏.‏
    وفى نفوس سائر الإنس والجن شعبة من هذا وهذا، إن لم يعن اللّه العبد ويهديه، وإلا وقع فى بعض ما وقع فيه إبليس وفرعون بحسب الإمكان‏.‏
    قال بعض العارفين‏:‏ ما من نفس إلا وفيها ما فى نفس فرعون، غير أن فرعون قَدَر فأظهر، وغيره عجز فأضمر‏.‏
    وذلك أن الإنسان إذا اعتبر وتعرف نفسه والناس، وسمع أخبارهم، رأى الواحد منهم يريد لنفسه أن تطاع وتعلو بحسب قدرته‏.‏
    فالنفس مشحونة بحب العلو والرياسة، بحسب إمكانها، فتجد أحدهم يوالى من يوافقه على هواه، ويعادى من يخالفه فى هواه، وإنما معبوده ما يهواه ويريده، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏43‏]‏‏؟‏ والناس عنده فى هذا الباب كما هم عند ملوك الكفار من المشركين من الترك وغيرهم، يقولون‏:‏ ‏(‏يا رباعى‏)‏ أي‏:‏ صديق وعدو‏.‏ فمن وافق هواهم كان ولياً، وإن كان كافراً مشركاً، ومن لم يوافق هواهم كان عدوا، وإن كان من أولياء اللّه المتقين، وهذه هى حال فرعون‏.‏
    والواحد من هؤلاء يريد أن يطاع أمره بحسب إمكانه، لكنه لا يتمكن مما تمكن منه فرعون من دعوى الإلهية، وجحود الصانع‏.‏
    وهؤلاء - وإن كانوا يقرون بالصانع ـ لكنهم إذا جاءهم من يدعوهم إلى عبادته وطاعته المتضمنة ترك طاعتهم، فقد يعادونه، كما عادى فرعون موسى‏.‏
    وكثير من الناس ممن عنده بعض عقل وإيمان، لا يطلب هذا الحد، بل يطلب لنفسه ما هو عنده، فإن كان مطاعاً مسلماً طلب أن يطاع فى أغراضه، وإن كان فيها ما هو ذنب ومعصية الله، ويكون من أطاعه في هواه أحب إليه وأعز عنده ممن أطاع اللّه وخالف هواه، وهذه شعبة من حال فرعون، وسائر المكذبين للرسل‏.‏
    وإن كان عالماً أو شيخاً، أحب من يعظمه دون من يعظم نظيره، حتى لو كانا يقرآن كتابا واحداً كالقرآن، أو يعبدان عبادة واحدة متماثلان فيها، كالصلوات الخمس؛ فإنه يحب من يعظمه بقبول قوله والاقتداء به أكثر من غيره، وربما أبغض نظيره وأتباعه حسداً وبغياً، كما فعلت اليهود لما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم يدعـو إلى مثل ما دعا إليه موسى، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏91‏]‏، وقـال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 4‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏14‏]‏‏.‏
    ولهذا أخبر اللّه ـ تعالى ـ عنهم بنظير ما أخبر به عن فرعون، وسلط عليهم من انتقم به منهم، فقال تعالى عن فرعون‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏4‏]‏،وقال تعالى عنهم‏:‏‏{‏وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 4‏]‏؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏83‏]‏‏.‏
    واللّه ـ سبحانه وتعالى ـ إنما خلق الخلق لعبادته، ليذكروه ويشكروه ويعبدوه، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب ليعبدوا اللّه وحده، وليكون الدين كله لله، ولتكون كلمة اللّه هي العليا، كما أرسل كل رسول بمثل ذلك، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏25‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 45‏]‏‏.‏
    وقد أمر اللّه الرسل كلهم بهذا، وألا يتفرقوا فيه، فقال‏:‏‏{‏إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏92‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 51 ـ 53‏]‏‏.‏
    قال قتادة‏:‏ أي دينكم دين واحد، وربكم رب واحد، والشريعة مختلفة‏.‏ وكذلك قال الضحاك عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏ أي‏:‏ دينكم دين واحد‏.‏ قال ابن أبي حاتم‏:‏ وروى عن سعيد بن جبير، وقتادة وعبد الرحمن بن زيد نحو ذلك‏.‏ وقال الحسن‏:‏ بين لهم ما يتقون وما يأتون، ثم قال‏:‏ إن هذه سنتكم سنة واحدة‏.‏
    وهكذا قال جمهور المفسرين ‏.‏
    والأمة‏:‏ الملة والطريقة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 22‏]‏، ‏{‏مُّقْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏23‏]‏، كما يسمى الطريق‏:‏ إماماً؛ لأن السالك فيه يأتم به، فكذلك السالك يؤمه ويقصده‏.‏
    والأمة ـ أيضاً ـ‏:‏ معلم الخير، الذي يأتم به الناس، كما أن الإمام‏:‏ هو الذي يأتم به الناس‏.‏ وإبراهيم ـ عليه السلام ـ جعله الله إماماً، وأخبر أنه ‏{‏كَانَ أُمَّةً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 120‏]‏‏.‏
    وأمر اللّه الرسل أن تكون ملتهم ودينهم واحداً، لا يتفرقون فيه، كما فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إنا معشر الأنبياء ديننا واحد‏)‏، وقد قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏13‏]‏؛ ولهذا كان جميع رسل الله وأنبيائه يصدق بعضهم بعضاً، لا يختلفون، مع تنوع شرائعهم‏.‏
    فمن كان من المطاعين ـ من العلماء والمشايخ والأمراء والملوك ـ متبعاً للرسل‏:‏أمر بما أمروا به،ودعا إلى ما دعوا إليه،وأحب من دعا إلى مثل ما دعا إليه،فإن اللّه يحب ذلك، فيحب ما يحبه اللّه تعالى،وهذا قصده فى نفس الأمر أن تكون العبادة للّه ـ تعالى ـ وحده، وأن يكون الدين كله للّه‏.‏
    وأما من كان يكره أن يكون له نظير يدعو إلى ذلك، فهذا يطلب أن يكون هو المطاع المعبود، فله نصيب من حال فرعون وأشباهه‏.‏
    فمن طلب أن يطاع دون اللّه،فهذا حال فرعون،ومن طلب أن يطاع مع اللّه،فهذا يريد من الناس أن يتخذوا من دون اللّه أنداداً يحبونهم كحب الله‏.‏ والله ـ سبحانه وتعالى ـ أمر ألا يعبد إلا إياه،وألا يكون الدين إلا له، وأن تكون الموالاة فيه، والمعاداة فيه، وألا يتوكل إلا عليه، ولا يستعان إلا به‏.‏
    فالمؤمن المتبع للرسل يأمر الناس بما أمرتهم به الرسل، ليكون الدين كله لله، لا له، وإذا أمر أحد غيره بمثل ذلك أحبه وأعانه، وسر بوجود مطلوبه‏.‏
    وإذا أحسن إلى الناس، فإنما يحسن إليهم ابتغاء وجه ربه الأعلى، ويعلم أن الله قد مَنَّ عليه بأن جعله محسناً، ولم يجعله مسيئاً، فيرى أن عمله لله، وأنه باللّه‏.‏
    وهذا مذكور فى فاتحة الكتاب، التى ذكرنا أن جميع الخلق محتاجون إليها أعظم من حاجتهم إلى أي شيء‏.‏
    ولهذا فرضت عليهم قراءتها فى كل صلاة دون غيرها من السور ولم ينزل فى التوراة، ولا في الإنجيل، ولا فى الزبور، ولا في القرآن مثلها، فإن فيها‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏5‏]‏
    فالمؤمن يرى أن عمله لله؛ لأنه إياه يعبد، وأنه بالله؛لأنه إياه يستعين، فلا يطلب ممن أحسن إليه جزاء ولا شكوراً؛ لأنه إنما عمل له ما عمل لله، كما قال الأبرار‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏9‏]‏، ولا يمن عليه بذلك ولا يؤذيه؛ فإنه قد علم أن اللّه هو المانّ عليه، إذ استعمله فى الإحسان، وأن المنة لله عليه، وعلى ذلك الشخص، فعليه هو أن يشكر الله، إذ يسره لليسرى، وعلى ذلك أن يشكر اللّه، إذ يسر له من يقدم له ما ينفعه من رزق أو علم أو نصر، أو غير ذلك‏.‏
    ومن الناس من يحسن إلى غيره ليَمُنّ عليه، أو يرد الإحسان له بطاعته إليه وتعظيمه، أو نفع آخر، وقد يمن عليه، فيقول‏:‏ أنا فعلت بك كذا، فهذا لم يعبد الله ولم يستعنه، ولا عمل لله، ولا عمل بالله، فهو المرائى‏.‏
    وقد أبطل الله صدقة المنَّان، وصدقة المرائي، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏264، 265‏]‏‏.‏
    قال قتادة‏:‏‏{‏تَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ‏}‏‏:‏ احتساباً من أنفسهم‏.‏ وقال الشعبى‏:‏ يقيناً، وتصديقاً من أنفسهم‏.‏ وكذلك قال الكلبى‏.‏ قيل‏:‏ يخرجون الصدقة طيبة بها أنفسهم، على يقين بالثواب، وتصديق بوعد اللّه، يعلمون أن ما أخرجوه خير لهم مما تركوه‏.‏
    قلت‏:‏ إذا كان المعطى محتسباً للأجر عند الله، مصدقاً بوعد اللّه له، طالباً من اللّه، لا من الذي أعطاه، فلا يمن عليه‏.‏ كما لو قال رجل لآخر‏:‏ أعط مماليكك هذا الطعام، وأنا أعطيك ثمنه، لم يمن على المماليك، لاسيما إذا كان يعلم أن الله قد أنعم عليه بالإعطاء‏.
    فصــل
    الفرق السادس‏:‏ أن يقال‏:‏ إن ما يبتلى به العبد من الذنوب الوجودية ـ وإن كانت خلقاً للّه ـ فهو عقوبة له على عدم فعله ما خلقه الله له، وفطره عليه؛ فإن الله إنما خلقه لعبادته وحده لا شريك له، ودله على الفطرة، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كل مولود يولد على الفطرة‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏30‏]‏‏.‏
    فهو لما لم يفعل ما خلق له، وما فطر عليه، وما أمر به ـ من معرفة اللّه وحده وعبادته وحده ـ عوقب على ذلك، بأن زين له الشيطان ما يفعله من الشرك والمعاصي‏.‏
    قال تعالى للشيطان‏:‏‏{‏اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا‏}‏ إلى قوله‏:‏‏{‏إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏63 ـ 65‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏99، 100‏]‏،وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 201، 202‏]‏‏.‏
    فقد تبين أن إخلاص الدين لله يمنع من تسلط الشيطان، ومن ولاية الشيطان التى توجب العذاب، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏24‏]‏‏.‏
    فإذا أخلص العبد لربه الدين كان هذا مانعاً له من فعل ضد ذلك، ومن إيقاع الشيطان له فى ضد ذلك، وإذا لم يخلص لربه الدين، ولم يفعل ما خلق له، وفطر عليه، عوقب على ذلك، وكان من عقابه تسلط الشيطان عليه، حتى يزين له فعل السيئات، وكان إلهامه لفجوره عقوبة له على كونه لم يتق الله‏.‏
    وعدم فعله للحسنات ليس أمراً وجودياً، حتى يقال‏:‏ إن الله خلقه، بل هو أمر عدمي، لكن يعاقب عليه لكونه عدم ما خلق له، وما أمر به، وهذا يتضمن العقوبة على أمر عدمى، لكن بفعل السيئات لا بالعقوبات ـ التى يستحقها بعد إقامة الحجة عليه ـ بالنار ونحوها‏.‏
    وقد تقدم أن مجرد عدم المأمور‏:‏ هل يعاقب عليه‏؟‏ فيه قولان‏.‏
    والأكثرون يقولون‏:‏ لا يعاقب عليه؛ لأنه عدم محض‏.‏ ويقولون‏:‏ إنما يعاقب على الترك، وهذا أمر وجودي‏.‏
    وطائفة ـ منهم‏:‏ أبو هاشم ـ قالوا‏:‏ بل يعاقب على هذا العدم، بمعنى أنه يعاقب عليه كما يعاقب على فعل الذنوب بالنار ونحوها‏.‏
    وما ذكر فى هذا الوجه هو أمر وسط، وهو أن يعاقبه على هذا العدم بفعل السيئات لا بالعقوبة عليها، ولا يعاقبه عليها حتى يرسل إليه رسوله، فإذا عصى الرسول استحق حينئذ العقوبة التامة، وهو ـ أولا ـ إنما عوقب بما يمكن أن ينجو من شره، بأن يتوب منه،أو بألا تقوم عليه الحجة، وهو كالصبى الذي لا يشتغل بما ينفعه، بل بما هو سبب لضرره، ولكن لا يكتب عليه قلم الإثم حتى يبلغ، فإذا بلغ عوقب‏.‏
    ثم ما تعوده من فعل السيئات، قد يكون سبباً لمعصيته بعد البلوغ، وهو لم يعاقب إلا على ذنبه، ولكن العقوبة المعروفة إنما يستحقها بعد قيام الحجة عليه‏.‏ وأما اشتغاله بالسيئات فهو عقوبة عدم عمله للحسنات‏.‏
    وعلى هذا، فالشر ليس إلى الله بوجه من الوجوه؛ فإنه ـ وإن كان اللّه خالق أفعال العباد ـ فخلقه للطاعات نعمة ورحمة، وخلقه للسيئات له فيه حكمة ورحمة، وهو ـ مع هذا ـ عدل منه، فما ظلم الناس شيئاً، ولكن الناس ظلموا أنفسهم‏.‏
    وظلمهم لأنفسهم نوعان‏:‏ عدم عملهم بالحسنات، فهذا ليس مضافاً إليه، وعملهم للسيئات خلقه عقوبة لهم على ترك فعل الحسنات التى خلقهم لها، وأمرهم بها، فكل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل‏.‏
    ومن تدبر القرآن تبين له أن عامة ما يذكره الله في خلق الكفر والمعاصي يجعله جزاء لذلك العمل، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏125‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏5‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 8 ـ10‏]‏‏.‏
    وهذا وأمثاله بذلوا فيه أعمالا، عاقبهم بها على فعل محظور، وترك مأمور‏.‏
    وتلك الأمور إنما كانت منهم وخلقت فيهم؛ لكونهم لم يفعلوا ما خلقوا له، ولابد لهم من حركة وإرادة، فلما لم يتحركوا بالحسنات حركوا بالسيئات، عدلا من الله، حيث وضع ذلك موضعه فى محله القابل له ـ وهو القلب الذي لا يكون إلا عاملا ـ فإذا لم يعمل الحسنة استعمل فى عمل السيئة، كما قيل‏:‏ نفسك إن لم تشغلها شغلتك‏.‏
    وهذا الوجه ـ إذا حقق ـ يقطع مادة كلام القدرية المكذبة، والمجبرة الذين يقولون‏:‏ إن أفعال العباد ليست مخلوقة لله، ويجعلون خلقها والتعذيب عليها ظلماً، والذين يقولون‏:‏ إنه خلق كفر الكافرين ومعصيتهم، وعاقبهم على ذلك لا لسبب ولا لحكمة‏.‏
    فإذا قيل لأولئك‏:‏ إنه إنما أوقعهم فى تلك الذنوب، وطبع على قلوبهم عقوبة لهم على عدم فعلهم ما أمرهم به، فما ظلمهم، ولكن هم ظلموا أنفسهم‏.‏
    يقال‏:‏ظلمته‏:‏ إذا نقصته حقه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 33‏]‏‏.‏
    وكثير من أولئك يسلمون أن الله خلق للعبد من الأعمال ما يكون جزاء له على عمل منه متقدم، ويقولون‏:‏ إنه خلق طاعة المطيع‏.‏
    فلا ينازعون فى نفس خلق أفعال العباد، لكن يقولون‏:‏ ما خلق شيئاً من الذنوب ابتداء، بل إنما خلقها جزاء لئلا يكون ظالماً‏.‏
    فنقول‏:‏ أول ما يفعله العبد من الذنوب هو أحدثه، لم يحدثه اللّه، ثم ما يكون جزاء على ذلك فاللّّه محدثه، وهم لا ينازعون في مسألة خلق الأفعال إلا من هذه الجهة‏.‏
    وهذا الذى ذكرناه يوافقون عليه، لكن يقولون‏:‏ أول الذنوب لم يحدثه الله، بل يحدثه العبد لئلا يكون الجزاء عليه ظلما‏.‏
    وما ذكرناه يوجب أن اللّه خالق كل شىء، فما حدث شىء إلا بمشيئته وقدرته، لكن أول الذنوب الوجودية هو المخلوق، وذاك عقوبة على عدم فعل العبد لما خلق له، ولما كان ينبغي له أن يفعله‏.‏
    وهذا العدم لا يجوز إضافته إلى اللّه، وليس بشىء حتى يدخل فى قولنا‏:‏ ‏(‏اللّه خالق كل شىء‏)‏، وما أحدثه من الذنوب الوجودية، فأولها عقوبة للعبد على هذا العدم، وسائرها قد يكون عقوبة للعبد على ما وجد، وقد يكون عقوبة له على استمراره على العدم‏.‏
    فما دام لا يخلص للّه العمل، فلا يزال مشركا، ولا يزال الشيطان مسلطا عليه‏.‏
    ثم تخصيصه ـ سبحانه ـ لمن هداه ـ بأن استعمله ابتداء فيما خلق له، وهذا لم يستعمله ـ هو تخصيص منه بفضله ورحمته؛ ولهذا يقول الله‏:‏ ‏{‏وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 105‏]‏، ولذلك حكمة ورحمة هو أعلم بها، كما خص بعض الأبدان بقوى لا توجد في غيرها، وبسبب عدم القوة قد تحصل له أمراض وجودية، وغير ذلك، من حكمته‏.‏
    وبتحقيق هذا يدفع شبهات هذا الباب، واللّه أعلم بالصواب‏.‏
    فصــل
    ومما ذكر فيه العقوبة على عدم الإيمان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏110‏]‏، وهذا من تمام قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ‏}‏الآية ‏[‏الأنعام‏:‏109،110‏]‏، فذكر أن هذا التقليب إنما حصل لقلوبهم لما لم يؤمنوا به أول مرة، وهذا عدم الإيمان‏.‏
    لكن يقال‏:‏ إنما كان هذا بعد دعوة الرسول لهم، وهم قد تركوا الإيمان، وكذبوا الرسول، وهذه أمور وجودية، لكن الموجب للعذاب هو عدم الإيمان، وما ذكر شرط فى التعذيب، بمنزلة إرسال الرسول؛ فإنه قد يشتغل عن الإيمان بما جنسه مباح ـ من أكل وشرب، وبيع وسفر، وغير ذلك ـ وهذا الجنس لا يستحق عليه العقوبة إلا لأنه شغله عن الإيمان الواجب عليه‏.‏
    ومن الناس من يقول‏:‏ ضد الإيمان هو تركه، وهو أمر وجودي، لا ضد له إلا ذلك‏.‏
    فصــل
    الفرق السابع ـ من الحسنات والسيئات التى تتناول الأعمال والجزاء في كون هذه تضاف إلى النفس، وتلك تضاف إلى اللّه ـ‏:‏ أن السيئات التى تصيب الإنسان ـ وهي مصائب الدنيا والآخرة ـ ليس لها سبب إلا ذنبه الذي هو من نفسه، فانحصرت فى نفسه‏.‏
    وأما ما يصيبه من الخير والنعم فإنه لا تنحصر أسبابه؛ لأن ذلك من فضل اللّه وإحسانه، يحصل بعمله وبغير عمله، وعمله نفسه من إنعام الله عليه‏.‏ وهو ـ سبحانه ـ لا يجزي بقدر العمل، بل يضاعفه له، ولا يقدر العبد على ضبط أسبابها، لكن يعلم أنها من فضل الله وإنعامه، فيرجع فيها إلى الله، فلا يرجو إلا الله، ولا يتوكل إلا عليه، ويعلم أن النعم كلها من اللّه، وأن كل ما خلقه فهو نعمة ـ كما تقدم ـ فهو يستحق الشكر المطلق العام التام، الذي لا يستحقه غيره‏.‏
    ومن الشكر‏:‏ ما يكون جزاء على ما يسره على يديه من الخير،كشكر الوالدين وشكر من أحسن إليك من غيرهما؛ فإنه من لا يشكر الناس لا يشكر اللّه، لكن لا يبلغ من حق أحد وإنعامه أن يشكر بمعصية اللّه، أو أن يطاع بمعصية الله؛ فإن اللّه هو المنعم بالنعم العظيمة، التى لا يقدر عليها مخلوق‏.‏ ونعمة المخلوق إنما هي منه أيضاً، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏53‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏13‏]‏، وجزاؤه ـ سبحانه ـ على الطاعة والمعصية والكفر لا يقدر أحد على مثله‏.‏
    فلهذا لم يجز أن يطاع مخلوق في معصية الخالق، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 8‏]‏، وقال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏15‏]‏‏.‏
    وقال النبى صلى الله عليه وسلم ـ فى الحديث الصحيح ـ‏:‏‏(‏على المرء المسلم السمع والطاعة فى عسره ويسره، ومنشطه ومكرهه، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة‏)‏‏.‏ وفى الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إنما الطاعة فى المعروف‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏من أمركم بمعصية الله فلا تطيــعوه‏)‏، وقـال‏:‏ ‏(‏لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق‏)‏‏.‏
    وهذا مبسوط فى غير هذا الموضع‏.‏
    والمقصود هنا أنه إذا عرف أن النعم كلها من الله، وأنه لا يقدر أن يأتي بها إلا اللّه، فلا يأتى بالحسنات إلا هو،ولا يذهب السيئات إلا هو، وأنه ‏{‏مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا
    وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 2‏]‏ ـ صار توكله ورجاؤه ودعاؤه للخالق وحده‏.‏
    وكذلك إذا علم ما يستحقه اللّه من الشكر ـ الذي لا يستحقه غيره ـ صار علمه بأن الحسنات من اللّه يوجب له الصدق في شكر الله، والتوكل عليه‏.‏
    ولو قيل‏:‏ إنها من نفسه لكان غلطاً؛ لأن منها ما ليس لعمله فيه مدخل، وما كان لعمله فيه مدخل فإن اللّه هو المنعم به، فإنه لا حول ولا قوة إلا باللّه، ولا مَلْجَأ ولا مَنْجَى منه إلا إليه‏.‏
    وعلم أن الشر قد انحصر سببه فى النفس، فضبط ذلك وعلم من أين يؤتى، فاستغفر ربه مما فعل وتاب، واستعان اللّه واستعاذ به مما لم يعمل بعد، كما قال من قال من السلف‏:‏ لا يَرْجُوَنّ عَبْدٌ إلا ربه، ولا يَخافنَّ عبد إلا ذَنبه‏.‏
    وهذا يخالف قول الجهمية ومن اتبعهم، الذين يقولون‏:‏ إن اللّه يعذب بلا ذنب، ويعذب أطفال الكفار وغيرهم عذابا دائماً أبداً بلا ذنب‏.‏
    فإن هؤلاء يقولون‏:‏ يخاف اللّه خوفاً مطلقاً، سواء كان له ذنب أو لم يكن له ذنب، ويشبهون خوفه بالخوف من الأسد، ومن الملك القاهر الذي لا ينضبط فعله ولا سطوته، بل قد يقهر ويعذب من لا ذنب له من رعيته‏.‏
    فإذا صَدَّقَ العبد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏79‏]‏، علم بطلان هذا القول، وأن اللّه لا يعذبه ويعاقبه إلا بذنوبه، حتى المصائب التى تصيب العبد كلها بذنوبه‏.‏
    وقد تقدم قول السلف ـ ابن عباس وغيره ـ أن ما أصابهم يوم أُحُد من الغم والفشل إنما كان بذنوبهم، لم يستثن من ذلك أحد‏.‏
    وهذا من فوائد تخصيص الخطاب؛ لئلا يظن أنه عام مخصوص‏.‏
    وفى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما يصيب المؤمن من وَصَب ولا نَصَب، ولا هَمٍّ ولا حزن ولا غَمٍّ، حتى الشوكة يشاكها، إلا كَفَّر اللّه بها من خطاياه‏)‏‏.‏
    فصــل
    الفرق الثامن‏:‏ أن السيئة إذا كانت من النفس، والسيئة خبيثة مذمومة، وصفها بالخبث فى مثل قوله‏:‏ ‏{‏الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏26‏]‏‏.‏
    قال جمهور السلف‏:‏ الكلمات الخبيثة للخبيثين‏.‏ ومن كلام بعضهم‏:‏ الأقوال والأفعال الخبيثة للخبيثين‏.‏
    وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏24‏]‏، ‏{‏وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏26‏]‏، وقال اللّه‏:‏ ‏{‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ‏}‏‏[‏فاطر‏:‏10‏]‏، والأقوال والأفعال صفات القائل الفاعل‏.‏
    فإذا كانت النفس متصفة بالسوء والخبث لم يكن محلها ينفعه إلا ما يناسبها‏.‏
    فمن أراد أن يجعل الحيات والعقارب يعاشرون الناس كالسنانير لم يصلح‏.‏
    ومن أراد أن يجعل الذي يكذب شاهداً على الناس، لم يصلح‏.‏
    وكذلك من أراد أن يجعل الجاهل معلماً للناس، مفتياً لهم، أو يجعل العاجز الجبان مقاتلا عن الناس، أو يجعل الأحمق الذى لا يعرف شيئاً سائساً للناس، أو للدواب، فمثل هذا يوجب الفساد في العالم، وقد يكون غير ممكن، مثل من أراد أن يجعل الحجارة تَسْبَح على وجه الماء كالسفن، أو تصعد إلى السماء كالريح، ونحو ذلك‏.‏
    فالنفوس الخبيثة لا تصلح أن تكون في الجنة الطيبة التى ليس فيها من الخبث شيء، فإن ذلك موجب للفساد، أو غير ممكن‏.‏
    بل إذا كان فى النفس خبث طهرت وهذبت، حتى تصلح لسكنى الجنة‏.‏
    كما في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدرى ـ رضي اللّه عنه ـ عن النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن المؤمنين إذا نجوا من النار ـ أي عبروا الصراط ـ وقفوا على قَنْطَرة بين الجنة والنار، فيُقْتَصّ لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، فإذا هُذِّبوا ونُقُّوا أذن لهم فى دخول الجنة‏)‏‏.‏
    وهذا مما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم فى الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم فى دخول الجنة، فو الذي نفس محمد بيده، لأحدهم أهدى بمنزله فى الجنة منه بمنزله كان في الدنيا‏)‏‏.‏
    والتهذيب‏:‏ التخليص، كما يهذب الذهب، فيخلص من الغش‏.‏
    فتبين أن الجنة إنما يدخلها المؤمنون بعد التهذيب والتنقية من بقايا الذنوب، فكيف بمن لم يكن له حسنات يعبر بها الصراط‏؟‏
    وأيضاً فإذا كان سببها ثابتاً فالجزاء كذلك، بخلاف الحسنة، فإنها من إنعام الحي القيوم الباقى، الأول الآخر، فسببها دائم، فيدوم بدوامه‏.‏
    وإذا علم الإنسان أن السيئة من نفسه، لم يطمع فى السعادة التامة، مع ما فيه من الشر، بل علم تحقيق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏123‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 7، 8‏]‏‏.‏
    وعلم أن الرب عليم حليم، رحيم عدل، وأن أفعاله جارية على قانون العدل والإحسان، وكل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل‏.‏
    وفي الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏يمين الله ملأى، لا يَغِيضُها نفقة، سَحَّاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض‏؟‏ فإنه لم يَغِضْ ما فى يمينه، والقِسْط بيده الأخرى يخفض ويرفع‏)‏‏.‏
    وعلم فساد قول الجهمية، الذين يجعلون الثواب والعقاب بلا حكمة ولا عدل، ولا وضع للأشياء مواضعها، فيصفون الرب بما يوجب الظلم والسفه، وهو ـ سبحانه ـ قد شهد ‏{‏أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏18‏]‏‏.‏
    ولهذا يقولون‏:‏ لا ندري ما يفعل بمن فعل السيئات، بل يجوز عندهم أن يعفو عن الجميع، ويجوز عندهم أن يعذب الجميع، ويجوز أن يعذب ويغفر بلا موازنة، بل يعفو عن شر الناس، ويعذب خير الناس على سيئة صغيرة، ولا يغفرها له‏.‏
    وهم يقولون‏:‏ السيئة لا تمحى، لا بتوبة ولا حسنات ماحية ولا غير ذلك، وقد لا يفرقون بين الصغائر والكبائر‏.‏
    قالوا‏:‏ لأن هذا كله إنما يعلم بالسمع والخبر، خبر الله ورسوله‏.‏
    قالوا‏:‏ وليس في الكتاب والسنة ما يبين ما يفعل اللّه بمن كسب السيئات، إلا الكفر، وتأولوا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏31‏]‏، بأن المراد بالكبائر‏:‏ قد يكون هو الكفر وحده، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏116‏]‏‏.‏
    وقد ذكر هذه الأمور القاضي أبو بكر بن الباقلاني وغيره، ممن يقول بمثل هذه الأقوال ممن سلك مسلك جَهْم بن صَفْوان في القَدَر وفى الوعيد، وهؤلاء قصدوا مناقضة المعتزلة فى القدر والوعيد‏.‏
    فأولئك لما قالوا‏:‏ إن الله لم يخلق أفعال العباد، وأنه يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، وسلكوا مسلك نفاة القدر فى هذا، وقالوا في الوعيد بنحو قول الخوارج، قالوا‏:‏ إن من دخل النار لا يخرج منها، لا بشفاعة ولا غيرها، بل يكون عذابه مؤبداً، فصاحب الكبيرة، أو من رجحت سيئاته ـ عندهم ـ لا يرحمه اللّه أبدا، بل يخلده في النار‏.‏ فخالفوا السنة المتواترة وإجماع الصحابة فيما قالوه فى القدر، وناقضهم جهم فى هذا وهذا‏.‏
    وسلك هؤلاء مسلك جهم، مع انتسابهم إلى أهل السنة والحديث واتباع السلف، وكذلك سلكوا فى الإيمان والوعيد مسلك المرجئة الغلاة كجهم وأتباعه‏.‏
    وجهم اشتهر عنه نوعان من البدعة‏:‏ نوع فى الأسماء والصفات، فغلا فى نفي الأسماء والصفات، ووافقه على ذلك ملاحدة الباطنية والفلاسفة ونحوهم، ووافقه المعتزلة فى نفي الصفات دون الأسماء‏.‏
    والكلابِيَّة ـ ومن وافقهم من السالمية، ومن سلك مسلكهم من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية ـ وافقوه على نفي الصفات الاختيارية دون نفي أصل الصفات‏.‏
    والكَرَّامِيَّة ـ ونحوهم ـ وافقوه على أصل ذلك، وهو امتناع دوام ما لا يتناهى، وأنه يمتنع أن يكون اللّه لم يزل متكلما إذا شاء، وفعالاً لما يشاء إذا شاء؛ لامتناع حوادث لا أول لها، وهو عن هذا الأصل ـ الذي هو نفى وجود ما لا يتناهى فى المستقبل ـ قال بفناء الجنة والنار‏.‏
    وقد وافقه أبو الهذيل ‏[‏هو أبو الهذبل محمد بن الهذبل ين عبد الله ين مكحول العبدى، مولى عبد القيس، شيخ المعتزلة، إشتهر بعلم الكلام وكان خبيث القول فارق إجماع المسلمين، له كتب كثبرة منها كتاب سماه ‏[‏ميلاس‏]‏ على إسم مجوسى أسلم على يده، ولد فى البصرة سنة 135هـ، وتوفى بسامرا سنة 235هـ‏]‏ ـ إمام المعتزلة ـ على هذا، لكن قال بتناهى الحركات‏.‏
    فالمعتزلة فى الصفات مخانيث الجهمية‏.‏
    وأما الكلابية، فيثبتون الصفات فى الجملة، وكذلك الأشعريون، ولكنهم ـ كما قال الشيخ أبو إسماعيل الأنصارى ـ‏:‏ الجهمية الإناث، وهم مخانيث المعتزلة‏.‏
    ومن الناس من يقول‏:‏ المعتزلة مخانيث الفلاسفة‏.‏
    وقد ذكر الأشعري وغيره هذا؛ لأن قائله لم يعلم أن جهماً سبق هؤلاء إلى هذا الأصل، أو لأنها مخانيثهم من بعض الوجوه، وإلا فإن مخالفتهم للفلاسفة كبيرة جداً‏.‏
    والشهرستانى يذكر عن شيوخهم‏:‏ أنهم أخذوا ما أخذوا عن الفلاسفة؛ لأن الشهرستانى إنما يرى مناظرة أصحابه الأشعرية فى الصفات ونحوها مع المعتزلة، بخلاف أئمة السنة والحديث؛ فإن مناظرتهم إنما كانت مع الجهمية، وهم المشهورون عند السلف والأمة بنفى الصفات‏.‏
    وأهل النفي للصفات والتعطيل لها، هم عند السلف يقال لهم‏:‏ الجهمية، وبهذا تميزوا عند السلف عن سائر الطوائف‏.‏
    وأما المعتزلة، فامتازوا بقولهم بالمنزلة بين المنزلتين، لما أحدث ذلك عمرو بن عبيد وكان هو وأصحابه يجلسون معتزلين للجماعة، فيقول قتادة وغيره‏:‏ أولئك المعتزلة، وكان ذلك بعد موت الحسن البصري في أوائل المائة الثانية،وبعدهم حدثت الجهمية‏.‏
    وكان القدر قد حَدَّث أهله قبل ذلك في خلافة عبد اللّه بن الزبير، بعد موت معاوية؛ ولهذا تكلم فيهم ابن عمر وابن عباس ـ رضي اللّه عنهم ـ وغيرهما‏.‏
    وابن عباس مات قبل ابن الزبير، وابن عمر مات عقب موته، وعقب ذلك تولى الحجاج العراق سنة بضع وسبعين‏.‏
    فبقي الناس يخوضون فى القَدَر بالحجاز والشام والعراق، وأكثره كان بالشام والعراق بالبصرة، وأقله كان بالحجاز‏.‏
    ثم لما حدَّثت المعتزلة ـ بعد موت الحسن، وتُكلم فى المنزلة بين المنزلتين، وقالوا بإنفاذ الوعيد، وخلود أهل التوحيد فى النار، وأن النار لا يخرج منها من دخلها، وهذا تغليظ على أهل الذنوب ـ ضموا إلى ذلك القدر؛ فإن به يتم التغليظ على أهل الذنوب، ولم يكن الناس إذ ذاك قد أحدثوا شيئاً من نفي الصفات‏.‏
    إلى أن ظهر الجَعْد بن درهم، وهو أولهم، فضحى به خالد بن عبد اللّه القسري، وقال‏:‏ أيها الناس ضَحُّوا، تقبل الله ضحاياكم، فإنى مُضَحٍّ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، تعالى اللّه عما يقول الجعد علواً كبيراً‏.‏ ثم نزل فذبحه‏.‏ وهذا كان بالعراق‏.‏
    ثم ظهر جهم بن صفوان من ناحية المشرق من تِرمِذ،ومنها ظهر رأي جهم‏.‏
    ولهذا كان علماء السنة والحديث بالمشرق، أكثر كلاماً فى رد مذهب جهم من أهل الحجاز والشام والعراق، مثل إبراهيم بن طَهْمَان ‏[‏هو أبو سعيد إبراهيم بن طهمان بن شعيب الهروى الخراسانى، حافظ، ولد فى هراة وأقام فى نيسابور وبغداد، وتوفى سنة 861هـ‏]‏ وخارجة بن مصعب، ومثل عبد اللّه ابن المبارك، وأمثالهم ـ وقد تكلم فى ذمهم ـ وابن الماجشون وغيرهما وكذلك الأوزاعي وحماد بن زيد وغيرهم‏.‏
    وإنما اشتهرت مقالتهم من حين محنة الإمام أحمد بن حنبل وغيره من علماء السنة، فإنهم فى إمارة المأمون قووا وكثروا؛ فإنه كان قد أقام بخراسان مدة، واجتمع بهم، ثم كتب بالمحنة من طرسوس سنة ثماني عشرة ومائتين، وفيها مات‏.‏ وردوا أحمد بن حنبل إلى الحبس ببغداد إلى سنة عشرين، وفيها كانت محنته مع المعتصم ومناظرته لهم في الكلام، فلما رد عليهم ما احتجوا به عليه، وبين أن لا حجة لهم في شيء من ذلك، وأن طلبهم من الناس أن يوافقوهم، وامتحانهم إياهم جهل وظلم، وأراد المعتصم إطلاقه، فأشار عليه من أشار بأن المصلحة ضربه،حتى لا تنكسر حرمة الخلافة مرة بعد مرة، فلما ضربوه قامت الشناعة عليهم فى العامة، وخافوا الفتنة، فأطلقوه‏.‏
    وكان أحمد بن أبي دؤاد قد جمع له نفاة الصفات القائلين بخلق القرآن من جميع الطوائف؛ فجمع له مثل أبى عيسى محمد بن عيسى برغوث، ومن أكابر النجارية أصحاب حسين النجار‏.‏
    وأئمة السنة ـ كابن المبارك، وأحمد بن إسحاق، والبخارى وغيرهم ـ يسمون جميع هؤلاء‏:‏ جهمية‏.‏
    وصار كثير من المتأخرين ـ من أصحاب أحمد وغيرهم ـ يظنون أن خصومه كانوا المعتزلة‏.‏ويظنون أن بشر بن غياث المريسي ـ وإن كان قد مات قبل محنة أحمد، وابن أبى دؤاد ونحوهما ـ كانوا معتزلة وليس كذلك‏.‏
    بل المعتزلة كانوا نوعاً من جملة من يقول‏:‏ القرآن مخلوق، وكانت الجهمية أتباع جهم، والنجارية أتباع حسين النجار، والضرارية أتباع ضرار بن عمرو، والمعتزلة هؤلاء، يقولون‏:‏ القرآن مخلوق، وبسط هذا له موضع آخر‏.‏
    والمقصود هنا أن جهماً اشتهر عنه نوعان من البدعة‏:‏ أحدهما‏:‏ نفي الصفات‏.‏ والثانى‏:‏ الغلو فى القدر والإرجاء‏.‏ فجعل الإيمان مجرد معرفة القلب، وجعل العباد لا فعل لهم ولا قدرة‏.‏
    وهذان مما غلت المعتزلة فى خلافه فيهما‏.‏
    وأما الأشعري، فوافقه على أصل قوله، ولكن قد ينازعه منازعات لفظية‏.‏
    وجهم لم يثبت شيئاً من الصفات ـ لا الإرادة ولا غيرها ـ فهو إذا قال‏:‏ إن الله يحب الطاعات، ويبغض المعاصي، فمعنى ذلك عنده‏:‏ الثواب والعقاب‏.‏
    وأما الأشعري، فهو يثبت الصفات ـ كالإرادة ـ فاحتاج حينئذ أن يتكلم في الإرادة‏:‏ هل هي المحبة أم لا‏؟‏ وأن المعاصي‏:‏ هل يحبها اللّه أم لا‏؟‏ فقال‏:‏ إن المعاصي يحبها اللّه ويرضاها، كما يريدها‏.‏
    وذكر أبو المعالي الجويني‏:‏ أنه أول من قال ذلك، وأن أهل السنة قبله كانوا يقولون‏:‏ إن اللّه لا يحب المعاصي‏.‏
    وذكر الأشعري في الموجز‏:‏ أنه قد قال ذلك قبله طائفة سماهم، أشك فى بعضهم‏.‏
    وشاع هذا القول فى كثير من الصوفية ومشايخ المعرفة والحقيقة، فصاروا يوافقون جهماً في مسائل الأفعال والقدر، وإن كانوا مكفرين له فى مسائل الصفات، كأبي إسماعيل الأنصاري الهروي، صاحب كتاب ‏(‏ذم الكلام‏)‏، فإنه من المبالغين فى ذم الجهمية لنفيهم الصفات‏.‏وله كتاب ‏(‏تكفير الجهمية‏)‏ ويبالغ فى ذم الأشعرية، مع أنهم من أقرب هذه الطوائف إلى السنة والحديث، وربما كان يلعنهم‏.‏
    وقد قال له بعض الناس ـ بحضرة نظام الملك ـ‏:‏ أتلعن الأشعرية‏؟‏ فقال‏:‏ ألعن من يقول‏:‏ ليس فى السموات إله، ولا فى المصحف قرآن، ولا فى القبر نبى، وقام من عنده مغضباً‏.‏
    ومع هذا، فهو فى مسألة إرادة الكائنات، وخلق الأفعال، أبلغ من الأشعرية‏.‏ لا يثبت سبباً ولا حكمة، بل يقول‏:‏ إن مشاهدة العارف الحكم لا تبقى له استحسان حسنة، ولا استقباح سيئة‏.‏
    والحكم ـ عنده ـ هي المشيئة؛ لأن العارف المحقق ـ عنده ـ هو من يصل إلى مقام الفناء، فيفنى عن جميع مراداته بمراد الحق، وجميع الكائنات مرادة له، وهذا هو الحكم عنده‏.‏ والحسنة والسيئة يفترقان فى حظ العبد؛ لكونه ينعم بهذه، ويعذب بهذه‏.‏ والالتفات إلى هذا هو من حظوظ النفس، ومقام الفناء ليس فيه إلا مشاهدة مراد الحق‏.‏
    وهذه المسألة وقعت في زمن الجنيد، كما ذكر ذلك فى غير موضع‏.‏
    وبين لهم الجنيد الفرق الثاني، وهو أنهم ـ مع مشاهدة المشيئة العامة ـ لابد لهم من مشاهدة الفرق بين ما يأمر الله به وما ينهى عنه وهو الفرق بين ما يحبه وما يبغضه‏.‏ وبين لهم الجنيد، كما قال فى التوحيد‏:‏ هو إفراد الحدوث عن القدم‏.‏
    فمن سلك مسلك الجنيد، من أهل التصوف والمعرفة، كان قد اهتدى ونجا وسعد‏.‏
    ومن لم يسلك فى القدر مسلكه، بل سوى بين الجميع، لزمه ألا يفرق بين الحسنات والسيئات، وبين الأنبياء والفساق، فلا يقول‏:‏ إن اللّه يحب هؤلاء وهذه الأعمال‏.‏ ولا يبغض هؤلاء وهذه الأعمال، بل جميع الحوادث هو يحبها كما يريدها، كما قاله الأشعري‏.‏ وإنما الفرق‏:‏ أن هؤلاء ينعمون، وهؤلاء يعذبون‏.‏
    والأشعري لما أثبت الفرق بين هذا وهذا ـ بالنسبة إلى المخلوق ـ كان أعقل منهم‏.‏
    فإن هؤلاء يدعون أن العارف الواصل إلى مقام الفناء لا يفرق بين هذا وهذا‏.‏
    وهم غلطوا فى حق العبد وحق الرب‏.‏
    أما في حق العبد، فيلزمهم أن تستوى عنده جميع الحوادث، وهذا محال قطعاً‏.‏وهم قد تمر عليهم أحوال يفنون فيها عن أكثر الأشياء، أما الفناء عن جميعها فممتنع؛ فإنه لابد أن يفرق كل حي بين ما يؤلمه وبين ما يلذه، فيفرق بين الخبز والتراب، والماء والشراب‏.‏
    فهؤلاء عزلوا الفرق الشرعي الإيمانى الرحمانى، الذي به فرق الله بين أوليائه وأعدائه، وظنوا أنهم مع الجمع القدري‏.‏
    وعلى هذا، فإن تسوية العبد بين جميع الحوادث ممتنع لذاته، بل لابد للعبد من أن يفرق؛ فإن لم يفرق بالفرق الشرعي ـ فيفرق بين محبوب الحق ومكروهه وبين ما يرضاه وما يسخطه ـ وإلا فرق بالفرق الطبعي بهواه وشيطانه، فيحب ما تهواه نفسه، وما يأمر به الشيطان‏.‏
    ومن هنا وقع منهم خلق كثير فى المعاصي، وآخرون فى الفسوق، وآخرون فى الكفر، حتى جَوَّزوا عبادة الأصنام‏.‏
    ثم كثير منهم من ينتقل إلى وحدة الوجود، وهم الذين خالفوا الجنيد وأئمة الدين في التوحيد، فلم يفرقوا بين القديم والمحدث‏.‏
    وهؤلاء صرحوا بعبادة كل موجود ـ كما قد بسط الكلام عليهم فى غير هذا الموضع ـ وهو قول أهل الوحدة، كابن عربي الحاتمي، وابن سبعين، والقونوي، والتلمسانى، والبليانى، وابن الفارض، وأمثالهم‏.‏
    والمقصود هنا‏:‏ الكلام على من نفى الحكم والعدل والأسباب فى القدر من أهل الكلام والمتصوفة، الذين وافقوا جهماً فى هذا الأصل‏.‏ وهو بدعته الثانية التى اشتهرت عنه، بخلاف الإرجاء؛ فإنه منسوب إلى طوائف غيره‏.‏
    فهؤلاء يقولون‏:‏ إن الرب يجوز أن يفعل كل ما يقدر عليه ويمكن فعله، من غير مراعاة حكمة، ولا رحمة ولا عدل، ويقولون‏:‏ إن مشيئته هي محبته‏.‏
    ولهذا تجد من اتبعهم غير معظم للأمر والنهي، والوعد والوعيد بل هو منحل عن الأمر الشرعي كله، أو عن بعضه، أو متكلف لما يعتقده أو يعلمه؛ فإنهم أرادوا أن الجميع بالنسبة إلى الرب سواء، وأن كل ما شاءه فقد أحبه، وأنه يحدث ما يحدثه بدون أسباب يخلقه بها، ولا حكمة يسوقه إليها، بل غايته أنه يسوق المقادير إلى المواقيت‏.‏
    لم يبق عندهم فرق في نفس الأمر بين المأمور والمحظور، بل وافقوا جَهْماً، ومن قال بقوله ـ كالأشعري ـ فى أنه فى نفس الأمر لا حسن ولا سيئ، وإنما الحسن والقبح مجرد كونه مأموراً به ومحظوراً، وذلك فرق يعود إلى حظ العبد، هؤلاء يدعون الفناء عن الحظوظ‏.‏
    فتارة يقولون فى امتثال الأمر والنهي‏:‏ إنه من مقام التلبيس، أو ما يشبه هذا، كما يوجد فى كلام أبي إسماعيل الهروي ـ صاحب منازل السائرين‏.‏
    وتارة يقولون‏:‏ يفعل هذا لأهل المارستان ـ أي العامة ـ كما يقوله الشيخ المغربى، إلى أنواع، ليس هذا موضع بسطها‏.‏
    ومن يسلك مسلكهم غايته ـ إذا عظـم الأمر والنهي ـ أن يقول ـ كمـا نقل عـن الشاذلي ــ‏:‏ يكون الجمع فى قلبك مشهوداً، والفرق على لسانك موجوداً‏.‏
    ولهذا يوجد فى كلامه وكلام غيره أقوال وأدعية وأحزاب تستلزم تعطيل الأمر والنهي، مثل أن يدعو أن يعطيه اللّه إذا عصاه أعظم مما يعطيه إذا أطاعه، ونحو هذا مما يوجب أنه يجوز عنده أن يجعل الذين اجترحوا السيئات كالذين آمنوا وعملوا الصالحات، بل أفضل منهم، ويدعون بأدعية فيها اعتداء، كما يوجد فى جواب الشاذلي، وقد بسط الكلام على هذا فى غير هذا الموضع‏.‏
    وآخرون من عوام هؤلاء يجوزون أن يكرم اللّه بكرامات أكابر الأولياء من يكون فاجراً، بل كافراً، ويقولون‏:‏ هذه موهبة وعطية، يعطيها الله من يشاء،ما هي متعلقة لا بصلاة، ولا بصيام، ويظنون أن تلك من كرامات الأولياء، وتكون كراماتهم من الأحوال الشيطانية، التى يكون مثلها للسحرة والكهان، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ‏}‏ ‏[‏البقرة 101، 102‏]‏‏.‏
    وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لتتبعن سَنَنَ من كان قبلكم حَذْو القُذَّةِ بالقذة، حتى لو دخلوا جُحْر ضَبٍّ لدخلتموه‏)‏‏.‏
    والمسلمون ـ الذين جاءهم كتاب الله‏:‏ القرآن ــ عدل كثير منهم ــ ممن أضله الشيطان من المنتسبين إلى الإسلام ـ إلى أن نبذ كتاب اللّه وراء ظهره، واتبع ما تتلوه الشياطين، فلا يعظم أمر القرآن ولا نهيه، ولا يوالى من أمر القرآن بموالاته، ولا يعادي من أمر القرآن بمعاداته، بل يعظم من رآه يأتى ببعض خوارقهم، التى يأتى بمثلها السحرة والكهان بإعانة الشياطين، وهي تحصل بما تتلوه الشياطين‏.‏
    ثم منهم من يعرف أن هذا من الشيطان، ولكن يعظم ذلك لهواه، ويفضله على طريق القرآن ليصل به إلى تقديس العامة، وهؤلاء كفار، كالذين قال الله تعالى فيهم‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏51،52‏]‏‏.‏
    وهؤلاء ضاهوا الكفار، الذين قال اللّه تعالى فيهم‏:‏‏{‏وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ‏}‏الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 101، 102‏]‏‏.‏
    ومنهم من لا يعرف أن هذا من الشياطين‏.‏
    وقد يقع فى مثل هذا طوائف من أهل الكلام، والعلم، وأهل العبادة، والتصوف، حتى جَوَّزوا عبادة الكواكب والأصنام، لما رأوه فيها من الأحوال العجيبة، التى تعينهم عليها الشياطين، لما يحصل لهم بها من بعض أغراضهم، من الظلم والفواحش، فلا يبالون بشركهم بالله، ولا كفرهم به وبكتابه إذا نالوا ذلك، ولم يبالوا بتعليم ذلك للناس، وتعظيمهم لهم، لرياسة ينالونها، أو مال ينالونه‏.‏ وإن كانوا قد علموا أنه الكفر والشرك عملوه، ودعوا إليه، بل حصل عندهم ريب وشك فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أو اعتقاد أن الرسول خاطب الجمهور بما لا حقيقة له فى الباطن؛ لأجل مصلحة الجمهور، كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة والملاحدة والباطنية‏.‏
    وقد دخل فى رأي هؤلاء طائفة من هؤلاء وهؤلاء، وهذا مما ضاهوا به فارس والروم وغيرهم؛ فإن فارس كانت تعظم الأنوار، وتسجد للشمس وللنار‏.‏ والروم كانوا ـ قبل النصرانية ـ مشركين يعبدون الكواكب والأصنام، فهؤلاء ـ الذين أشبهوا فارس والروم ـ شر من الذين أشبهوا اليهود والنصارى، فإن أولئك ضاهوا أهل الكتاب فيما بُدِّل أو نُسِخ، وهؤلاء ضاهوا من لا كتاب له من المجوس والمشركين، فارس والروم، ومن دخل في ذلك من الهند واليونان‏.‏
    ومذهب الملاحدة الباطنية مأخوذ من قول المجوس بالأصلين، ومن قول فلاسفة اليونان بالعقول والنفوس‏.‏
    وأصل قول المجوس يرجع إلى أن تكون الظلمة المضاهية للنور هي إبليس، وقول الفلاسفة بالنفس‏.‏
    فأصل الشر عبادة النفس والشيطان، وجعلهما شريكان للرب وأن يعدلا به، ونفس الإنسان تفعل الشر بأمر الشيطان‏.‏وقد علَّم النبى صلى الله عليه وسلم أبا بكر ـ رضى اللّه عنه ـ أن يقول ــ إذا أصبح وإذا أمسى، وإذا أخذ مضجعه ـ‏:‏‏(‏اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك،إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم‏)‏‏.‏
    وهذا من تمام تحقيق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏79‏]‏، مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏42‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏85‏]‏‏.‏
    وقد ظهرت دعوى النفس الإلهية فى فرعون ونحوه، ممن ادعى أنه إله مع اللّه أو من دونه، وظهرت فيمن ادعى إلهية بشر مع اللَّه كالمسيح وغيره‏.‏
    وأصل الشرك فى بنى آدم كان من الشرك بالبشر الصالحين المعظمين؛ فإنهم لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم عبدوهم‏.‏
    فهذا أول شرك كان فى بني آدم، وكان فى قوم نوح، فإنه أول رسول بعث إلى أهل الأرض يدعوهم إلى التوحيد، وينهاهم عن الشرك، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏23،24‏]‏ وهذه أسماء قوم صالحين كانوا فى قوم نوح، فلما ماتوا جعلوا الأصنام على صورهم، ثم ذهبت هذه الأصنام لما أغرق اللّه أهل الأرض، ثم صارت إلى العرب، كما ذكر ذلك ابن عباس وغيره، إن لم تكن أعيانها، وإلا فهي نظائرها‏.‏
    وأما الشرك بالشيطان فهذا كثير‏.‏
    فمتى لم يؤمن الخلق بأنه ‏(‏لا إله إلا الله‏)‏ بمعنى‏:‏ أنه المعبود المستحق للعبادة دون ما سواه، وأنه يحب أن يعبد، وأنه أمر أن يعبد وأنه لا يعبد إلا بما أحبه مما شرع، من واجب ومستحب - فلابد أن يقعوا في الشرك وغيره‏.‏
    فالذين جعلوا الأقوال والأفعال كلها بالنسبة إلى اللّه سواء،لا يحب شيئاً دون شىء، فلا فرق عنده بين من يعبده وحده لا يشرك به شيئاً، وبين من يعبد معه آلهة أخرى، وجعلوا الأمر معلقاً بمشيئة، ليس معها حكمة ولا رحمة ولا عدل، ولا فرق فيها بين الحسنات والسيئات، طمعت النفس فى نيل ما تريده بدون طاعة اللّه ورسوله‏.‏
    ثم إذا جوزوا الكرامات لكل من زعم الصلاح، ولم يقيدوا الصلاح بالعلم الصحيح والإيمان الصادق والتقوى، بل جعلوا علامة الصلاح هذه الخوارق، وجوزوا الخوارق مطلقاً، وحكوا فى ذلك مكاشفات، وقالوا أقوالا منكرة‏.‏
    فقال بعضهم‏:‏ إن الولي يُعْطَى قول‏:‏ ‏(‏كن‏)‏، وقال بعضهم‏:‏ إنه لا يمتنع على الولي فعل ممكن، كما لا يمتنع على اللّه ـ تعالى ـ فعل محال‏.‏
    وهذا قاله ابن عربي والذين اتبعوه، قالوا‏:‏ إن الممتنع لذاته مقدور عليه، ليس عندهم ما يقال‏:‏ إنه غير مقدور عليه للولي، حتى ولا الجمع بين الضدين، ولا غير ذلك‏.‏ وزاد ابن عربى‏:‏ إن الولي لا يعزب عن قدرته شيء من الممكنات، والذي لا يعزب عن قدرته شيء من الممكنات هو اللّه وحده‏.‏
    فهذا تصريح منهم بأن الولي مثل الله، إن لم يكن هو اللّه‏.‏
    وصرح بعضهم بأنه يعلم كل ما يعلمه اللّه، ويقدر على كل ما يقدر اللّه عليه‏.‏
    وادعوا أن هذا كان للنبى، ثم انتقل إلى الحسن بن علي، ثم من الحسن إلى ذريته واحداً بعد واحد، حتى انتهى ذلك إلى أبي الحسن الشاذلي، ثم إلى ابنه‏.‏
    خاطبني بذلك من هو من أكابر أصحابهم‏.‏
    وحدثنى الثقة من أعيانهم،أنهم يقولون‏:‏إن محمداً هو الله‏.‏
    وحدثني بعض الشيوخ، الذين لهم سلوك وخبرة‏:‏ أنه كان هو وابن هود في مكة، فدخلا الكعبة، فقال له ابن هود ـ وأشار إلى وسط الكعبة ـ‏:‏ هذا مهبط النور الأول، وقال له‏:‏ لو قال لك صاحب هذا البيت‏:‏ أريد أن أجعلك إلهاً ماذا كنت تقول له‏؟‏ قال‏:‏ فَقَفّ شَعرِي ‏[‏أى‏:‏ قمت فَزَعًا‏.‏ انظر‏:‏ القاموس، مادة‏:‏ قفف‏]‏ من هذا الكلام وانخنست ‏[‏أى‏:‏ انقبضت‏.‏ انظر‏:‏ القاموس، مادة‏:‏ خنس‏]‏ ـ أو كما قال‏.‏
    ومن الناس من يحكي عن سهل بن عبد اللّه‏:‏ أنه لما دخل الزنج البَصْرة، قيل له فى ذلك، فقال‏:‏ هاه إن ببلدكم هذا من لو سألوا اللّه أن يزيل الجبال عن أماكنها لأزالها، ولو سألوه ألا يقيم القيامة لما أقامها، لكنهم يعلمون مواضع رضاه، فلا يسألونه إلا ما يحب‏.‏
    وهذه الحكاية، إما كذب على سهل ـ وهو الذى نختار أن يكون حقاً ـ أو تكون غلطاً منه، فلا حول ولا قوة إلا باللّه‏.‏ وذلك أن ما أخبر اللّه أن يكون فلابد أن يكون، ولو سأله أهل السموات والأرض ألا يكون لم يجبهم، مثل إقامة القيامة، وألا يملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين، وغير ذلك، بل كل ما علم اللّه أنه يكون فلا يقبل اللّه دعاء أحد فى ألا يكون‏.‏
    لكن الدعاء سبب يقضى اللّه به ما علم اللّه أنه سيكون بهذا السبب، كما يقضى بسائر الأسباب ما علم أنه سيكون بها‏.‏
    وقد سأل اللّه ـ تعالى ـ من هو أفضل من كل من فى البصرة بكثير، ما هو دون هذا فلم يجابوا؛ لما سبق الحكم بخلاف ذلك، كما سأله إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام - أن يغفر لأبيه، وكما سأله نوح ـ عليه السلام ـ سأله نجاة ابنه، فقيل له‏:‏ ‏{‏يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏46‏]‏‏.‏
    وأفضل الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، قيل له فى شأن عمه أبى طالب‏:‏‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى‏}‏‏[‏التوبة‏:‏113‏]‏،وقيل له فى المنافقين‏:‏ ‏{‏سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ‏}‏‏[‏المنافقون‏:‏6‏]‏ وقد قال تعالى ـ عموما ـ‏:‏ ‏{‏مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏255‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏23‏]‏، فمن هذا الذى لو سأل اللّه ما يشاؤه هو أعطاه إياه‏؟‏‏!‏
    وسيد الشفعاء محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، أخبر أنه‏:‏ يسجد تحت العرش، ويحمد ربه، ويثنى عليه، فيقال له‏:‏ ‏(‏أي محمد، ارفع رأسك، وقل يُسْمَعْ، وسَلْ تُعْطَ، واشفع تشفع‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فيُحَدُّ لي حداً، فأدخلهم الجنة‏)‏، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ‏}‏ ‏[‏ الأعراف‏:‏ 55‏]‏‏.‏
    وأي اعتداء أعظم وأشنع من أن يسأل العبد ربه ألا يفعل ما قد أخبر أنه لابد أن يفعله، أو أن يفعل ما قد أخبر أنه لا يفعله‏؟‏ وهو ـ سبحانه ـ كما أخبر عن نفسه‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏186‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏60‏]‏‏.‏
    وفي الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما من داع يدعو الله بدعوة، ليس فيها ظلم، ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث‏:‏ إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخر له من الخير مثلها، وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها‏)‏‏.‏
    فالدعوة التى ليس فيها اعتداء، يحصل بها المطلوب أو مثله‏.‏ وهذا غاية الإجابة؛ فإن المطلوب بعينه قد يكون ممتنعاً، أو مفسداً للداعى أو لغيره، والداعى جاهل، لا يعلم ما فيه المفسدة عليه، والرب قريب مجيب، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، والكريم الرحيم إذا سئل شيئاً بعينه، وعلم أنه لا يصلح للعبد إعطاؤه أعطاه نظيره، كما يصنع الوالد بولده إذا طلب منه ما ليس له، فإنه يعطيه من ماله نظيره، وللّه المثل الأعلى‏.‏
    وكما فعل النبى صلى الله عليه وسلم لما طلبت منه طائفة من بني عمه أن يوليهم ولاية لا تصلح لهم، فأعطاهم من الخمس ما أغناهم عن ذلك وزوجهم، كما فعل بالفضل بن عباس،وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب‏.‏
    وقد روي في الحديث‏:‏ ‏(‏ليس شيء أكرم على الله من الدعاء‏)‏، وهذا حق‏.‏
    فصــل
    ولما كان الأمر كما أخبر اللّه به فى قوله‏:‏ ‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏79‏]‏، أوجب هذا ألا يطلب العبد الحسنات ـ والحسنات تدخل فيها كل نعمة ـ إلا من اللّه، وأن يعلم أنها من اللّه وحده، فيستحق اللّه عليها الشكر الذي لا يستحقه غيره، ويعلم أنه لا إله إلا هو، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏53‏]‏‏.‏
    فهذا يوجب على العبد شكره وعبادته وحده، ثم قال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 53‏]‏، وهذا إخبار عن حالهم، والجؤار‏:‏ يتضمن رفع الصوت‏.‏
    والإنسان إنما يجأر إذا أصابه الضر، وأما في حال النعمة فهو ساكن، إما شاكراً وإما كفوراً‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏53، 54‏]‏‏.‏
    وهذا المعنى قد ذكره الله في غير موضع، يذم من يشرك به بعد كشف البلاء عنه، وإسباغ النعماء عليه، فيضيف العبد ـ بعد ذلك ـ الإنعام إلى غيره، ويعبد غيره تعالى، ويجعل المشكور غيره على النعم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم
    مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏33، 43‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏63، 64‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 8‏]‏‏.‏
    وقوله‏:‏ ‏{‏نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ نسى الضر الذي كان يدعو اللّه لدفعه عنه، كما قال‏:‏فى سورة الأنعام‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏الآيتان‏:‏40،41‏]‏‏.‏
    فذم اللّه ـ سبحانه ـ حزبين‏:‏ حزباً لا يدعونه فى الضراء، ولا يتوبون إليه، وحزباً يدعونه ويتضرعون إليه ويتوبون إليه‏.‏ فإذا كشف الضر عنهم أعرضوا عنه، وأشركوا به ما اتخذوهم من الأنداد من دونه‏.‏
    فهذا الحزب نوعان ـ كالمعطلة، والمشركة ـ حزب إذا نزل بهم الضر لم يدعو الله ولم يتضرعوا إليه، ولم يتوبوا إليه، كما قال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏42، 43‏]‏،وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏76‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏126‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏21‏]‏‏.‏وحزب يتضرعون إليه فى حال الضراء، ويتوبون إليه ، فإذا كشفها عنهم أعرضوا عنه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏12‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَان أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏51‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏67‏]‏، وقال فى المشركين ما تقدم‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏53، 54‏]‏‏.‏
    والممدوح هو القسم الثالث، وهم الذين يدعونه، ويتوبون إليه ويثبتون على عبادته، والتوبة إليه فى حال السراء، فيعبدونه ويطيعونه فى السراء والضراء، وهم أهل الصبر والشكر، كما ذكر ذلك عن أنبيائه ـ عليهم السلام ـ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ
    فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏87، 88‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏34،35‏]‏،وقال تعالى‏:‏‏{‏وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏21ـ 25‏]‏، وقال تعالى عن آدم وحواء‏:‏ ‏{‏فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏22،23‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏37‏]‏‏.‏
    وقـال تعالى عـن المؤمنين الذين قتـل نبيهم‏:‏ ‏{‏وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏}‏‏[‏آل عمران‏:‏146ـ 148‏]‏‏.‏
    وقوله ‏{‏قُتِل‏}‏ أى‏:‏ النبى قُتِل‏.‏ وهذا أصح القولين‏.‏ وقوله‏:‏‏{‏مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ‏}‏ جملة فى موضع الخبر،صفة للنبى ـ صفة بعد صفة ـ أى كم من نبى معه ربيون كثير قُتل،ولم يقتلوا معه،فإنه كان يكون المعنى‏:‏ أنه قتل وهم معه،والمقصود‏:‏ أنه كان معه ربيون كثير، وقُتِل فى الجملة، وأولئك الربيون ‏{‏مَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ‏}‏‏.‏
    والربيون‏:‏ الجموع الكثيرة، وهم الألوف الكثيرة‏.‏
    وهذا المعنى هو الذى يناسب سبب النزول، وهو ما أصابهم يوم أُحُد، لما قيل‏:‏‏(‏إن محمداً قد قتل‏)‏، وقد قال قبل ذلك‏:‏ ‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏144‏]‏ وهى التى تلاها أبو بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ يوم مات النبى صلى الله عليه وسلم، وقال‏:‏من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات و من كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت‏.‏
    فإنه عند قتل النبى وموته، تحصل فتنة عظيمة للناس ـ المؤمنين والكافرين ـ وتحصل رِدَّة ونفاق؛ لضعف قلوب أتباعه لموته، ولما يلقيه الشيطان فى قلوب الكافرين‏:‏ إن هذا قد انقضى أمره، وما بقى يقوم دينه، وإنه لو كان نبىا لما قتل وغلب، ونحو ذلك‏.‏ فأخبر الله تعالى؛ أنه كم من نبى قتل ‏.‏
    فإن بنى إسرائيل قتلوا كثيراً من الأنبياء، والنبى معه ربيون كثير أتباع له، وقد يكون قتله فى غير حرب ولا قتال، بل يقتل وقد اتبعه ربيون كثير، فما وهن المؤمنون لما أصابهم بقتله، وما ضعفوا وما استكانوا، واللّه يحب الصابرين، ولكن استغفروا لذنوبهم التى بها تحصل المصائب ـ فما أصابهم من سيئة فمن أنفسهم ـ وسألوا اللّه أن يغفر لهم، وأن يثبت أقدامهم، فيثبتهم على الإيمان والجهاد لئلا يرتابوا، ولا ينكلوا عن الجهاد، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏15‏]‏، وسألـوه أن ينصرهـم على القـوم الكافرين ‏.‏ سألوا ربهم ما يفعل لهم فى أنفسهم من التثبيت، وما يعطيهم من عنده من النصر؛ فإنه هو الناصر وحـده، ومـا النصر إلا مـن عند اللّه ‏.‏ وكذا أنزل الملائكة عوناً لهم، قال تعالى ـ لما أنزل الملائكة ـ‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏10‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 148‏]‏، وهذا مبسوط فى موضع آخر‏.‏
    والمقصود هنا أنه لما كانت الحسنة من إحسانه ـ تعالى ـ والمصائب من نفس الإنسان ـ وإن كانت بقضاء الله وقدره ـ وجب على العبد أن يشكر ربه سبحانه وأن يستغفره من ذنوبه، وألا يتوكل إلا عليه وحده، فلا يأتى بالحسنات إلا هو، فأوجب ذلك للعبد توحيده، والتوكل عليه وحده، والشكر له وحده والاستغفار من الذنوب‏.‏
    وهذه الأمور كان النبى صلى الله عليه وسلم يجمعها فى الصلاة، كما ثبت عنه فى الصحيح‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع، يقول‏:‏ ‏(‏ربنا ولك الحمد، ملء السماء وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شىء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد‏)‏‏.‏ فهذا حمد، وهو شكر لله ـ تعالى ـ وبيان أن حمده أحق ما قاله العبد، ثم يقول بعد ذلك‏:‏‏(‏اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطى لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد‏)‏‏.‏
    وهذا تحقيق لوحدانيته، لتوحيد الربوبية ـ خلقاً وقدراً وبداية وهداية ـ هو المعطى المانع، لا مانع لما أعطى ولا معطى لما منع، ولتوحيد الإلهية ـ شرعا وأمراً ونهياً ـ وهو أن العباد، وإن كانوا يعطون ملكا وعظمة، وبختا ورياسة فى الظاهر أو فى الباطن، كأصحاب المكاشفات والتصرفات الخارقة، فلا ينفع ذا الجد منك الجد، أى‏:‏ لا ينجيه ولا يخلصه من سؤلك وحسابك حظه وعظمته وغناه‏.‏
    ولهذا قال‏:‏‏(‏لا ينفعه منك‏)‏ ولم يقل‏:‏‏(‏لا ينفعه عندك‏)‏، فإنه لو قيل ذلك أوهم أنه لا يتقرب به إليك، لكن قد لا يضره‏.‏ فيقول صاحب الجد‏:‏ إذا سلمت من العذاب فى الآخرة فما أبالى، كالذين أوتوا النبوة والملك، لهم ملك فى الدنيا وهم من السعداء، فقد يظن ذو الجد ـ الذى لم يعمل بطاعة الله من بعده ـ أنه كان كذلك، فقال‏:‏ ‏(‏ولا ينفع ذا الجد منك‏)‏، ضمن ‏(‏ينفع‏)‏ معنى ‏(‏ينجى ويخلص‏)‏، فبين أن جده لا ينجيه من العذاب، بل يستحق بذنوبه ما يستحقه أمثاله ولا ينفعه جده منك، فلا ينجيه ولا يخلصه‏.‏
    فتضمن هذا الكلام تحقيق التوحيد، وتحقيق قوله‏:‏‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏123‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 88‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 8، 9‏]‏‏.‏
    فقوله‏:‏‏(‏لا مانع لما أعطيت، ولامعطى لما منعت‏)‏‏:‏ توحيد الربوبية الذى يقتضى أنه ـ سبحانه ـ هو الذى يسأل ويدعى، ويتوكل عليه‏.‏
    وهو سبب لتوحيد الإلهية، ودليل عليه، كما يحتج به فى القرآن على المشركين؛ فإن المشركين كانوا يقرون بهذا التوحيد ـ توحيد الربوبية ـ ومع هذا يشركون بالله، فيجعلون له أنداداً، يحبونهم كحب الله، ويقولون‏:‏ إنهم شفعاؤنا عنده، وإنهم يتقربون بهم إليه‏.‏ فيتخذونهم شفعاء وقرباناً، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏18‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 3‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُون‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏27، 28‏]‏‏.‏
    وهذا التوحيد هو عبادة اللّه وحده لا شريك له، وألا نعبده إلا بما أحبه وما رضيه، وهو ما أمر به وشرعه على ألسن رسله ـ صلوات الله عليهم ـ فهو متضمن لطاعته وطاعة رسوله، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، وأن يكون اللّه ورسوله أحب إلى العبد من كل ما سواهما‏.‏
    وهو يتضمن أن يحب الله حباً لا يماثله ولا يساويه فيه غيره، بل يقتضى أن يكون رسوله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه‏.‏
    فإذا كان الرسول ـ لأجل أنه رسول اللّه ـ يجب أن يكون أحب إلى المؤمن من نفسه، فكيف بربه ـ سبحانه وتعالى‏؟‏
    وفى صحيح البخارى أن عمرقال‏:‏ يا رسول اللّه، واللّه إنك لأحب إلى من كل شىء، إلا من نفسى ‏.‏ فقال‏:‏‏(‏لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فوالذى بعثك بالحق، إنك لأحب إلي من نفسى‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏الآن يا عمر‏)‏‏.‏
    وقد قال تعالى‏:‏‏{‏النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏6‏]‏،وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏24‏]‏‏.‏
    فإن لم يكن الله ورسوله، والجهاد فى سبيله، أحب إلى العبد من الأهل والمال ـ على اختلاف أنواعه ـ فإنه داخل تحت هذا الوعيد‏.‏
    فهذا التوحيد ـ توحيد الإلهية ـ يتضمن فعل المأمور وترك المحظور‏.‏
    ومن ذلك‏:‏ الصبر على المقدور، كما أن الأول يتضمن الإقرار بأنه لا خالق ولا رازق، ولا معطى ولا مانع، إلا الله وحده، فيقتضى ألا يسأل العبد غيره، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يستعين إلا به، كما قال تعالى فى النوعين‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏، وقال‏:‏‏{‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏123‏]‏‏.‏
    وهذا التوحيد هو الفارق بين الموحدين والمشركين، وعليه يقع الجزاء والثواب فى الأولى والآخرة، فمن لم يأت به كان من المشركين الخالدين، فإن اللّه لا يغفر أن يشرك به،ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏.‏
    أما توحيد الربوبية، فقد أقر به المشركون، وكانوا يعبدون مع اللّه غيره، ويحبونهم كما يحبونه، فكان ذلك التوحيد ـ الذى هو توحيد الربوبية ـ حجة عليهم‏.‏ فإذا كان اللّه هو رب كل شىء ومليكه، ولا خالق ولا رازق إلا هو، فلماذا يعبدون غيره معه، وليس له عليهم خلق ولا رزق، ولا بيده لهم منع ولا عطاء، بل هو عبد مثلهم لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ‏؟‏‏!‏
    فإن قالوا‏:‏ ليشفع فقد قال اللّه‏:‏ ‏{‏مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏255‏]‏ فلا يشفع من له شفاعة ـ من الملائكة والنبيين ـ إلا بإذنه‏.‏ وأما قبورهم ـ وما نصب عليها من قباب وأنصاب ـ أو تماثيلهم ـ التى مثلت على صورهم، مجسدة أو مرقومة ـ فجعل الاستشفاع بها استشفاعا بهم، فهذا باطل عقلا وشرعا؛ فإنها لا شفاعة لها بحال، ولا لسائر الأصنام التى عملت للكواكب والجن والصالحين، وغيرهم‏.‏
    وإذا كان اللّه لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى فما بقى الشفعاء شركاء، كشفاعة المخلوق عند المخلوق؛ فإن المخلوق يشفع عنده نظيره ـ أو من هو أعلى منه، أو دونه ـ بدون إذن المشفوع إليه، ويقبل المشفوع إليه ولا بد شفاعته إما لرغبته إليه، أو فيما عنده من قوة أو سبب ينفعه به أو يدفع عنه ما يخشاه، وإما لرهبته منه، وإما لمحبته إياه، وإما للمعاوضة بينهما والمعاونة، وإما لغير ذلك من الأسباب‏.‏
    وتكون شفاعة الشفيع هى التى حَرَّكَت إرادة المشفوع إليه، وجعلته مريداً للشفاعة، بعد أن لم يكن مريداً لها، كأمر الآمر الذى يؤثر في المأمور،فيفعل ما أمره به بعد أن لم يكن مريداً لفعله‏.‏
    وكذلك سؤال المخلوق للمخلوق، فإنه قد يكون محركا له إلى فعل ما سأله‏.‏
    فالشفيع كما أنه شافع للطالب شفاعته فى الطلب، فهو أيضاً قد شفع المشفوع إليه، فبشفاعته صار المشفوع إليه فاعلا للمطلوب، فقد شفع الطالب والمطلوب‏.‏
    واللّه تعـالى وِتْر، لا يشفعه أحد، فلا يشـفع عنده أحـد إلا بإذنه، فالأمر كله إليه وحده، فلا شريك له بوجه، ولهذا ذكر ـ سبحانه ـ نفى ذلك فى آية الكرسى، التى فيها تقرير التوحيد، فقال‏:‏ ‏{‏لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏‏.‏
    وسيد الشفعاء صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، إذا سجد وحمد ربه، يقال له‏:‏ ‏(‏ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فيحد له حداً، فيدخلهم الجنة‏)‏‏.‏ فالأمر كله للّه، كما قال‏:‏‏{‏قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏154‏]‏،وقال لرسوله‏:‏‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 128‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏54‏]‏‏.‏
    فإذا كان لا يشفع عند اللّه أحد إلا بإذنه، فهو يأذن لمن يشاء، ولكن يكرم الشفيع بقبول الشفاعة، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح‏:‏‏(‏اشفعوا تؤجروا، ويقضى اللّه على لسان نبيه ما شاء‏)‏‏.‏
    وإذا دعاه الداعى، وشفع عنده الشفيع، فسمع الدعاء، وقبل الشفاعة لم يكن هذا مؤثراً فيه، كما يؤثر المخلوق فى المخلوق؛ فإنه ـ سبحانه ـ هو الذى جعل هذا يدعو وهذا يشفع، وهو الخالق لأفعال العباد، فهو الذى وفق العبد للتوبة ثم قبلها وهو الذى وفقه للعمل ثم أثابه عليه، وهو الذى وفقه للدعاء ثم أجابه، فما يؤثر فيه شىء من المخلوقات، بل هو ـ سبحانه ـ الذى جعل ما يفعله سبباً لما يفعله‏.‏
    وهذا مستقيم على أصول أهل السنة المؤمنين بالقدر، وأن اللّه خالق كل شىء و أنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا يكون شىء إلا بمشيئته، وهو خالق أفعال العباد، كما هو خالق سائر المخلوقات‏.‏ قال يحيى بن سعيد القطان‏:‏ ما زلت أسمع أصحابنا يقولون‏:‏ إن اللّه خالق أفعال العباد‏.‏
    ولكن هذا يناقض قول القَدَريِة، فإنهم إذا جعلوا العبد هو الذى يحدث، ويخلق أفعاله بدون مشيئة اللّه وخلقه، لزمهم أن يكون العبد قد جعل ربه فاعلاً لما لم يكن فاعلاً له، فبدعائه جعله مجيباً له وبتوبته جعله قابلا للتوبة، وبشفاعته جعله قابلا للشفاعة‏.‏
    وهذا يشبه قول من جعل المخلوق يشفع عند الله بغير إذنه‏.‏
    فإن ‏(‏الإذن‏)‏ نوعان‏:‏ إذن بمعنى المشيئة والخلق، وإذن بمعنى الإباحة والإجازة‏.‏
    فمن الأول‏:‏ قوله فى السحر‏:‏‏{‏وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 102‏]‏ فإن ذلك بمشيئة الله تعالى وقدرته، وإلا فهو لم يبح السحر‏.‏
    والقدرية تنكر هذا ‏(‏الإذن‏)‏‏.‏ وحقيقة قولهم‏:‏ إن السحر يضر بدون إذن اللّه‏.‏
    وكذلك قوله‏:‏‏{‏وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏166‏]‏،فإن الذى أصابهم من القتل والجراح والتمثيل والهزيمة، إذا كان بإذنه فهو خالق لأفعال الكفار ولأفعال المؤمنين‏.‏
    والنوع الثانى‏:‏ قوله‏:‏‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏45، 46‏]‏،وقوله‏:‏ ‏{‏مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏5‏]‏، فإن هذا يتضمن إباحته لذلك، وإجازته له، ورفع الجُنَاح والحَرَج عن فاعله، مع كونه بمشيئته وقضائه‏.‏
    فقوله‏:‏ ‏{‏مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏، هو هذا الإذن الكائن بقدره وشرعه، ولم يرد بمجرد المشيئة والقدر؛ فإن السحر وانتصار الكفار على المؤمنين كان بذلك الإذن‏.‏
    فمن جعل العباد يفعلون أفعالهم بدون أن يكون اللّه خالقاً لها، وقادراً عليها، ومشيئاً لها، فعنده كل شافع وداع قد فعل ما فعل بدون خلق الله وقدرته، وإن كان قد أباح الشفاعة‏.‏
    وأما الكفر، والسحر، وقتال الكفار، فهو عندهم بغير إذنه، لا هذا الإذن ولا هذا الإذن؛ فإنه لم يبح ذلك باتفاق المسلمين‏.‏ وعندهم‏:‏ أنه لم يشأه ولم يخلقه، بل كان بدون مشيئته وخلقه‏.‏
    والمشركون المقرون بالقدر يقولون‏:‏ إن الشفعاء يشفعون بالإذن القَدَرِى، وإن لم يإذن لهم إباحة وجوازاً‏.‏
    ومن كان مكذباً بالقدر ـ مثل كثير من النصارى ـ يقولون‏:‏ إن شفاعة الشفعاء بغير إذن، لا قَدَرِى ولا شرعى‏.‏
    والقدرية من المسلمين يقولون‏:‏ يشفعون بغير إذن قدرى ‏.‏
    ومن سأل اللّه بغير إذنه الشرعى، فقد شفع عنده بغير إذن قدرى ولا شرعي‏.‏
    فالداعى المأذون له فى الدعاء مؤثر فى الله عندهم، لكن بإباحته‏.‏
    والداعى غير المأذون له، إذا أجاب دعاءه، فقد أثر فيه عندهم لا بهذا الإذن ولا بهذا الإذن،كدعاء بلعام بن باعوراء وغيره، والله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏‏.‏
    فإن قيل‏:‏ فمن الشفعاء من يشفع بدون إذن اللّّه الشرعى، وإن كان خالقاً لفعله ـ كشفاعة نوح لابنه، وشفاعة إبراهيم لأبيه، وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لعبد اللّه بن أبّى بن سلول، حين صلى عليه بعد موته ‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ قد قلتم‏:‏ إنه يعم النوعين، فإنه لو أراد الإذن القدرى لكان كل شفاعة داخلة فى ذلك كما يدخل فى ذلك كل كفر وسحر‏.‏ ولم يكن فرق بين ما يكون بإذنه، وما لا يكون بإذنه، ولو أراد الإذن الشرعى فقط، لزم قول القدرية، وهؤلاء قد شفعوا بغير إذن شرعى‏؟‏
    قيل‏:‏ المنفى من الشفاعة بلا إذن هى الشفاعة التامة، وهى المقبولة، كما فى قول المصلى‏:‏‏(‏سمع اللّه لمن حمده‏)‏ أى‏:‏ استجاب له، وكما فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏2‏]‏، وقوله ‏{‏إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏45‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏45‏]‏، ونحو ذلك‏.‏
    فإن الهدى، والإنذار، والتذكير، والتعليم، لابد فيه من قبول المتعلم، فإذا تعلم حصل له التعليم المقصود، وإلا قيل‏:‏ علمته فلم يتعلم، كما قيل‏:‏‏{‏وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏17‏]‏، فكذلك الشفاعة‏.‏
    فالشفاعة مقصودها قبول المشفوع إليه، وهى الشفاعة التامة، فهذه هى التى لا تكون إلا بإذنه، وأما إذا شفع شفيع فلم تقبل شفاعته كانت كعدمها، وكان على صاحبها التوبة والاستغفار منها، كما قال نوح‏:‏ ‏{‏رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏47‏]‏، وكما نهى الله تعالى النبى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على المنافقين، وقال له‏:‏‏{‏وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏84‏]‏، وقال له‏:‏ ‏{‏سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏6‏]‏، ولهذا قال على لسان المشركين‏:‏ ‏{‏فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 100، 101‏]‏‏.‏
    فالشفاعة المطلوبة هى شفاعة المطاع الذى تقبل شفاعته، وهذه ليست لأحد عند الله تعالى إلا بإذنه قدراً وشرعا، فلابد أن يأذن فيها، ولابد أن يجعل العبد شافعا، فهو الخالق لفعله،والمبيح له، كما فى الداعى هو الذى أمره بالدعاء، وهو الذى يجعل الداعى داعياً، فالأمر كله للّه، خلقاً وأمراً، كما قال‏:‏ ‏{‏أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏54‏]‏‏.‏
    وقد روى فى حديث ـ ذكره ابن أبى حاتم وغيره ـ أنه قال‏:‏ ‏(‏فمن يثق به، فليدعه‏)‏ أى‏:‏ فلم يبق لغيره لا خلق ولا أمر‏.‏
    ولما كان المراد الشفاعة المثبتة هى الشفاعة المطلقة، وهى المقصود بالشفاعة وهى المقبولة، بخلاف المردودة، فإن أحداً لا يريدها، لا الشافع ولا المشفوع له، ولا المشفوع إليه، ولو علم الشافع والمشفوع له أنها ترد لم يفعلوها‏.‏ والشفاعة المقبولة هى النافعة، بين ذلك فى مثل قوله‏:‏ ‏{‏وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏23‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏109‏]‏، فنفى الشفاعة المطلقة وبين أن الشفاعة لا تنفع عنده إلا لمن أذن له، وهو الإذن الشرعى، بمعنى‏:‏ أباح له ذلك وأجازه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏39‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏53‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏58‏]‏، ونحو ذلك‏.‏
    وقوله‏:‏‏{‏إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ‏}‏ هو إذن للمشفوع له فلا يأذن فى شفاعة مطلقة لأحد، بل إنما يأذن فى أن يشفعوا لمن أذن لهم فى الشفاعة فيه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏108، 109‏]‏، وفيه قولان‏:‏
    قيل‏:‏ إلا شفاعة من أذن له الرحمن‏.‏
    وقيل‏:‏ لا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له الرحمن، فهو الذى تنفعه الشفاعة‏.‏
    وهذا هو الذى يذكره طائفة من المفسرين، لا يذكرون غيره؛ لأنه لم يقل‏:‏ ‏(‏لا تنفع إلا من أذن له‏)‏ ولا قال‏:‏‏(‏لا تنفع الشفاعة إلا فيمن أذن له‏)‏، بل قال‏:‏ ‏{‏لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ‏}‏ فهى لا تنفع ولا ينتفع بها، ولا تكون نافعة إلا للمأذون لهم، كما قال تعالى فى الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 23‏]‏‏.‏
    ولا يقال‏:‏ لا تنفع إلا لشفيع مأذون له، بل لو أريد هذا، لقيل‏:‏ لا تنفع الشفاعة عنده إلا من أذن له، وإنما قال‏:‏ ‏{‏لِمَنْ أَذِنَ لَهُ‏}‏ وهو المشفوع له، الذى تنفعه الشفاعة‏.‏
    وقوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ‏}‏ لم يعد إلى ‏(‏الشفعاء‏)‏ بل عاد إلى المذكورين فى قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ‏}‏ ثم بين أن هذا منتف ‏{‏حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 22، 23‏]‏، فلا يعلمون ماذا قال، حتى يفزع عن قلوبهم فكيف يشفعون بلا إذنه‏؟‏
    وهو ـ سبحانه ـ إذا أذن للمشفوع له فقد أذن للشافع‏.‏
    فهذا الإذن هو الإذن المطلق، بخلاف ما إذا أذن للشافع فقط؛ فإنه لا يلزم أن يكون قد أذن للمشفوع له، إذ قد يأذن له إذناً خاصاً‏.‏
    وهكذا قال غير واحد من المفسرين‏.‏ قالوا‏:‏ وهذا يدل على أن الشفاعة لا تنفع إلا المؤمنين، وكذلك قال السلف فى هذه الآية‏.‏
    قال قتادة فى قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 109‏]‏ قال‏:‏ كان أهل العلم يقولون‏:‏ إن المقام المحمود الذى قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏79‏]‏، هو شفاعته يوم القيامة، وقوله‏:‏‏{‏إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا‏}‏ إن الله تعالى يشفع المؤمنين بعضهم فى بعض‏.‏
    قال البغوى‏:‏‏{‏إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ‏}‏ أذن اللّه له أن يشفع له، ‏{‏وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا‏}‏ أى‏:‏ورضى قوله‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يعنى قال‏:‏‏(‏لا إله إلا اللّه‏)‏‏.‏ قال البغوى‏:‏ فهذا يدل على أنه لا يشفع لغير المؤمن‏.‏
    وقد ذكروا القولين فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ‏}‏ وقدم طائفة هناك‏:‏ أن المستثنى هو الشافع، دون المشفوع له، بخلاف ما قدموه هنا‏.‏
    منهم البغوى، فإنه لم يذكر هنا فى الاستثناء إلا المشفوع له، وقال هناك‏:‏‏{‏وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏23‏]‏، فى الشفاعة، قاله تكذيباً لهم،حيث قالوا‏:‏ ‏{‏هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏18‏]‏، قال‏:‏ ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ إلا لمن أذن له أن يشفع له‏.‏
    وكذلك ذكروا القولين فى قوله‏:‏ ‏{‏وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏86‏]‏، وسنتكلم على هذه الآية إن شاء الله تعالى، ونبين أن الاستثناء فيها يعم الطائفتين، وأنه منقطع‏.‏
    ومعنى هاتين الآيتين مثل معنى تلك الآية، وهو يعم النوعين‏.‏وذلك أنه ـ سبحانه قال‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏109‏]‏،والشفاعة‏:‏ مصدر شفع شفاعة‏.‏ والمصدر يضاف إلى الفاعل تارة، وإلى محل الفعل تارة، ويماثله الذي يسمى لفظه ‏(‏المفعول به‏)‏ تارة، كما يقال‏:‏ أعجبنى دق الثوب ودق القَصَّار وذلك مثل لفظ ‏(‏العلم‏)‏، يضاف تارة إلى العلم، وتارة إلى المعلوم، فالأول كقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏255‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏166‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏14‏]‏،ونحو ذلك‏.‏
    والثانى كقوله‏:‏‏{‏إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏34‏]‏، فالساعة هنا‏:‏ معلومة، لا عالمة، وقوله حين قال فرعون‏:‏ ‏{‏فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى‏}‏ ‏.‏ قال موسى‏:‏ ‏{‏عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 51، 52‏]‏، ومثل هذا كثير‏.‏
    فالشفاعة مصدر، لابد لها من شافع ومشفوع له‏.‏
    والشفاعة‏:‏ تعم شفاعة كل شافع، وكل شفاعة لمشفوع له‏.‏
    فإذا قال‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ‏}‏ نفى النوعين؛ شفاعة الشفعاء والشفاعة للمذنبين‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ‏}‏ يتناول النوعين؛ من أذن له الرحمن ورضى له قولا من الشفعاء، ومن أذن له الرحمن ورضى له قولا من المشفوع له، وهى تنفع المشفوع له، فتخلصه من العذاب، وتنفع الشافع، فتقبل منه، ويكرم بقبولها، ويثاب عليه‏.‏
    والشفاعة يومئذ لا تنفع لا شافعاً ولا مشفوعاً له ‏{‏إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏38‏]‏، فهذا الصنف المأذون لهم، المرضى قولهم، هم الذين يحصل لهم نفع الشفاعة، وهذا موافق لسائر الآيات‏.‏
    فإنه تارة يشترط فى الشفاعة إذنه، كقوله‏:‏ ‏{‏مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏‏.‏
    وتارة يشترط فيها الشهادة بالحق، كقوله‏:‏ ‏{‏وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 86‏]‏
    وهنا اشترط الأمرين‏:‏ أن يأذن له الرحمن، وأن يقول صواباً، والمستثنى يتناول مصدر الفاعل والمفعول، كما تقول‏:‏ لا ينفع الزرع إلا فى وقته، فهو يتناول زرع الحارث، وزرع الأرض، لكن هنا قال‏:‏ ‏{‏إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ‏}‏ والاستثناء مفرغ فإنه لم يتقدم قبل هذا من يستثنى منه هذا، وإنما قال‏:‏ ‏{‏لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ‏}‏، فإذا لم يكن فى الكلام حذف، كان المعنى‏:‏ لا تنفع الشفاعة إلا هذا النوع؛ فإنهم تنفعهم الشفاعة، ويكون المعنى‏:‏ أنها تنفع الشافع والمشفوع له‏.‏
    وإن جعل فيه حذف ــ تقديره‏:‏ لا تنفع الشفاعة إلا شفاعة من أذن له الرحمن ــ كان المصدر مضافاً إلى النوعين، كل واحد بحسبه، يضاف إلى بعضهم، لكونه شافعاً، وإلى بعضهم لكونه مشفوعاً له، ويكون هذا كقوله‏:‏ ‏{‏وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏177‏]‏، أى من يؤمن، و‏{‏وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 171‏]‏، أى مثل داعى الذين كفروا كمثل الناعق، أو مثل الذين كفروا كمثل منعوق به، أى الذى ينعق به، والمعنى في ذلك كله ظاهر معلوم‏.‏
    فلهذا كان من أفصح الكلام إيجازه، دون الإطناب فيه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏109‏]‏، إذا كان من هذا الباب، لم يحتج أن الشافع تنفعه الشفاعة، وإن لم يكرمه، كان الشافع ممن تنفعه الشفاعة‏.‏
    وفى الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 23‏]‏، من هؤلاء، وهؤلاء‏.‏
    لكن قد يقال‏:‏ التقدير‏:‏ لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له أن يشفع فيه فيؤذن لغيره أن يشفع فيه، فيكون الإذن للطائفتين‏.‏ والنفع للمشفوع له، كأحد الوجهين، أو‏:‏ ولا تنفع إلا لمن أذن له من هؤلاء وهؤلاء، فكما أن الإذن للطائفتين، فالنفع أيضا للطائفتين‏.‏ فالشافع ينتفع بالشفاعة، وقد يكون انتفاعه بها أعظم من انتفاع المشفوع له، ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم ـ فى الحديث الصحيح ‏:‏ ‏(‏اشفعوا تؤجروا، ويقضى الله تعالى على لسان نبيه ما شاء‏)‏‏.‏
    ولهذا كان من أعظم ما يكرم به اللّه عبده محمداً صلى الله عليه وسلم‏:‏ هو الشفاعة التى يختص بها، وهى المقام المحمود، الذى يحمده به الأولون والآخرون‏.‏
    وعلى هذا، لا تحتاج الآية إلى حذف، بل يكون معناها‏:‏ يومئذ لا تنفع الشفاعة لا شافعاً ولا مشفوعاً ‏{‏إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏38‏]‏‏.‏
    ولذلك جاء فى الصحيح‏:‏ أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يا بنى عبد مناف، لا أملك لكم من الله من شىء، يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أملك لك من الله من شىء، يا عباس عم رسول الله، لا أملك لك من الله من شىء‏)‏‏.‏
    وفى الصحيح أيضاً‏:‏ ‏(‏لا ألفين أحدكم يأتى يوم القيامة على رقبته بعير له رُغَاء أو شاة لها يُعَار أو رِقَاع تَخْفِق، فيقول‏:‏ أغثنى، أغثنى، فأقول‏:‏ قد أبلغتك، لا أملك لك من الله تعالى من شيء‏)‏‏.‏
    فيعلم من هذا‏:‏أن قوله‏:‏‏{‏وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 86‏]‏، و‏{‏لَا يَمْلِكُونَ
    مِنْهُ خِطَابًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏37‏]‏، على مقتضاه، وأن قوله فى الآية‏:‏‏{‏لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ‏}‏ كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا أملك لكم من الله من شىء‏)‏ وهو كقول إبراهيم لأبيه‏:‏‏{‏$ّمّا أّمًلٌكٍ لّكّ مٌنّ بلَّهٌ مٌن شّيًءُ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏4‏]‏‏.‏
    وهذه الآية تشبه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏37، 38‏]‏، فإن هذا مثل قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏109‏]‏، ففى الموضعين اشترط إذنه‏.‏ فهناك ذكر ‏(‏القول الصواب‏)‏ وهنا ذكر ‏(‏أن يرضى قوله‏)‏‏.‏ ومن قال‏:‏ الصواب رضى اللّه قوله، فإن الله إنما يرضى بالصواب‏.‏
    وقد ذكروا فى تلك الآية قولين‏:‏
    أحدهما‏:‏ أنه الشفاعة ـ أيضاً ـ كما قال ابن السائب‏:‏ لا يملكون شفاعة إلا بإذنه‏.‏
    والثانى‏:‏ لا يقدر الخلق على أن يكلموا الرب إلا بإذنه‏.‏قال مقاتل‏:‏كذلك قال مجاهد‏:‏ ‏{‏ لا يّمًلٌكٍونّ مٌنًهٍ خٌطّابْا ‏}‏ قال‏:‏كلاماً‏.‏ هذا من تفسيره الثابت عنه،وهو مِن أعلم ـ أو أعلم ـ التابعين بالتفسير‏.‏
    قال الثورى‏:‏إذا جاءك التفسير عن مجاهد، فحسبك به‏.‏وقال‏:‏عرضت المصحف على ابن عباس‏:‏ أقفه عند كل آية وأسأله عنها‏.‏ وعليه اعتمد الشافعى وأحمد والبخارى فى صحيحه‏.‏
    وهذا يتناول الشفاعة أيضاً‏.‏
    وفى قوله‏:‏‏{‏لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا‏}‏ لم يذكر استثناء؛ فإن أحداً لا يملك من اللّه خطاباً مطلقاً؛ إذ المخلوق لا يملك شيئاً يشارك فيه الخالق، كما قد ذكرناه فى قوله‏:‏ ‏{‏وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 86‏]‏، أن هذا عام مطلق، فإن أحداً ـ ممن يدعى من دونه ـ لا يملك الشفاعة بحال، ولكن اللّه إذا أذن لهم شفعوا من غير أن يكون ذلك مملوكاً لهم، وكذلك قوله‏:‏‏{‏لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا‏}‏ هذا قول السلف وجمهور المفسرين‏.‏
    وقال بعضهم‏:‏ هؤلاء هم الكفار، لا يملكون مخاطبة اللّه في ذلك اليوم، قال ابن عطية‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏لَا يَمْلِكُونَ‏}‏ الضمير للكفار، أي‏:‏ لا يملكون ـ من إفضاله وإكماله ـ أن يخاطبوه بمعذرة ولا غيرها‏.‏
    وهذا مبتدع، وهو خطأ محض‏.‏
    والصحيح‏:‏ قول الجمهور والسلف أن هذا عام، كما قال في آية أخرى‏:‏ ‏{‏وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏108‏]‏، وفي حديث التجلي الذى فى الصحيح ـ لما ذكر مرورهم على الصراط ـ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ولا يتكلم أحد إلا الرسل، ودعوى الرسل‏:‏ اللهم سَلِّمْ سَلِّمْ‏)‏، فهذا في وقت المرور على الصراط، وهو بعد الحساب والميزان، فكيف بما قبل ذلك‏؟‏
    وقد طلبت الشفاعة من أكابر الرسل، وأولى العزم، وكل يقول‏:‏‏(‏إن ربى قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني فعلت كذا وكذا، نفسي، نفسي، نفسي‏)‏‏.‏ فإذا كان هؤلاء لا يتقدمون إلى مخاطبة الله تعالى ـ تعالى ـ بالشفاعة، فكيف بغيرهم‏؟‏
    وأيضاً، فإن هذه الآية مذكورة بعد ذكر المتقين وأهل الجنة، وبعد أن ذكر الكافرين، فقال‏:‏‏{‏إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا وَكَأْسًا دِهَاقًا لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَابًا رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏31 ـ 38‏]‏،فقد أخبر أن الروح والملائكة يقومون صفاً، لا يتكلمون‏.‏ وهذا هو تحقيق قوله‏:‏ ‏{‏لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا‏}‏ والعرب تقول‏:‏ ما أملك من أمر فلان، أو من فلان شيئاً،أي‏:‏لا أقدر من أمره على شيء، وغاية ما يقدر عليه الإنسان من أمر غيره خطابة،ولو بالسؤال‏.‏
    فهم فى ذلك الموطن لا يملكون من الله تعالى شيئاً، ولا الخطاب؛فإنه لا يتكلم أحد إلا بإذنه، ولا يتكلم إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏4‏]‏، فقد أخبر الخليل أنه لا يملك لأبيه من اللّه من شيء، فكيف غيره‏؟‏
    وقال مجاهد ـ أيضاً ـ‏:‏‏{‏إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا‏}‏ قال‏:‏ حقاً في الدنيا، وعملا به‏.‏ رواه ـ والذى قبله ـ عبد بن حميد‏.‏ وروى عن عكرمة‏:‏‏{‏وَقَالَ صَوَابًا ‏}‏ قال‏:‏ الصواب قول لا إله إلا اللّه‏.‏
    فعلى قول مجاهد‏:‏ يكون المستثنى من أتى بالكلم الطيب والعمل الصالح‏.‏
    وقوله فى سوره طه‏:‏‏{‏لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا‏}‏‏[‏الآية‏:‏ 109‏]‏، فإذا جعلت هذا مثل تلك، فتكون الشفاعة هي الشفاعة المطلقة، وهي الشفاعة فى الحسنات وفى دخول الجنة، كما فى الصحيحين‏:‏ ‏(‏أن الناس يهتمون يوم القيامة، فيقولون‏:‏ لو استشفعنا على ربنا حتى يرحنا من مقامنا هذا‏؟‏‏)‏، فهذا طلب الشفاعة للفصل بينهم‏.‏
    وفى حديث الشفاعة‏:‏‏(‏أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن‏)‏ فهذه شفاعة في أهل الجنة؛ ولهذا قيل‏:‏ إن هاتين الشفاعتين مختصتان بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويشفع غيره فى العصاة‏.‏
    فقوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏109‏]‏، يدخل فيها الشفاعة في أهل الموقف عموماً، وفى أهل الجنة، وفي المستحقين للعذاب‏.‏ وهو ـ سبحانه ـ فى هذه وتلك لم يذكر العمل،إنما قال‏:‏‏{‏وَقَالَ صَوَابًا‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا‏}‏، ولكن قد دل الدليل على أن القول الصواب المرضي لا يكون صاحبه محموداً إلا مع العمل الصالح، لكن نفس القول مَرْضِى، فقد قال اللّه‏:‏ ‏{‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏10‏]‏‏.‏
    وقد ذكر البغوي وأبو الفرج ابن الجوزي وغيرهما في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏86‏]‏ قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن المستثنى هو الشافع، ومحل ‏[‏من]‏ الرفع‏.‏ والثاني‏:‏ هو المشفوع له‏.‏
    قال أبو الفرج‏:‏ في معنى الآية قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه أراد بـ ‏{‏الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ‏}‏ آلهتهم، ثم استثنى عيسى وعزيزاً والملائكة، فقال‏:‏ ‏{‏إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ‏}‏ وهو شهادة أن لا إله إلا اللّه ‏{‏وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم‏.‏ قال‏:‏ وهذا مذهب الأكثرين، منهم قتادة‏.‏
    والثانى‏:‏ أن المراد بـ ‏{‏الَّذِينَ يَدْعُونَ‏}‏ عيسى و عزيراً والملائكة، الذين عبدهم المشركون،لا يملك هؤلاء الشفاعة لأحد ‏{‏إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ‏}‏ وهي كلمة الإخلاص ‏{‏وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ أن الله تعالى خلق عيسى وعزيراً والملائكة‏.‏ وهذا مذهب قوم، منهم مجاهد‏.‏
    وقال البغوي‏:‏ ‏{‏وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏86‏]‏، هم عيسى وعزير والملائكة؛ فإنهم عبدوا من دون الله تعالى، ولهم الشفاعة‏.‏ وعلى هذا تكون ‏(‏من‏)‏ فى محل رفع‏.‏ وقيل‏:‏ ‏(‏من‏)‏ فى محل خفض، وأراد بـ ‏{‏الَّذِينَ يَدْعُونَ‏}‏‏:‏ عيسى وعزيراً والملائكة، يعنى‏:‏ أنهم لا يملكون الشفاعة إلا لمن شهد بالحق‏.‏ قال‏:‏ والأول أصح‏.‏
    قلت‏:‏قد ذكر جماعة قول مجاهد وقتادة، منهم ابن أبى حاتم‏.‏روى بإسناده المعروف ـ على شرط الصحيح ـ عن مجاهد قوله‏:‏ ‏{‏وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ‏}‏ عيسى وعزير والملائكة، يقول‏:‏ لا يشفع عيسى وعزير والملائكة ‏{‏ إلا مّن شّهٌدّ بٌالًحّقٌَ ‏}‏ يعلم الحق‏.‏ هذا لفظه‏.‏ جعل ‏(‏شفع‏)‏ متعديا بنفسه وكذلك لفظ ‏.‏‏.‏‏.‏ ‏[‏بياض بالأصل‏]‏‏.‏
    وعلى هذا، فيكون منصوبا، لا يكون مخفوضاً، كما قاله البغوي ؛ فإن الحرف الخافض إذا حذف انتصب الاسم، ويكون على هـذا يقـال‏:‏ شفعته، وشفعت لـه، كما يقال‏:‏ نصحته، ونصحت له‏.‏ و‏(‏شفع‏)‏ أي صار شفيعاً للطالب، أي لا يشفعون طالباً ولا يعينون طالباً ‏{‏إلا مّن شّهٌدّ بٌالًحّقٌَ $ّهٍمً يّعًلّمٍونّ ‏}‏ أن الله ربهم‏.‏
    وروى بإسناده عن قتادة ‏{‏إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏ الملائكة وعيسى وعزير، أي أنهم قد عبدوا من دون اللّه، ولهم شفاعة عند اللّه ومنزلة‏.‏
    قلت‏:‏ كلا القولين معناه صحيح، لكن التحقيق في تفسير الآية‏:‏ أن الاستثناء منقطع، ولا يملك أحد من دون اللّه الشفاعة مطلقاً، لا يستثنى من ذلك أحد عند اللّه؛ فإنه لم يقل‏:‏ ولا يشفع أحد، ولا قال‏:‏ لا يشفع لأحد، بل قال‏:‏ ‏{‏وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ‏}‏ وكل من دعى من دون الله لا يملك الشفاعة البتة‏.‏
    والشفاعة بإذن ليست مختصة بمن عبد من دون الله‏.‏
    وسيد الشفعاء صلى الله عليه وسلم لم يعبد كما عبد المسيح، وهو ـ مع هذا ـ له شفاعة، ليست لغيره، فلا يحسن أن تثبت الشفاعة لمن دعى من دون اللّه دون من لم يدع‏.‏
    فمن جعل الاستثناء متصلا، فإن معنى كلامه‏:‏ أن من دعى من دون الله تعالى لا يملك الشفاعة، إلا أن يشهد بالحق وهو يعلم، أو لا يشفع إلا لمن شهد بالحق وهو يعلم، ويبقى الذين لم يدعوا من دون اللّه، لم تذكر شفاعتهم لأحد، وهذا المعنى لا يليق بالقرآن ولا يناسبه، وسبب نزول الآية يبطله أيضاً‏.‏
    وأيضاً، فقوله‏:‏ ‏{‏وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ‏}‏ يتناول كل معبود من دونه، ويدخل فى ذلك الأصنام؛ فإنهم كانوا يقولون‏:‏ هم يشفعون لنا‏.‏
    قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏18‏]‏‏.‏
    فإذا قيل‏:‏ إنه استثنى الملائكة والأنبياء، كان فى هذا إطماع لمن عندهم أن معبوديهم من دون الله تعالى يشفعون لهم، وهذا مما يبين فساد القول المذكور عن قتادة‏.‏
    فإنه إذا كان المعنى‏:‏ أن المعبودين لا يشفعون إلا إذا كانوا ملائكة أو أنبياء، كان فى هذا إثبات شفاعة المعبودين لمن عبدوهم، إذا كانوا صالحين، والقرآن كله يبطل هذا المعنى؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏26‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏26ـ 28‏]‏، فبين أنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى الرب، فعلم أنه لابد أن يؤذن لهم في من يشفعون فيه، وأنهم لا يؤذن لهم إذن مطلق‏.‏
    وأيضاً،فإن في القرآن‏:‏ إذا نفى الشفاعة من دونه نفاها مطلقاً؛ فإن قوله‏:‏‏{‏مِن دُونِهِ‏}‏ إما أن يكون متصلا بقوله‏:‏ ‏{‏يملكون‏}‏ أو بقوله‏:‏‏{‏يَدْعُونَ‏}‏ أو بهما‏.‏ فالتقدير‏:‏لا يملك الذين يدعونهم الشفاعة من دونه، أو لا يملك الذين يدعونهم من دونه أن يشفعوا‏.‏ وهـذا أظهر ؛ لأنه قـال‏:‏ ‏{‏وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ‏}‏ فأخر‏{‏الشَّفَاعَةَ‏}‏ وقدم ‏{‏مِن دُونِهِ‏}‏‏.‏
    ومثل هذا كثير فى القرآن‏:‏‏(‏يدعون من دون اللّه‏)‏ و ‏(‏يعبدون من دون اللّه‏)‏، كقوله‏:‏ ‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏18‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَّ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 106‏]‏‏.‏
    بخلاف ما إذا قيل‏:‏ لا يملك الذين يدعون الشفاعة من دونه؛ فإن هذا لا نظير له في القرآن، واللفظ المستعمل فى مثل هذا أن يقال‏:‏ لا يملك الذين يدعون الشفاعة إلا بإذنه، أو لمن ارتضى، ونحو ذلك‏.‏ لا يقال فى هذا المعنى‏:‏‏(‏من دونه‏)‏؛ فإن الشفاعة هي من عنده، فكيف تكون من دونه‏؟‏ لكن قد تكون بإذنه، وقد تكون بغير إذنه‏.‏
    وأيضاً، فإذا قيل‏:‏‏{‏بَّذٌينّ يّدًعٍونّ‏}‏ مطلقاً، دخل فيه الرب تعالى؛ فإنهم كانوا يدعون اللّه، ويدعون معه غيره؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏68‏]‏‏.‏
    والتقدير الثالث‏:‏ لا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة من دونه، وهذا أجود من الذي قبله، لكن يَرِدُ عليه ما يَرِدُ على الأول‏.‏
    ومما يضعفهما أن الشفاعة لم تذكر بعدها صلة لها، بل قال‏:‏ ‏{‏وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ‏}‏ فنفى ملكهم الشفاعة مطلقاً‏.‏ وهذا هو الصواب‏.‏وإن كل من دعى من دون اللّه لا يملك الشفاعة؛ فإن المالك للشيء هو الذي يتصرف فيه بمشيئته وقدرته،والرب ـ تعالى ـ لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، فلا يملك أحد من المخلوقين الشفاعة بحال، ولا يقال فى هذا‏:‏ ‏{‏إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ إنما يقال ذلك فى الفعل، فيقال‏:‏ ‏{‏مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏‏.‏
    وأما فى الملك، فلا يمكن أن يكون غيره مالكا لها، فلا يملك مخلوق الشفاعة بحال، ولا يتصور أن يكون نبى فمن دونه مالكا لها، بل هذا ممتنع، كما يمتنع أن يكون خالقاً وربا، وهذا كما قال‏:‏‏{‏قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ‏}‏ فنفى الملك مطلقا،ثم قال‏:‏‏{‏وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 22، 23‏]‏، فنفى نفع الشفاعة إلا لمن استثناه، لم يثبت أن مخلوقا يملك الشفاعة، بل هو ـ سبحانه ـ له الملك وله الحمد، لا شريك له في الملك، قال تعالى‏:‏ ‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏1، 2‏]‏‏.‏
    ولهذا ـ لما نفى الشفعاء من دونه ـ نفاهم نفياً مطلقاً بغير استثناء،وإنما يقع الاستثناء إذا لم يقيدهم بأنهم من دونه، كما قال تعالى‏:‏‏{‏وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏51‏]‏، وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏70‏]‏، وكما قال تعالى‏:‏‏{‏مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏4‏]‏، فلما قال‏:‏ ‏{‏مِّن دُونِهِ‏}‏ نفى الشفاعة مطلقاً، وإذا ذكر ‏{‏بِإِذْنِهِ‏}‏ لـم يقـل‏:‏ ‏(‏من دونه‏)‏ كقوله‏:‏ ‏{‏مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 3‏]‏‏.‏
    فمن تدبر القرآن تبين له أنه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏23‏]‏، يشبه بعضه بعضاً، ويصدق بعضه بعضاً، ليس بمختلف ولا بمتناقض ‏{‏وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏82‏]‏‏.‏
    وهو ‏(‏مثانى‏)‏ يثنى الله تعالى فيه الأقسام، ويستوفيها‏.‏
    والحقائق إما متماثلة، وهي ‏(‏المتشابه‏)‏ وإما مماثلة، وهي‏:‏ الأصناف والأقسام والأنواع‏.‏ وهي ‏(‏المثاني‏)‏‏.‏
    و‏(‏التثنية‏)‏ يراد بها‏:‏ جنس التعديد، من غير اقتصار على اثنين فقط، كما فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 4‏]‏، يراد به‏:‏ مطلق العدد، كما تقول‏:‏ قلت له مرة بعد مرة، تريد‏:‏ جنس العدد‏.‏ وتقول‏:‏ هو يقول كذا، ويقول كذا، وإن كان قد قال مرات، كقول حذيفة بن اليمان ـ رضى اللّه عنهما ـ عن النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه جعل يقول بين السجدتين‏:‏ ‏(‏رب اغفر لي، رب اغفر لي‏)‏ لم يرد‏:‏ أن هذا قاله مرتين فقط،كما يظنه بعض الناس الغالطين، بل يريد‏:‏ أنه جعل يثنى هذا القول، ويردده، ويكرره، كما كان يثنى لفظ التسبيح‏.‏
    وقد قال حذيفة ـ رضي اللّه عنه ـ فى الحديث الصحيح الذي رواه مسلم إنه ركع نحواً من قيامه، يقول فى ركوعه‏:‏ ‏(‏سبحان ربى العظيم، سبحان ربي العظيم‏)‏‏.‏ وذكر أنه سجد نحواً من قيامه، يقول فى سجوده‏:‏ ‏(‏رب اغفر لي، رب اغفر لي‏)‏‏.‏
    وقد صرح في الحديث الصحيح ـ أنه أطال الركوع والسجود بقدر البقرة والنساء وآل عمران فإنه قام بهذه السور كلها،وذكر أنه كان يقول‏:‏‏(‏سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى‏)‏‏.‏
    فعلم أنه أراد بتثنية اللفظ‏:‏ جنس التعداد والتكرار، لا الاقتصار على مرتين، فإن ‏[‏الاثنين‏]‏ أول العدد الكثير‏.‏ فذكر أول الأعداد يعنى أنه عدد هذا اللفظ، لم يقتصر على مرة واحدة، فالتثنية التعديد، والتعديد يكون للأقسام المختلفة‏.‏
    وليس في القرآن تكرار محض، بل لابد من فوائد في كل خطاب‏.‏
    فـ ‏[‏المتشابه‏]‏ فى النظائر المتماثلة، و‏[‏المثاني‏]‏ في الأنواع‏.‏ وتكون التثنية في المتشابه، أي هذا المعنى قد ثنى في القرآن لفوائد أخر‏.‏
    فـ [‏المثاني‏]‏ تعم هذا وهذا‏.‏ وفاتحة الكتاب‏:‏ هي [‏السبع المثاني]‏ لتضمنها هذا وهذا، وبسط هذا له موضع آخر‏.‏
    والمقصود هنا أن قوله‏:‏‏{‏وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ‏}‏ قد تم الكلام هنا، فلا يملك أحد من المعبودين من دون الله الشفاعة البتة، ثم استثنى‏:‏ ‏{‏إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏86‏]‏، فهذا استثناء منقطع‏.‏ والمنقطع يكون في المعنى المشترك بين المذكورين‏.‏ فلما نفى ملكهم الشفاعة، بقيت الشفاعة بلا مالك لها‏.‏
    كأنه قد قيل‏:‏ فإذا لم يملكوها، هل يشفعون في أحد‏؟‏ فقال‏:‏ نعم ‏{‏مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏
    وهذا يتناول الشافع والمشفوع له،فلا يشفع إلا من شهد بالحق وهم يعلمون، فالملائكة والأنبياء والصالحون ـ وإن كانوا لا يملكون الشفاعة ـ لكن إذا أذن الرب لهم شفعوا، وهم لا يؤذن لهم إلا في الشفاعة للمؤمنين، الذين يشهدون أن لا إله إلا اللّه، فيشهدون بالحق وهم يعلمون، لا يشفعون لمن قال هذه الكلمة تقليداً للآباء والشيوخ، كما جاء الحديث الصحيح‏:‏‏(‏إن الرجل يسأل فى قبره‏:‏ ما تقول في هذا الرجل ‏؟‏ فأما المؤمن، فيقول‏:‏ هو عبد اللّه ورسوله، جاءنا بالبينات والهدى‏.‏ وأما المرتاب، فيقول‏:‏ هاه هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته‏)‏ فلهذا قال‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏
    وقد تقدم قول ابن عباس؛ يعني من قال‏:‏‏(‏لا إله إلا الله تعالى‏)‏ يعنى‏:‏ خالصا من قلبه‏.‏
    والأحاديث الصحيحة الواردة في الشفاعة، كلها تبين أن الشفاعة إنما تكون فى أهل ‏(‏لا إله إلا اللّه‏)‏‏.‏
    وقد ثبت فى صحيح البخاري‏:‏ أن أبا هريرة قال لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏يا أبا هريرة، لقد ظننت ألا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتى يوم القيامة من قال‏:‏ لا إله إلا الله تعالى، خالصا من قبل نفسه‏)‏‏.‏
    فبين أن المخلص لها من قبل نفسه، هو أسعد بشفاعته صلى الله عليه وسلم من غيره ممن يقولها بلسانه، وتكذبها أقواله وأعماله‏.‏
    فهؤلاء هم الذين شهدوا بالحق، شهدوا ‏(‏أن لا إله إلا الله تعالى‏)‏، كما شهد الله تعالى لنفسه بذلك وملائكته وأولو العلم ‏{‏شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏18‏]‏‏.‏
    فإذا شهدوا ـ وهم يعلمون ـ كانوا من أهل الشفاعة، شافعين، ومشفوعا لهم‏.‏
    فإن المؤمنين أهل التوحيد يشفع بعضهم فى بعض، كما ثبت ذلك فى الأحاديث الصحيحة، كما ثبت فى الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي اللّه عنه ـ عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ـ في الحديث الطويل، حديث التجلي والشفاعة ـ‏:‏ ‏(‏حتى إذا خلص المؤمنون من النار، فوالذي نفسي بيده، ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله تعالى فى استيفاء الحق من المؤمنين للّه يوم القيامة لإخوانهم الذين فى النار، يقولون‏:‏ ربنا، كانوا يصومون معنا، ويصلون، ويحجون‏.‏فيقال لهم‏:‏ أخرجوا من عرفتم، فتحرم صورهم على النار‏)‏ وذكر تمام الحديث‏.‏
    وسبب نزول الآية ـ على ما ذكروه ـ مؤيد لما ذكره‏.‏
    قال أبو الفرج ابن الجوزى‏:‏ سبب نزولها‏:‏ أن النضر بن الحارث ونفراً معه قالوا‏:‏ إن كان ما يقول محمد حقا، فنحن نتولى الملائكة، فهم أحق بالشفاعة من محمد، فنزلت هذه الآية‏.‏ قاله مقاتل‏.‏
    وعلى هذا، فيقصد أن الملائكة وغيرهم لا يملكون الشفاعة، فليس توليكم إياهم، واستشفاعكم بهم بالذي يوجب أن يشفعوا لكم؛ فإن أحداً ممن يدعى من دون اللّه لا يملك الشفاعة، ولكن ‏{‏مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ فإن اللّه يشفع فيه‏.‏
    فالذي تنال به الشفاعة هى الشهادة بالحق، وهي شهادة أن لا إله إلا اللّه، لا تنال بتولى غير اللّه؛ لا الملائكة، ولا الأنبياء ولا الصالحين‏.‏
    فمن والى أحداً من هؤلاء ودعاه، وحج إلى قبره، أو موضعه، ونذر له، وحلف به، وقرب له القرابين ليشفع له، لم يغن ذلك عنه من اللّه شيئاً، وكان من أبعد الناس عن شفاعته وشفاعة غيره؛ فإن الشفاعة إنما تكون لأهل توحيد اللّه، وإخلاص القلب والدين له، ومن تولى أحدا من دون الله فهو مشرك‏.‏
    فهذا القول والعبادة ـ الذي يقصد به المشركون الشفاعة ـ يحرم عليهم الشفاعة، فالذين عبدوا الملائكة والأنبياء والأولياء والصالحين،ليشفعوا لهم،كانت عبادتهم إياهم وإشراكهم بربهم، الذي به طلبوا شفاعتهم، به حرموا شفاعتهم، وعوقبوا بنقيض قصدهم؛ لأنهم أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا‏.‏
    وكثير من أهل الضلال يظن أن الشفاعة تنال بهذه الأمور التى فيها شرك، أو هي شرك خالص، كما ظن ذلك المشركون الأولون، وكما يظنه النصارى، ومن ضل من المنتسبين إلى الإسلام، الذين يدعون غير اللّه، ويحجون إلى قبره أو مكانه، وينذرون له، ويحلفون به، ويظنون أنه بهذا يصير شفيعاً لهم، قال تعالى‏:‏‏{‏قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا‏}‏‏[‏الإسراء‏:‏56،57‏]‏‏.‏
    قال طائفة من السلف‏:‏ كان أقوام يعبدون المسيح والعزير والملائكة، فبين الله أنهم لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويله، كما بين أنهم لا يملكون الشفاعة، وهذا لا استثناء فيه، وإن كان الله يجيب دعاءهم، ثم قال‏:‏ ‏{‏أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا‏}‏، فبين أن هؤلاء المزعومين، الذين يدعونهم من دون اللّه كانوا يرجون رحمة الله تعالى ويخافون عذابه، ويتقربون إليه بالأعمال الصالحة، كسائر عباده المؤمنين وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 80‏]‏‏.‏
    وللناس فى الشفاعة أنواع من الضلال، قد بسطت في غير هذا الموضع‏.‏
    فكثير منهم يظن أن الشفاعة هى بسبب اتصال روح الشافع بروح المشفوع له، كما ذكر ذلك أبو حامد الغزالى وغيره، ويقولون‏:‏ من كان أكثر صلاة على النبى صلى الله عليه وسلم، كان أحق بالشفاعة من غيره،وكذلك من كان أحسن ظناً بشخص، وأكثر تعظيماً له، كان أحق بشفاعته‏.‏
    وهذا غلط، بل هذا هو قول المشركين الذين قالوا‏:‏ نتولى الملائكة ليشفعوا لنا، يظنون أن من أحب أحدا، من الملائكة والأنبياء والصالحين وتولاه، كان ذلك سبباً لشفاعته له‏.‏ وليس الأمر كذلك بل الشفاعة سببها توحيد اللّه وإخلاص الدين والعبادة بجميع أنواعها له، فكل من كان أعظم إخلاصا كان أحق بالشفاعة، كما أنه أحق بسائر أنواع الرحمة؛ فإن الشفاعة من اللّه مبدؤها، وعلى الله تعالى تمامها، فلا يشفع أحد إلا بإذنه، وهو الذى يأذن للشافع، وهو الذى يقبل شفاعته فى المشفوع له‏.‏
    وإنما الشفاعة سبب من الأسباب التى بها يرحم اللّه من يرحم من عباده، وأحق الناس برحمته هم أهل التوحيد والإخلاص له، فكل من كان أكمل فى تحقيق إخلاص ‏(‏لا إله إلا اللّه‏)‏ علماً وعقيدة، وعملاً وبراءة، وموالاة ومعاداة، كان أحق بالرحمة‏.‏
    والمذنبون ـ الذين رجحت سيئاتهم على حسناتهم فخَفَّت موازينهم فاستحقوا النارـ من كان منهم من أهل ‏(‏لا إله إلا اللّه‏)‏ فإن النار تصيبه بذنوبه، ويميته اللّه فى النار إماتة، فتحرقه النار إلا موضع السجود، ثم يخرجه اللّه من النار بالشفاعة، ويدخله الجنة، كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة‏.‏
    فبين أن مدار الأمر كله على تحقيق كلمة الإخلاص، وهى ‏(‏لا إله إلا اللّه‏)‏ لا على الشرك بالتعلق بالموتى وعبادتهم، كما ظنه الجاهليون، وهذا مبسوط فى غير هذا الموضع‏.‏
    والمقصود هنا أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين ‏(‏الحمد‏)‏ الذى هو رأس الشكر، وبين ‏(‏التوحيد والاستغفار‏)‏ إذا رفع رأسه من الركوع فيقول‏:‏‏(‏ربنا ولك الحمد، ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شىء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطى لما منعت، ولا ينفع ذا الجَد منك الجد‏)‏ ثم يقول‏:‏ ‏(‏اللهم طهرنى بالثلج والبرد، والماء البارد، اللهم طهرنى من الذنوب والخطايا كما يُنَقى الثوب الأبيض من الدَّنَس‏)‏ كما رواه مسلم فى الصحيح عن أبى سعيد الخدرى ـ رضى الله تعالى عنه ـ قال‏:‏كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسهمن الركوع قال‏:‏‏(‏اللهم ربنا لك الحمد، ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شىء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطى لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد‏)‏‏.‏
    وروى مسلم ـ أيضا ـ عن عبد الله بن أبى أوفى ـ رضى الله عنه ـ قال‏:‏كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال‏:‏‏(‏سمع الله لمن حمده،اللهم ربنا لك الحمد،ملء السموات وملء الأرض،وملء ما شئت من شىء بعد،اللهم طهرنى بالثلج والبرد،والماء البارد، اللهم طهرنى من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الوَسَخ‏)‏‏.‏
    وقد روى مسلم فى صحيحه أيضاً عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول‏:‏‏(‏اللهم لك الحمد‏)‏، وقال‏:‏‏(‏وملء الأرض، وملء ما بينهما‏)‏، ولم يذْكَر فى بعض الروايات؛ لأن ‏(‏السموات والأرض‏)‏ ‏.‏قد يراد بهما العلو والسفل مطلقاً، فيدخل فى ذلك الهواء وغيره؛ فإنه عال بالنسبة إلى ما تحته، وسافل بالنسبة إلى ما فوقه، فقد يجعل من السماء، كما يجعل السحاب سماء، والسقف سماء،وكذا قال فى القرآن‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 4‏]‏،ولم يقل‏:‏ ‏(‏وما بينهما‏)‏ كما يقول‏:‏ ‏{‏اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ‏}‏‏[‏السجدة‏:‏4‏]‏‏.‏
    فتارة يذكر قوله‏:‏‏(‏وما بينهما‏)‏ فيما خلقه فى ستة أيام، وتارة لا يذكره، وهو مراد؛ فإن ذكره كان إيضاحاً وبياناً، وإن لم يذكره دخل فى لفظ ‏(‏السموات والأرض‏)‏ ‏.‏ولهذا كان النبى صلى الله عليه وسلم تارة يقول‏:‏ ‏(‏ملء السموات وملء الأرض‏)‏ ولا يقول‏:‏‏(‏وما بينهما‏)‏، وتارة يقول‏:‏‏(‏وما بينهما‏)‏ وفيها كلها‏:‏‏(‏وملء ما شئت من شىء بعد‏)‏، وفى رواية أبى سعيد‏:‏ ‏(‏أحق ما قال العبد‏)‏ إلى آخره، وفى رواية ابن أبى أوْفَى‏:‏ ‏(‏الدعاء بالطهارة من الذنوب‏)‏‏.‏
    ففى هذا، الحمد رأس الشكر والاستغفار، فإن ربنا غفور وشكور، فالحمد بإزاء النعمة، والاستغفار بإزاء الذنوب‏.‏
    وذلك تصديق قوله تعالى‏:‏‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِك‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏79‏]‏‏.‏
    ففى سيد الاستغفار‏:‏‏(‏أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبى‏)‏، وفى حديث أبي سعيد‏:‏ ‏(‏الحمد رأس الشكر والتوحيد‏)‏، كما جمع بينهما في أم القرآن؛ فأولها تحميد، وأوسطها توحيد، وآخرها دعاء، وكما في قوله‏:‏ ‏{‏هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏65‏]‏ ‏.‏
    وفى حديث الموطأ‏:‏ ‏(‏أفضل ما قلتُ أنا والنبيون من قبلى‏:‏ لا إله إلا الله تعالى، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهوعلى كل شىء قدير من قالها كتب الله تعالى له ألف حسنة، وحط عنه ألف سيئة وكانت له حِرْزًا من الشيطان يومه ذلك، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به، إلا رجل قال مثلها، أو زاد عليه، ومن قال فى يوم مائة مرة‏:‏ سبحان اللّه وبحمده، حطت خطاياه، ولو كانت مثل زَبَد البحر‏)‏‏.‏
    وفضائل هذه الكلمات فى أحاديث كثيرة، وفيها‏:‏ التوحيد والتحميد‏.‏
    فقوله‏:‏ ‏(‏لا إله إلا اللّه، وحده لا شريك له‏)‏ توحيد، وقوله‏:‏ ‏(‏له الملك وله الحمد‏)‏ تحميد، وفيها معان أخرى شريفة‏.‏
    وقد جاء الجمع بين التوحيد، والتحميد، والاستغفار، فى مواضع؛ مثل حديث كفارة المجلس‏:‏ ‏(‏سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك‏)‏ فيه‏:‏ التسبيح، والتحميد، والتوحيد، والاستغفار‏.‏ من قالها فى مجلس؛ إن كان مجلس لغط كانت كفارة له، وإن كان مجلس ذكر كانت كالطابع له، وفى حديث أيضا‏:‏ ‏(‏إن هذا يقال عقب الوضوء‏)‏‏.‏
    ففى الحديث الصحيح ـ فى مسلم وغيره ـ من حديث عقبة عن عمر بن الخطاب ـ رضى اللّه عنه ـ أنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما منكم من أحد يتوضأ فيَسْبغ الوضوء، ثم يقول‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إلا فُتحِِت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء‏)‏‏.‏ وفى حديث آخر أنه يقول‏:‏ ‏(‏سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك‏)‏ ‏.‏
    وقد روى عن طائفة من السلف، فى الكلمات التى تلقاها آدم من ربه، ونحو هذه الكلمات‏.‏
    روى ابن جرير عن مجاهد أنه قال‏:‏ ‏(‏اللهم لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، رب إنى ظلمت نفسى،فاغفر لى، إنك خير الغافرين، اللهم لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك،رب إنى ظلمت نفسى فارحمنى، فأنت خير الراحمين،لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك،رب إنى ظلمت نفسى، فتب على، إنك أنت التواب الرحيم‏)‏‏.‏فهذه الكلمات من جنس خاتمة الوضوء،وخاتمة الوضوء فيها التسبيح،والتحميد،والتوحيد، والاستغفار‏.‏
    فالتسبيح، والتحميد، والتوحيد لله تعالى؛ فإنه لا يأتى بالحسنات إلا هو‏.‏
    والاستغفار من ذنوب النفس، التى منها تأتى السيئات‏.‏
    وقد قرن اللّه فى كتابه بين التوحيد، والاستغفار فى غيرموضع، كقوله‏:‏‏{‏فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏19‏]‏، وفى قوله‏:‏ ‏{‏أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 2، 3‏]‏ وفى قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏6‏]‏‏.‏
    وفى حديث رواه ابن أبى عاصم وغيره‏:‏‏(‏يقول الشيطان‏:‏ أهلكتُ الناس بالذنوب، وأهلكونى بالاستغفار، وبلا إله إلا الله، فلما رأيت ذلك بَثَثْت فيهم الأهواء، فهم يذنبون ولا يستغفرون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صُنُعًا‏)‏‏.‏
    و‏(‏لا إله إلا اللّه‏)‏ تقتضى الإخلاص والتوكل والإخلاص ‏[‏يقتضى‏]‏ الشكر، فهى أفضل الكلام، وهى أعلى شعب الإيمان، كما ثبت فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم، أنه قال‏:‏ ‏(‏الإيمان بضْعُ وستون ـ أو بضع وسبعون ـ شُعْبَة، أعلاها قول لا إلا إلا اللّه، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان‏)‏‏.‏
    فـ ‏(‏لا إله إلا اللّه‏)‏ هى قطب رحَى الإيمان، وإليها يرجع الأمر كله‏.‏
    والكتب المنزلة مجموعة فى قوله تعالى‏:‏‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏، وهي معنى ‏(‏لا إله إلا الله‏)‏و ‏(‏لا حول ولا قوة إلا بالله‏)‏ هى من معنى ‏(‏لا إله إلا الله‏)‏ و‏(‏الحمد للّه‏)‏ فى معناها، و‏(‏سبحان الله والله أكبر‏)‏ من معناها، لكن فيها تفصيل بعد إجمال‏.
    وقال شيخ الإسلام ـ قدسَ اللَّه روحه‏:‏
    فصــل
    قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏125‏]‏، فنفى أن يكون دين أحسن من هذا الدين، وأنكر على من أثبت ديناً أحسن منه؛ لأن هذا استفهام إنكار، وهو إنكار نهي وذم لمن جعل ديناً أحسن من هذا‏.‏
    قال قتادة والضحاك وغيرهما‏:‏إن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا، فقال أهل الكتاب‏:‏ نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم،ونحن أوْلى بالله منكم‏.‏ وقال المسلمون‏:‏ نحن أولى باللّه ـ تعالى ـ منكم، ونبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على الكتب التى كانت قبله، فأنزل اللّه تعالى‏:‏‏{‏لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ‏}‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏123‏]‏‏.‏
    وروى سفيان عن الأعمش،عن أبي الضُّحَي، عن مسروق، قال‏:‏لما نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 123‏]‏، قال أهل الكتاب‏:‏ نحن وأنتم سواء، حتى نزلت‏:‏ ‏{‏وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ‏}‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏124‏]‏،ونزلت فيهم ـ أيضاً ـ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا‏}‏ الآية‏.‏
    وقد روى عن مجاهد قال‏:‏ قالت قريش‏:‏لا نبعث أو لا نحاسب، وقال أهل الكتاب‏:‏ ‏{‏لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏80‏]‏، فأنزل اللّه عز وجل‏:‏ ‏{‏لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ‏}‏، وهذا يقتضي أنها خطاب للكفار من الأميين وأهل الكتاب؛ لاعتقادهم أنهم لا يعذبون العذاب الدائم، والأول أشهر في النقل وأظهر فى الدليل؛ لأن السورة مدنية بالاتفاق، فالخطاب فيها مع المؤمنين كسائر السور المدنية‏.‏
    وأيضاً، فإنه قد استفاض من وجوه متعددة أنه لما نزل قوله تعالى‏:‏‏{‏مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ‏}‏ شق ذلك على أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم،حتى بين لهم النبى صلى الله عليه وسلم أن مصائب الدنيا من الجزاء، وبها يجزى المؤمن؛ فعلم أنهم مخاطبون بهذه الآية لا مجرد الكفار‏.‏
    وأيضاً، قوله بعد هذا‏:‏ ‏{‏وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 124‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 125‏]‏ يدل على أن هناك تنازعا في تفصيل الأديان، لا مجرد إنكار عقوبة بعد الموت‏.‏
    وأيضاً، فما قبلها وما بعدها خطاب مع المؤمنين وجواب لهم فكان المخاطب فى هذه الآية هو المخاطب فى بقية الآيات‏.‏
    فإن قيل‏:‏ الآية نص فى نفي دين أحسن من دين هذا المسلم، لكن من أين أنه ليس دين مثله‏؟‏ فإن الأقسام ثلاثة‏:‏ إما أن يكون ثَمَّ دين أحسن منه، أو دونه، أو مثله، وقد ثبت أنه لا أحسن منه، فمن أين فى الآية أنه لا دين مثله‏؟‏ ونظيرها قوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِين‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 33‏]‏‏.‏
    قيل‏:‏ لو قلنا فى هذا المقام‏:‏ إن الآية لم تدل إلا على نفي الأحسن لم يضر هذا؛ فإن الخطاب له مقامات، قد يكون الخطاب تارة بإثبات صلاح الدين، إذا كان المخاطب يدعى أو يظن فساده، ثم في مقام بأن يقع النزاع فى التفاضل، فيبين أن غيره ليس أفضل منه، ثم فى مقام ثالث يبين أنه أفضل من غيره، وهكذا إذا تكلمنا فى أمر الرسول، ففي مقام نبين صدقه وصحة رسالته، وفى مقام بأن نبين أن غيره ليس أفضل منه، وفى مقام ثالث نبين أنه سيد ولد آدم، وذلك أن الكلام يتنوع بحسب حال المخاطب‏.‏
    ثم نقول‏:‏ يدل على أن هذا الدين أحسن وجوه‏:‏
    أحدها‏:‏ أن هذه الصيغة، وإن كانت فى أصل اللغة لنفي الأفضل لدخول النفي على أفعل، فإنه كثيراً ما يضمر بعرف الخطاب، يفضل المذكور المجرور بمن مفضلا عليه فى الإثبات، فإنك إذا قلت‏:‏ هذا الدين أحسن من هذا كان المجرور بمن مفضلا عليه، والأول مفضلا فإذا قلت‏:‏ لا أحسن من هذا، أو‏:‏ من أحسن من هذا‏؟‏ أو ليس فيهم أفضل من هذا، أو‏:‏ ما عندي أعلم من زيد، أو‏:‏ ما فى القوم أصدق من عمرو، أو‏:‏ ما فيهم خير منه، فإن هذا التأليف يدل على أنه أفضلهم وأعلمهم وخيرهم، بل قد صارت حقيقة عرفية فى نفي فضل الداخل في أفعل، وتفضيل المجرور على الباقين، وأنها تقتضي نفي فضلهم وإثبات فضله عليهم، وضمنت معنى الاستثناء، كأنك قلت‏:‏ ما فيهم أفضل إلا هذا، أو ما فيهم المفضل إلا هذا، كما أن ‏[‏إن‏]‏ إذا كفت بما النافية صارت متضمنة للنفي والإثبات‏.‏
    وكذلك الاستثناء، وإن كان فى الأصل للإخراج من الحكم؛ فإنه صار حقيقة عرفية فى مناقضة المستثنى منه، فالاستثناء من النفي إثبات، ومن الإثبات نفي، واللفظ يصير بالاستعمال له معنى غير ما كان يقتضيه أصل الوضع‏.‏
    وكذلك يكون في الأسماء المفردة تارة، ويكون فى تركيب الكلام أخرى، ويكون فى الجمل المنقولة كالأمثال السائرة جملة، فيتغير الاسم المفرد بعرف الاستعمال عما كان عليه فى الأصل، إما بالتعميم وإما بالتخصيص وإما بالتحويل؛ كلفظ الدابة والغائط والرأس‏.‏ ويتغير التركيب بالاستعمال عما كان يقتضيه نظائره، كما فى زيادة حرف النفي فى الجمل السلبية، وزيادة النفي فى كاد، وبنقل الجملة عن معناها الأصلي إلى غيره كالجمل المتمثل بها، كما فى قولهم‏:‏ ‏(‏يَدَاك أوْكَتَا وفُوكَ نَفَخ‏)‏‏[‏ سبق التعليق على المثل‏.‏ انظر‏:‏ الجزء الثانى عشر‏]‏ و ‏(‏عسى الغُوَيْرُ أبْؤُسَا‏)‏ ‏[‏فى المطبوعة‏:‏ بؤسا ـ والصواب ما أثبتناه‏]‏ ‏[‏سبق التعليق على المثل‏.‏ انظر‏:‏ الجزء الثانى عشر‏]‏ ‏.‏
    الوجه الثاني‏:‏ أنه إذا كان لا دين أحسن من هذا، فالغير إما أن يكون مثله أو دونه، ولا يجوز أن يكون مثله؛ لأن الدين إذا ماثل الدين وساواه فى جميع الوجوه كان هو إياه، وإن تعدد الغير لكن النوع واحد فلا يجوز أن يقع التماثل والتساوي بين الدينين المختلفين، فإن اختلافهما يمنع تماثلهما؛إذ الاختلاف ضد التماثل، فكيف يكونان مختلفين متماثلين‏؟‏ واختلافهما اختلاف تضاد لا تنوع؛ فإن أحد الدينين يعتقد فيه أمور على أنها حق واجب، والآخر يقول‏:‏ إنها باطل محرم، فمن المحال استواء هذين الاعتقادين‏.‏
    وكذلك الاقتصادان؛ فإن هذا يقصد المعبود بأنواع من المقاصد والأعمال، والآخر يقصده بما يضاد ذلك وينافيه، وليس كذلك تنوع طرق المسلمين ومذاهبهم؛ فإن دينهم واحد، كل منهم يعتقد ما يعتقده الآخر، ويعبده بالدين الذى يعبده ويسوغ أحدهما للآخر أن يعمل بما تنازع فيه من الفروع فلم يختلفا، بل نقول‏:‏ أبلغ من هذا أن القدر الذى يتنازع فيه المسلمون من الفروع لابد أن يكون أحدهما أحسن عند اللّه فإن هذا مذهب جمهور الفقهاء الموافقين لسلف الأمة على أن المصيب عند اللّه واحد فى جميع المسائل، فذاك الصواب هو أحسن عند اللّه، وإن كان أحدهما يقر الآخر، فالإقرار عليه لا يمنع أن يكون مفضولا مرجوحا، وإنما يمنع أن يكون محرما‏.‏
    وإذا كان هذا فى دق الفروع فما الظن بما تنازعوا فيه من الأصول‏؟‏ فإنه لا خلاف بين المسلمين ولا بين العقلاء أن المصيب فى نفس الأمر واحد، وإنما تنازعوا فى المخطئ هل يغفر له أو لا يغفر، وهل يكون مصيباً بمعنى أداء الواجب، وسقوط اللوم لا بمعنى صحة الاعتقاد‏؟‏ فإن هذا لا يقوله عاقل؛أن الاعتقادين المتناقضين من كل وجه يكون كل منهما صوابا‏.‏
    فتلخيص الأمر‏:‏ أن هذا المقام إنما فيه تفضيل قول وعمل على قول وعمل، فالأقوال والأعمال المختلفة لابد فيها من تفضيل بعضها على بعض عند جمهور الأمة، بل ومن قال بأن كل مجتهد مصيب قد لا ينازع أن أحدهما أحسن وأصوب، ولا يدعى تماثلهما‏.‏ وإن ادعاه فلم يدعه إلا فى دق الفروع، مع أن قوله ضعيف مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف‏.‏
    وأما الحِلّ فلم يدع مدع تساوي الأقسام فيه، وهذا بخلاف التنوع المحض، مثل قراءة سورة وقراءة سورة أخرى، وصدقة بنوع وصدقة بنوع آخر، فإن هذا قد يتماثل؛ لأن الدين واحد في ذلك من كل وجه، وإنما كلامنا فى الأديان المختلفة، وليس هنا خلاف بحال‏.‏
    وإذا ثبت أن الدينين المختلفين لا يمكن تماثلهما، لم يحتج إلى نفى هذا فى اللفظ؛ لانتفائه بالعقل، وكذلك لما سمعوا قوله‏:‏ ‏{‏وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 48‏]‏، كان فى هذا ما يخاف انتقاصهم إياه‏.‏
    هذا، مع أن نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة شاهدة بتفضيل النبيين على بعض، وبعض الرسل على بعض، قاضية لأولى العزم بالرجحان، شاهدة بأن محمداً صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم، وأكرم الخلق على ربه،لكن تفضيل الدين الحق أمر لابد من اعتقاده؛ ولهذا ذكره اللّه فى الآية‏.‏
    وأما تفضيل الأشخاص، فقد لا يحتاج إليه فى كل وقت، فالدين الواجب لابد من تفضيله؛ إذ الفضل يدخل فى الوجوب، وإذا وجب الدين به دون خلافه فلأن يجب اعتقاد فضله أولى‏.‏
    وأما الدين المستحب؛ فقد لا يشرع اعتقاد فعله إلا فى حق من شرع له فعل ذلك المستحب‏.‏ وإلا فمن الناس من يضره إذا سلك سبيلا من سبل السلام الإسلامية أن يرى غيره أفضل منها؛ لأنه يتشوف إلى الأفضل فلا يقدر عليه والمفضول يعرض عنه‏.‏
    وكما أنه ليس من مصلحته أن يعرف أفضل من طريقته إذا كان بترك طريقته، ولا يسلك تلك، فليس أيضاً من الحق أن يعتقد أن طريقته أفضل من غيرها، بل مصلحته أن يسلك تلك الطريقة المفضية به إلى رحمة اللّه ـ تعالى ـ فإن بعض المتفقهة يدعون الرجل إلى ما هو أفضل من طريقته عندهم، وقد يكونون مخطئين فلا سلك الأول ولا الثانى‏.‏ وبعض المتصوفة‏:‏ المريد يعتقد أن شيخه أكمل شيخ على وجه الأرض، وطريقته أفضل الطرق، كلاهما انحراف، بل يؤمر كل رجل أن يأتى من طاعة اللّه ورسوله بما استطاعه، ولا ينقل من طاعة الله ورسوله بطريقته، وإن كان فيها نوع نقص أو خطأ، ولا يبين له نقصها إلا إذا نقل إلى ما هو أفضل منها، وإلا فقد ينفر قلبه عن الأولى بالكلية حتى يترك الحق الذى لا يجوز تركه، ولا يتمسك بشىء آخر،وهذا باب واسع ليس الغرض هنا استقصاؤه، وهو مبني على أربعة أصول‏:‏
    أحدها‏:‏ معرفة مراتب الحق والباطل، والحسنات والسيئات، والخير والشر؛ ليعرف خير الخيرين وشر الشرين‏.‏
    الثاني‏:‏ معرفة ما يجب من ذلك ومالا يجب، وما يستحب من ذلك وما لا يستحب‏.‏
    الثالث‏:‏ معرفة شروط الوجوب والاستحباب من الإمكان والعجز، وأن الوجوب والاستحباب قد يكون مشروطاً بإمكان العلم والقدرة‏.‏
    الرابع‏:‏ معرفة أصناف المخاطبين وأعيانهم؛ ليؤمر كل شخص بما يصلحه، أو بما هو الأصلح له من طاعة اللّه ورسوله، وينهي عما ينفع نهيه عنه، ولا يؤمر بخير يوقعه فيما هو شر من المنهى عنه مع الاستغناء عنه‏.‏
    وهذا القدر الذي دلت عليه هذه الآية ـ من أن دين من أسلم وجهه للّه وهو محسن، واتبع ملة إبراهيم، هو أحسن الأديان، أمر متفق عليه بين المسلمين ـ معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، بل من يتبع غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو فى الآخرة من الخاسرين‏.‏
    ولكن كتاب الله هو حاكم بين أهل الأرض فيما اختلفوا فيه، ومبين وجه الحكم؛ فإنه بين بهذه الآية وجه التفضيل بقوله‏:‏‏{‏أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ‏}‏ وبقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ مُحْسِنٌ‏}‏، فإن الأول بيان نيته وقصده، ومعبوده وإلهه، وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ مُحْسِنٌ‏}‏ فانتفى بالنص نفي ما هو أحسن منه، وبالعقل ما هو مثله، فثبت أنه أحسن الأديان‏.‏
    الوجه الثالث‏:‏ أن النزاع كان بين الأمتين، أيّ الدينين أفضل‏؟‏ فلم يقل لهما‏:‏ إن الدينين سواء، ولا نهوا عن تفضيل أحدهما؛ ولكن حسمت مادة الفخر والخيلاء والغرور الذي يحصل من تفضيل أحد الدينين؛ فإن الإنسان إذا استشعر فضل نفسه أو فضل دينه يدعوه ذلك إلى الكِبْر والخيلاء والفخر، فقيل للجميع‏:‏ ‏(‏مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ‏)‏ سواء كان دينه فاضلا أو مفضولا؛ فإن النهي عن السيئات والجزاء عليها واقع لا محالة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لَوَاقِعٌ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏1-6‏]‏
    فلما استشعر المؤمنون أنهم مجزيون على السيئات ولا يغنى عنهم فضل دينهم،وفسر لهم النبى صلى الله عليه وسلم أن الجزاء قد يكون فى الدنيا بالمصائب، بين بعد ذلك فساد دين الكفار من المشركين وأهل الكتاب بقوله‏:‏‏{‏وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى‏}‏ الآية‏.‏ فبين أن العمل الصالح إنما يقع الجزاء عليه في الآخرة مع الإيمان، وإن كان قد يجزى به صاحبه في الدنيا بلا إيمان، فوقع الرد على الكفار من جهة جزائهم بالسيئات، ومن جهة أن حسناتهم لا يدخلون بها الجنة إلا مع الإيمان، ثم بين بعد هذا فضل الدين الإسلامي الحنفي بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا‏}‏، فجاء الكلام فى غاية الإحكام‏.‏
    ومما يشبه هذا من بعض الوجوه‏:‏ نهى النبى صلى الله عليه وسلم أن يفضل بين الأنبياء التفضيل الذي فيه انتقاص المفضول والغَضّ منه، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏لا تفضلوا بين الأنبياء‏)‏، وقال ‏(‏لا تفضلونى على موسى‏)‏ بيان لفضله، وبهذين يتم الدين‏.‏
    فإذا كان اللّه هو المعبود، وصاحبه قد أخلص له وانقاد، وعمله فعل الحسنات، فالعقل يعلم أنه لا يمكن أن يكون دين أحسن من هذا، بخلاف دين من عند غير الله وأسلم وجهه له، أو زعم أنه يعبد الله لا بإسلام وجهه، بل يتكبر كاليهود، ويشرك كالنصارى، أو لم يكن محسناً بل فاعلا للسيئات دون الحسنات، وهذا الحكم عدل محض، وقياس وقسط، دل القرآن العقلاء على وجه البرهان فيه‏.‏
    وهكذا غالبا ما بينه القرآن، فإنه يبين الحق والصدق، ويذكر أدلته وبراهينه؛ ليس يبينه بمجرد الإخبار عن الأمر، كما قد يتوهمه كثير من المتكلمة والمتفلسفة، أن دلالته سمعية خبرية، وأنها واجبة لصدق المخبر، بل دلالته ـ أيضاً ـ عقلية برهانية، وهو مشتمل من الأدلة والبراهين على أحسنها وأتمها بأحسن بيان، لمن كان له فهم وعقل، بحيث إذا أخذ ما فى القرآن من ذلك،وبين لمن لم يعلم أنه كلام اللّه أو لم يعلم صدق الرسول، أو يظن فيه ‏[‏ظنا‏]‏ مجرداً عما يجب من قبول قول المخبر ـ كان فيه ما يبين صدقه وحقه، ويبرهن على صحته‏.‏
    وَقاَل شَيْخ الإسْلاَم ـ رَحمه اللّه تعالى ‏:‏
    فصــل
    فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 107‏]‏ فقوله‏:‏‏{‏يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ‏}‏ مثل قوله فى سورة البقرة‏:‏‏{‏عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ
    أَنفُسَكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏187‏]‏، قال ابن قتيبة وطائفة من المفسرين‏:‏ معناه تخونون أنفسكم‏.‏ زاد بعضهم‏:‏ تظلمونها‏.‏ فجعلوا الأنفس مفعول ‏(‏تختانون‏)‏، وجعلوا الإنسان قد خان نفسه، أي ظلمها بالسرقة كما فعل ابن أُبَيْرِق ـ أو بجماع امرأته ليلة الصيام كما فعل بعض الصحابة ـ وهذا القول فيه نظر؛ فإن كل ذنب يذنبه الإنسان فقد ظلم فيه نفسه، سواء فعله سراً أو علانية‏.‏
    وإذا كان اختيان النفس هو ظلمها أو ارتكاب ما حرم عليها، كان كل مذنب مختاناً لنفسه، وإن جهر بالذنوب، وكان كفر الكافرين وقتالهم للأنبياء وللمؤمنين اختياناً لأنفسهم، وكذلك قطع الطريق والمحاربة، وكذلك الظلم الظاهر، وكان ما فعله قوم نوح وهود، وصالح وشعيب اختياناً لأنفسهم‏.‏
    ومعلوم أن هذا اللفظ لم يستعمل فى هذه المعاني كلها، وإنما استعمل فى خاص من الذنوب مما يفعل سراً، وحتى قال ابن عباس في قوله ‏{‏يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ‏}‏‏:‏ عنى بذلك فعل عمر؛ فإنه روى أنه لمـا جـاء الأنصاري فشكى أنه بـات تلك الليلة ولـم يَتَعَشَّ لمـا نام قبل العشاء، وكان من نام قبل الأكل حرم عليه الأكل، فيستمر صائما ً، فأصبح يتقلب ظهراً لبطن، فلما شكا حاله إلى النبى صلى الله عليه وسلم قال عمر‏:‏ يا رسول الله، إنى أردت أهلي الليلة، فقالت‏:‏ إنها قد نامت، فظننتها لم تنم فواقعتها، فأخبرتنى أنها كانت قد نامت، قالوا‏:‏ فأنزل اللّه فى عمر‏:‏ ‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏‏.‏
    وقد قيل‏:‏ إن الجماع ليلة الصيام كانوا منهيين عنه مطلقاً، بخلاف الأكل، فإنه كان مباحاً قبل النوم، وقد روى أن عمر جامع امرأته بعد العشاء قبل النوم، وأنه لما فعل أخذ يلوم نفسه، فأتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول اللّه، أعتذر إلى اللّه من نفسي هذه الخائنة، إني رجعت إلى أهلي بعد ما صليت العشاء فوجدت رائحة طيبة، فسولت لي نفسي، فجامعت أهلي، فقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما كنت جديراً بذلك يا عمر‏)‏، وجاء طائفة من الصحابة فذكروا مثل ذلك فأنزل اللّه هذه الآية ‏.‏
    فهذا فيه أن نفسه الخاطئة سولت له ذلك، ودعته إليه، وأنه أخذ يلومها بعد الفعل، فالنفس هنا هي الخائنة الظالمة، والإنسان تدعوه نفسه فى السر إذا لم يره أحد إلى أفعال لا تدعو إليها علانية، وعقله ينهاه عن تلك الأفعال، ونفسه تغلبه عليها‏.‏
    ولفظ الخيانة حيث استعمل لا يستعمل إلا فيما خفي عن المخون، كالذي يخون أمانته، فيخون من ائتمنه إذا كان لا يشاهده، ولو شاهده لما خانه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏ الأنفال‏:‏27‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏13‏]‏، وقـالت امرأة العزيز‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏52‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 19‏]‏‏.‏
    وقال النبى صلى الله عليه وسلم لما قام‏:‏‏(‏أما فيكم رجل يقوم إلى هذا فيضرب عنقه‏؟‏‏)‏ فقال له رجل‏:‏ هلا أومضت إلي‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏ما ينبغي لنبى أن تكون له خائنة الأعين‏)‏، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏107، 108‏]‏، وفى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏آية المنافق ثلاث‏:‏ إذا حَدَّث كذب، وإذا وَعَد أخلف، وإذا اؤتمن خان‏)‏، وفى حديث آخر‏:‏‏(‏على كل خُلُق يطبع المؤمن إلا الخيانة والكذب‏)‏، ومثل هذا كثير‏.‏
    وإذا كان كذلك، فالإنسان كيف يخون نفسه، وهو لا يكتمها ما يقوله ويفعله سراً عنها، كما يخون من لا يشهده من الناس، كما يخون الله والرسول إذا لم يشاهده، فلا يكون ممن يخاف اللّه بالغيب‏؟‏ ولم خصت هذه الأفعال بأنها خيانة للنفس دون غيرها‏؟‏ فالأشبه ـ والله أعلم ـ أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ‏}‏ مثل قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 130‏]‏‏.‏
    والبصريون يقولون فى مثل هذا‏:‏ إنه منصوب على أنه مفعول له، ويخرجون قوله‏:‏ ‏{‏سّفٌهّ‏}‏ عن معناه فى اللغة، فإنه فعل لازم، فيحتاجون أن ينقلوه من اللزوم إلى التعدية بلا حجة‏.‏
    وأما الكوفيون ـ كالفراء وغيره ومن تبعهم، فعندهم أن هذا منصوب على التمييز، وعندهم أن المميز قد يكون معرفة كما يكون نكرة، وذكروا لذلك شواهد كثيرة من كلام العرب، مثل قولهم‏:‏ ألم فلان رأسه، ووجع بطنه، ورشد أمره‏.‏ وكان الأصل‏:‏ سفهت نفسه،ورشد أمره‏.‏ ومنه قولهم‏:‏ غبن رأيه، وبطرت نفسه، فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 58‏]‏، من هذا الباب، فالمعيشة نفسها بطرت، فلما كان الفعل‏.‏‏.‏‏.‏‏[‏بياض بالأصل‏]‏ نصبه على التمييز، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏47‏]‏، فقوله‏:‏ ‏{‏سَفِهَ نَفْسَهُ‏}‏ معناه‏:‏ إلا من سفهت نفسه، أى كانت سفيهة، فلما أضاف الفعل إليه نصبها على التمييز، كما فى قوله‏:‏ ‏{‏وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 4‏]‏، ونحو ذلك‏.‏ وهذا اختيار ابن قُتَيْبَة وغيره، لكن ذاك نكرة وهذا معرفة‏.‏
    وهذا الذى قاله الكوفيون أصح فى اللغة والمعنى؛ فإن الإنسان هو السفيه نفسه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏142‏]‏، ‏{‏وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 5‏]‏، فكذلك قوله‏:‏ ‏{‏تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ‏}‏ أى‏:‏ تختان أنفسكم، فالأنفس هى التى اختانت، كما أنها هى السفيهة‏.‏ وقال‏:‏ اختانت، ولم يقل‏:‏ خانت؛ لأن الافتعال فيه زيادة فعل على ما فى مجرد الخيانة‏.‏ قال عكرمة‏:‏ والمراد بالذين يختانون أنفسهم‏:‏ ابن أُبَيْرِق الذى سرق الطعام والقماش، وجعل هو وقومه يقولون‏:‏ إنما سرق فلان لرجل آخر‏.‏
    فهؤلاء اجتهدوا فى كتمان سرقة السارق، ورمى غيره بالسرقة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 108‏]‏، فكانوا خائنين للصاحب والرسول وقد اكتسبوا الخيانة‏.‏
    وكذلك الذين كانوا يجامعون بالليل، وهم يجتهدون فى أن ذلك لا يظهر عنهم حين يفعلونه، وإن أظهروه فيما بعد عند التوبة، أما عند الفعل فكانوا يحتاجون من ستر ذلك وإخفائه ما لا يحتاج إليه الخائن وحده، أو يكون قوله‏:‏ ‏{‏تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ‏}‏ أى‏:‏ يخون بعضكم بعضا، كقوله‏:‏ ‏{‏فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏54‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنتُمْ هَـؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏85‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏12‏]‏، فإن السارق وأقواماً خانوا إخوانهم المؤمنين‏.‏
    والُمجَامِع، إن كان جامع امرأته وهى لا تعلم أنه حرام فقد خانها، والأول أشبه‏.‏ والصيام مبناه على الأمانة؛ فإن الصائم يمكنه الفطر ولا يدرى به أحد، فإذا أفطر سراً فقد خان أمانته، والفطر بالجماع المستور خيانة، كما أن أخذ المال سراً وإخبار الرسول والمظلوم ببراءة السقيم وسقم البرىء خيانة، فهذا كله خيانة، والنفس هى التى خانت؛ فإنها تحب الشهوة والمال والرئاسة، وخان واختان مثل كسب واكتسب، فجعل الإنسان مختاناً‏.‏
    ثم بين أن نفسه هى التى تختان، كما أنها هى التى تضر؛ لأن مبدأ ذلك من شهوتها، ليس هو مما يأمر به العقل والرأى، ومبدأ السفه منها لخفتها وطيشها، والإنسان تأمره نفسه فى السر بأمور ينهاها عنه العقل والدين فتكون نفسه اختانته وغلبته، وهذا يوجد كثيراً فى أمر الجماع والمال؛ ولهذا لا يؤتمن على ذلك أكثر الناس ويقصد بالائتمان من لا تدعوه نفسه إلى الخيانة فى ذلك‏.‏ قال سعيد بن المُسَيَّب‏:‏ لو ائتمنت على بيت مال لأديت الأمانة، ولو ائتمنت على امرأة سوداء لخفت ألا أؤدى الأمانة فيها وكذلك المال لا يؤتمن عليه أصحاب الأنفس الحريصة على أخذه كيف اتفق‏.‏
    وهذا كله مما يبين أن النفس تخون أمانتها، وإن كان الرجل ابتداء لا يقصد الخيانة، فتحمله على الخيانة بغير أمره، وتغلبه على رأيه؛ ولهذا يلوم المرء نفسه على ذلك ويذمها، ويقول‏:‏ هذه النفس الفاعلة الصانعة؛ فإنها هى التى اختانت‏.‏
    فصــل
    ودل قوله‏:‏‏{‏وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ‏}‏‏[‏النساء‏:‏107‏]‏، أنه لا يجوز الجدال عن الخائن، ولا يجوز للإنسان أن يجادل عن نفسه إذا كانت خائنة؛لها فى السر أهواء وأفعال باطنة تخفى على الناس، فلا يجوز المجادلة عنها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏19‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏120‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 33‏]‏، وقد قال تعالى‏:‏‏{‏بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَىمَعَاذِيرَهُ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏14، 15‏]‏، فإنه يعتذر عن نفسه بأعذار ويجادل عنها،وهو يبصرها بخلاف ذلك،وقال تعالى‏:‏‏{‏كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏14‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ
    النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 402‏]‏‏.‏
    وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏أبْغَضُ الرجال إلى اللّه الألَدُّ الخَصِمُ‏)‏، فهو يجادل عن نفسه بالباطل، وفيه لدد‏.‏ أي‏:‏ ميل واعوجاج عن الحق، وهذا على نوعين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن تكون مجادلته وذبه عن نفسه مع الناس، والثانى‏:‏ فيما بينه وبين ربه، بحيث يقيم أعذار نفسه ويظنها محقة وقصدها حسناً، وهي خائنة ظالمة، لها أهواء خفية قد كتمتها حتى لا يعرف بها الرجل حتى يرى وينظر، قال شداد بن أوس‏:‏ إن أخوف ما أخاف عليكم الشهوة الخفية، قال أبو داود‏:‏ هى حب الرياسة‏.‏
    وهذا من شأن النفس، حتى إنه يوم القيامة يريد أن يدفع عن نفسه ويجادل الله بالباطل، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَاللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏18، 19‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏22ـ 24‏]‏‏.‏
    وقد جاءت الأحاديث بأن الإنسان يجحد أعماله يوم القيامة، حتى يشهد عليه سمعه وبصره وجوارحه، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 22‏]‏‏.‏
    ومن عادة المنافقين المجادلة عن أنفسهم بالكذب والأيمان الفاجرة، وصفهم اللّه بذلك فى غير موضع‏.‏ وفى قصة تبوك لما رجع النبى صلى الله عليه وسلم، وجاء المنافقون يعتذرون إليه، فجعل يقبل علانيتهم، ويَكِل سرائرهم إلى الله، فلما جاء كعب قال‏:‏ والله يا رسول اللّه لو قعدت بين يدي ملك من ملوك الأرض لقدرت أن أخرج من سخطه؛ إنى أوتيت جدلاً، ولكن أخاف إن حدثتك حديث كـذب ترضى به عنى ليوشكن اللّه أن يسخطك علىّ، ولئن حدثتك حديث صدق تَجِد ‏[‏أى‏:‏ تغضب‏.‏ انظر‏:‏ المصباح المنير، مادة‏:‏ وجد‏]‏ علىّ فيه إنى لأرجو فيه عفو الله‏.‏ لا والله ما كان لي من عذر، واللّه مـا كنت أقوى قـط ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، فقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أما هذا فقد صدق‏)‏ يعني‏:‏ والباقي يكذبون ثم إنه هجره مدة، ثم تاب اللّه عليه ببركة صدقه‏.‏
    فالاعتذار عن النفس بالباطل والجدال عنها لا يجوز، بل إن أذنب سراً بينه و بين الله اعترف لربه بذنبه، وخضع له بقلبه، وسأله مغفرته وتاب إليه؛ فإنه غفور رحيم تواب، وإن كانت السيئة ظاهرة تاب ظاهرًا، وإن أظهر جميلاً وأبطن قبيحاً تاب فى الباطن من القبيح، فمن أساء سراً أحسن سراً، ومن أساء علانية أحسن علانية فإن الحسنات يذهبن السيئات، ذلك ذكرى للذاكرين‏.‏
    سُورَة المَائِدة
    وَقَال شيخ الإسلام ـ قدسَ اللَّه روحه‏:‏

    فصــل
    سورة المائدة أجمعُ سورة فى القرآن لفروع الشرائع من التحليل والتحريم، والأمر والنهي؛ ولهذا روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏هي آخر القرآن نزولاً فأحِلّوا حلالها، وحرموا حرامها‏)‏؛ ولهذا افتتحت بقوله‏:‏ ‏{‏ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏1‏]‏، والعقود هي العهود، وذكر فيها من التحليل والتحريم والإيجاب ما لم يذكر فى غيرها، والآيات فيها متناسبة مثل قوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏87‏]‏‏.‏
    وقد اشتهر فى التفسير أن هذه الآية نزلت بسبب الذين أرادوا التبتل من الصحابة، مثل عثمان بن مظعون والذين اجتمعوا معه‏.‏ وفى الصحيحين حديث أنس فى الأربعة الذين قال أحدهم‏:‏ أما أنا فأصوم لا أفْطِر، وقال الآخر‏:‏ أما أنا فأقوم لا أنام، وقال الآخر أما أنا فلا أتزوج النساء،وقال الآخر‏:‏ أما أنا فلا آكل اللحم، فقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏لكني أصوم وأفطر، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سُنّتي فليس مني‏)‏، فيشبه ـ والله أعلم ـ أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ‏}‏ فيمن حرم الحلال على نفسه بقول أو عزم على تركه، مثل الذي قال‏:‏ لا أتزوج النساء ولا آكل اللحم، وهي الرهبانية المبتدعة؛ فإن الراهب لا ينكح ولا يذبح‏.‏
    وقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَعْتَدُواْ‏}‏ فيمن قال‏:‏ أقوم لا أنام، وقال‏:‏ أصوم لا أفطر؛ لأن الاعتداء مجاوزة الحد، فهذا مجاوز للحد في العبادة المشروعة، كالعدوان فى الدعاء فى قوله‏:‏ ‏{‏ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏55‏]‏، وقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سيكون قوم يعتدون فى الدعاء والطهور‏)‏، فالاعتداء فى العبادات، وفى الورع كالذين تحرجوا من أشياء ترخص فيها النبى صلى الله عليه وسلم، وفى الزهد كالذين حرموا الطيبات، وهذان القسمان ترك، فقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَعْتَدُواْ‏}‏ إما أن يكون مختصاً بجانب الأفعال العبادية، وإما أن يكون العدوان يشمل العدوان فى العبادة والتحريم، وهذان النوعان هما اللذان ذم الله المشركين بهما فى غير موضع، حيث عبدوا عبادة لم يأذن الله بها، وحرموا ما لم يأذن اللّه به، فقوله‏:‏ ‏{‏لاَ تُحَرِّمُواْ‏}‏، ‏{‏وَلاَ تَعْتَدُواْ‏}‏ يتناول القسمين‏.‏
    والعدوان هنا كالعدوان فى قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏2‏]‏، إما أن يكون أعم من الإثم، وإما أن يكون نوعا آخر، وإما أن يكون العدوان فى مجاوزة حدود المأمورات واجبها ومستحبها، ومجاوزة حد المباح، وإما أن يكون فى ذلك مجاوزة حد التحريم أيضاً؛ فإنها ثلاثة أمور‏:‏ مأمور به ومنهى عنه ومباح‏.‏
    ثم ذكر بعد هذا،قوله‏:‏ ‏{‏لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ‏}‏الآية ‏[‏المائدة‏:‏89‏]‏، ذكر هذا بعد النهي عن التحريم، ليبين المخرج من تحريم الحلال إذا عقد عليه يميناً باللّه أو يميناً أخرى، وبهذا يستدل على أن تحريم الحلال يمين‏.‏
    ثم ذكر بعد ذلك ما حرمه من الخمر والميسر، والأنصاب والأزلام، فبين به ما حرمه؛ فإن نفي التحريم الشرعي يقع فيه طائفة من الإباحية، كما يقع فى تحريم الحلال طائفة من هؤلاء، يكونون فى حال اجتهادهم ورياضتهم تحريمية، ثم إذا وصلوا ـ بزعمهم ـ صاروا إباحية، وهاتان آفتان تقع فى المتعبدة والمتصوفة كثيراً، وقرن بينهما حكم الأيمان؛ فإن كلاهما يتعلق بالفم داخلا وخارجا، كما يقرن الفقهاء بين كتاب الأيمان والأطعمة، وفيه رخصة فى كفارة الأيمان مطلقاً، خلافا لما شدد فيه طائفة من الفقهاء، من جعل بعض الأيمان لا كفارة فيها؛ فإن هذا التشديد مضاه للتحريم، فيكون الرجل ممنوعا من فعل الواجب أو المباح بذلك التشديد، وهذا كله رحمة من اللّه بنا دون غيرنا من الأمم التى حرم عليهم أشياء عقوبة لهم ولا كفارة في أيمانهم، ولم يطهرهم من الرجس كما طهرنا، فتدبر هذا فإنه نافع‏.‏
    وقال شيخ الإِسلاَم ـ رَحِمه اللَّه‏:‏
    فصــل
    قوله‏:‏ ‏{‏سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏41‏]‏، قيل‏:‏ اللام لام كي، أي يسمعون ليكذبوا ويسمعون لينقلوا إلى قوم آخرين لم يأتوك، فيكونون كذابين ونمامين جواسيس، والصواب أنها لام التعدية، مثل قوله‏:‏‏(‏سمع الله لمن حمده‏)‏، فالسماع مضمن معنى القبول، أي قابلون للكذب ويسمعون من قوم آخرين لم يأتوك ويطيعونهم، فيكون ذما لهم على قبول الخبر الكاذب، وعلى طاعة غيره من الكفار والمنافقين، مثل قوله‏:‏‏{‏ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 47‏]‏، أي هم يطلبون أن يفتنوكم وفيكم من يسمع منهم، فيكون قد ذمهم على اتباع الباطل فى نوعي الكلام؛ خبره وإنشائه، فإن باطل الخبر الكذب، وباطل الإنشاء طاعة غير الرسل، وهذا بعيد‏.‏
    ثم قال‏:‏ ‏{‏سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏24‏]‏، فذكر أنهم فى غذائي الجسد والقلب يغتذون الحرام، بخلاف من يأكل الحلال ولا يقبل إلا الصدق، وفيه ذم لمن يروج عليه الكذب ويقبله، أو يؤثره لموافقته هواه ويدخل فيه قبول المذاهب الفاسدة؛ لأنها كذب، لاسيما إذا اقترن بذلك قبولها لأجل العوض عليها، سواء كان العوض من ذي سلطان أو وقف أو فتوح أو هدية أو أجرة أو غير ذلك، وهو شبيه بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ٌ‏}‏‏[‏التوبة‏:‏34‏]‏‏.‏‏.‏‏.‏‏[‏بياض بالأصل‏]‏ أهل البدع وأهل الفجور الذين يصدقون بما كذب به على اللّه ورسوله وأحكامه، والذين يطيعون الخلق فى معصية الخالق‏.‏
    ومثله‏:‏‏{‏هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏221 - 223‏]‏، فإنما تنزلت بالسمع الذي يخلط فيه بكلمة الصدق ألف كلمة من الكذب على مـن هـو كذاب فاجر، فيكون سماعـا للكـذب مـن مسترقة السمع‏.‏
    ثم قال فى السورة‏:‏ ‏{‏لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 63‏]‏، فقول الإثم وسماع الكذب وأكل السحت أعمال متلازمة فى العادة، وللحكام منها خصوص،فإن الحاكم إذا ارتشى سمع الشهادة المزورة، والدعوى الفاجرة، فصار سماعا للكذب أكالا للسحت، قائلا للإثم‏.‏
    ولهذا خير نبيه صلى الله عليه وسلم بين الحكم بينهم وبين تركه؛ لأنه ليس قصدهم قبول الحق وسماعه مطلقاً؛ بل يسمعون ما وافق أهواءهم وإن كان كذبا، وكذلك العلماء الذين يتقولون الروايات المكذوبة‏.‏

    وَقَال شَيْخ الإسْلاَم ـ رَحمه اللّه تَعالى‏:‏
    هذه تفسير آيات أشكلت حتى لا يوجد فى طائفة من كتب التفسير إلا ما هو خطأ‏.‏
    منها قوله‏:‏ ‏{‏وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏60‏]‏، والصواب عطفه على قوله‏:‏ ‏{‏مَن لَّعَنَهُ اللّهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 60‏]‏، فعل ماض معطوف على ما قبله من الأفعال الماضية، لكن المتقدمة الفاعل الله، مظهراً أو مضمراً، وهذا الفعل اسم من عبد الطاغوت وهو الضمير فى عبد، ولم يعد حرف ‏(‏من‏)‏ لأن هذه الأفعال لصنف واحد وهم اليهود‏.‏
    وَقَال شَيْخ الإسْلاَم ـ رَحمه اللّه ‏:‏
    فصــل
    قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا‏}‏الآية ‏[‏المائدة‏:‏ 87، 88‏]‏‏.‏
    ومن المشهور ـ فى التفسير ـ أنها نزلت بسبب جماعة من الصحابة، كانوا قد عزموا على الترهب، وفى الصحيحين عن أنس‏:‏ أن رجالا سألوا أزواج النبى صلى الله عليه وسلم، عن عبادته فى السر، فَتَقَالُّوا ذلك، وذكر الحديث‏.‏
    وفي الصحيحين عن سعد قال‏:‏ رد النبى صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاخْتَصَيْنَا‏.‏ وعن عكرمة أن علي بن أبى طالب وابن مسعود وعثمان بن مظعون والمقداد وسالما ـ مولى أبي حذيفة ـ فى أصحاب لهم تبتلوا، فجلسوا فى البيوت‏.‏ واعتزلوا النساء، ولبسوا المسوح، وحرموا الطيبات من الطعام واللباس، إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل وهموا بالاختصاء، وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار، فنزلت هذه الآية‏.‏ وكذلك ذكر سائر المفسرين ما يشبه هذا المعنى‏.‏
    وقد ذم اللّه الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وذم الذين يتبعون الشهوات، والذين يريدون أن يميلوا ميلا عظيما، ويريدون ميل المؤمنين ميلا عظيما، وذم الذين اتبعوا ما أتْرِفُوا فيه، والذين يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام‏.‏
    وأكثر الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات شربة الخمر، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏91‏]‏، فجمعوا بين الشهوة المحرمة، وترك ذكر اللّه، وإضاعة الصلاة، وكذلك غيرهم من أهل الشهوات‏.‏
    ثم نهى ـ سبحانه ـ عن تحريم ما أحل من الطيبات، وعن الاعتداء فى تناولها، وهو مجاوزة الحد، وقد فسر الاعتداء فى الزهد والعبادة بأن يحرموا الحلال ويفعلوا من العبادة ما يضرهم، فيكونوا قد تجاوزوا الحد وأسرفوا‏.‏ وقيل‏:‏ لا يحملنكم أكل الطيبات على الإسراف وتناول الحرام من أموال الناس، فإن آكل الطيبات والشهوات المعتدى فيها لابد أن يقع فى الحرام؛ لأجل الإسراف فى ذلك‏.‏
    والمقصود بالزهد‏:‏ ترك ما يضر العبد فى الآخرة، وبالعبادة‏:‏ فعل ما ينفع فى الآخرة فإذا ترك الإنسان ما ينفعه فى دينه وينفعه فى آخرته وفعل من العبادة ما يضر فقد اعتدى وأسرف، وإن ظن ذلك زهداً نافعاً وعبادة نافعة‏.‏
    قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والنَّخَعِي‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَعْتَدُواْ‏}‏ أي‏:‏ لا تَجُبُّوا ‏[‏أى‏:‏ لاتقطعوا‏.‏ نهى عن الاختصاء‏.‏ انظر‏:‏ لسان العرب، مادة‏:‏ جبب‏]‏ أنفسكم‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ لا تسيروا بغير سيرة المسلمين؛ من ترك النساء، ودوام الصيام والقيام‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ لا تحرموا الحلال، وعن الحسن لا تأتوا ما نهى الله عنه، وهذا ما أريد به لا تحرموا الحلال ولا تفعلوا الحرام، فيكون قد نهى عن النوعين، لكن سبب نزول الآية وسياقها يدل على قول الجمهور، وقد يقال‏:‏ هذا مثل قوله‏:‏ ‏{‏وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏31‏]‏، وقوله فى تمام الآية‏:‏ ‏{‏وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيِّبًا‏}‏ الآية ‏[‏ المائدة‏:‏ 88‏]‏‏.‏
    وكذلك الأحاديث الصحيحة، كقول أحدهم‏:‏ لا أتزوج النساء وقول الآخر‏:‏ لا آكل اللحم ـ كما في حديث أنس المتقدم ـ وهذا مما يدل على أن صوم الدهر مكروه، وكذلك مداومة قيام الليل‏.‏

    فصــل
    وهذا الذي جاءت به شريعة الإسلام هو الصراط المستقيم، وهو الذي يصلح به دين الإنسان، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أعدل الصيام صيام داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً‏)‏، وفي رواية صحيحة‏:‏ ‏(‏أفضل‏)‏ والأفضل هو الأعدل الأقوم ‏.‏ وهذا القرآن يهدي للتى هي أقوم، وهي وسط بين هذين الصنفين؛ أصحاب البدع وأصحاب الفجور أهل الإسراف والتقشف الزائد‏.‏
    ولهذا كان السلف يحذرون من هذين الصنفين‏.‏ قال الحسن‏:‏ هو المبتدع في دينه والفاجر فى دنياه، وكانوا يقولون‏:‏ احذروا صاحب الدنيا أغوته دنياه، وصاحب هوى متبع لهواه،وكانوا يأمرون بمجانبة أهل البدع والفجور‏.‏
    فالقسم الأول‏:‏ أهل الفجور، وهم المترفون المنعمون، أوقعهم فى الفجور ما هم فيه‏.‏
    والقسم الثانى‏:‏ المترهبون، أوقعهم فى البدع غلوهم وتشديدهم، هؤلاء استمتعوا بخلاقهم، وهؤلاء خاضوا كما خاض الذين من قبلهم، وذلك أن الذين يتبعون الشهوات المنهى عنها أو يسرفون فى المباحات ويتركون الصلوات والعبادات المأمور بها يستحوذ عليهم الشيطان والهوى فينسيهم اللّه والدار الآخرة، ويفسد حالهم، كما هو مشاهد كثيراً منهم‏.‏
    والذين يحرمون ما أحل اللّه من الطيبات ـ وإن كانوا يقولون‏:‏ إن الله لم يحرم هذا، بل يلتزمون ألا يفعلوه، إما بالنذر وإما باليمين، كما حرم كثير من العباد والزهاد أشياء ـ يقول أحدهم‏:‏ للّه على ألا آكل طعاماً بالنهار أبداً، ويعاهد أحدهم ألا يأكل الشهوة الملائمة، ويلتزم ذلك بقصده وعزمه، وإن لم يحلف ولم ينذر، فهذا يلتزم ألا يشرب الماء، وهذا يلتزم ألا يأكل الخبز، وهذا يلتزم ألا يشرب الفقاع، وهذا يلتزم ألا يتكلم قط، وهذا يجب نفسه، وهذا يلتزم ألا ينكح ولا يذبح‏.‏ وأنواع هذه الأشياء من الرهبانية التى ابتدعوها على سبيل مجاهدة النفس، وقهر الهوى والشهوة‏.‏
    ولا ريب أن مجاهدة النفس مأمور بها، وكذلك قهر الهوى والشهوة، كما ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏المجاهد من جاهد نفسه فى ذات الله، والكَيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتْبَعَ نفسه هواها، وتَمَنى على اللّه‏)‏، لكن المسلم المتبع لشريعة الإسلام هو المحرم ما حرمه اللّه ورسوله، فلا يحرم الحلال ولا يسرف فى تناوله، بل يتناول ما يحتاج إليه من طعام أو لباس أو نكاح، ويقتصد فى ذلك، ويقتصد فى العبادة، فلا يحمل نفسه ما لا تطيق‏.‏
    فهذا تجده يحصل له من مجاهدات النفس وقهر الهوى ما هو أنفع له من تلك الطريق المبتدعة الوعرة القليلة المنفعة، التى غالب من سلكها ارتد على حافره، ونقض عهده، ولم يرعها حق رعايتها‏.‏ وهذا يثاب على ذلك ما لا يثاب على سلوك تلك الطريق، وتزكو به نفسه، وتسير به إلى ربه، ويجد بذلك من المزيد فى إيمانه ما لا يجده أصحاب تلك الطريق؛ فإنهم لابد أن تدعوهم أنفسهم إلى الشهوات المحرمة؛ فإنه ما من بنى آدم إلا من أخطأ أو هَمَّ بخطيئة إلا يحيى بن زكريا، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 28‏]‏‏.‏
    قال طاوس فى أمر النساء وقلة صبره عنهن ـ كما تقدم‏.‏ فميل النفس إلى النساء عام فى طبع جميع بنى آدم، وقد يبتلى كثير منهم بالميل إلى الذكران، كما هو المذكور عنهم، فيبتلى بالميل إلى المردان، وإن لم يفعل الفاحشة الكبرى ابتلى بما هو دون ذلك من المباشرة والمشاهدة، ولا يكاد أن يسلم أحدهم من الفاحشة، إما فى سره وإما بينه وبين الأمرد، ويحصل للنفس من ذلك ما هو معروف عند الناس‏.‏
    وقد ذكر الناس من أخبار العشاق ما يطول وصفه، فإذا ابتلى المسلم ببعض ذلك كان عليه أن يجاهد نفسه فى الله، وهو مأمور بهذا الجهاد ليس أمراً أوجبه وحرمه هو على نفسه، فيكون فى طاعة نفسه وهواه، بل هو أمر حرمه الله ورسوله ولا حيلة فيه، فيصير بالمجاهدة في طاعة اللّه ورسوله‏.‏
    وفى حديث رواه أبو يحيى القتات عن مجاهد، عن ابن عباس ـ مرفرعًا ـ‏:‏‏(‏من عَشِق فَعفَّ وكَتَم وصبر ثم مات فهو شهيد‏)‏، وأبو يحيى فى حديثه نظر؛ لكن المعنى الذى ذكره دل عليه الكتاب والسنة؛ فإن الله أمر بالتقوى والصبر، فمن التقوى أن يعف عن كل ما حرمه الله من نظر بعين، ومن لفظ بلسان، ومن حركة بيد ورجل، ومن الصبر أن يصبر عن شكوي ما به إلى غير الله عز وجل؛ فإن هذا هو الصبر الجميل‏.‏
    وأما الكتمان فيراد به شيئان‏:‏
    أحدهما‏:‏ أن يكتم بَثَّه ‏[‏أى‏:‏ حزنه الشديد‏.‏ انظر‏:‏ القاموس، مادة‏:‏ بثث‏]‏ وألمه، فلا يشكو إلى غير الله، فمتى شكا إلى غير اللّه نقص صبره، وهذا أعلى الكتمانين، لكن هذا لا يقدر عليه كل أحد، بل كثير من الناس يشكو ما به، وهذا على وجهين‏:‏
    فإن شكا ذلك إلى طبيب، يعرف طب الأديان، ومضرات النفوس ومنافعها؛ ليعالج نفسه بعلاج الإيمان، فهذا بمنزلة المستفتى، وهذا حسن‏.‏ وإن شكا إلى من يعينه على المحرم فهذا حرام‏.‏
    وإن شكا إلى غيره لما في الشكوى من الراحة، كما يشكو من الراحة، كما يشكو المصاب مصيبته إلى الناس من غير أن يقصد،تعلم ما ينفعه ولا الاستعانة على مصيبته، فهذا ينقص صبره، لكن لا يأثم مطلقاً، إلا إذا اقترن به ما يحرم، كالمصاب الذى يتسخط‏.‏
    والثانى‏:‏ أن يكتم ذلك فلا يتحدث به مع الناس؛ لما فى ذلك من إظهار السوء والفاحشة؛فإن النفوس إذا سمعت مثل هذا تحركت، وتَشَهَّتْ وتَمَنَّتْ وتَتَيَّمَتْ ‏[‏أى‏:‏ عشقت وأحبّتْ‏.‏ انظر‏:‏ القاموس، مادة‏:‏ تيم‏]‏‏.‏والإنسان متى رأى أو سمع أو تخيل من يفعل ما يشتهيه كان ذلك داعياً له إلى الفعل والتشبه به، والنساء متى رأين البهائم تَنْزُو ‏[‏أى‏:‏ تثب وتعلو‏.‏ انظر‏:‏ القاموس، مادة‏:‏ نزا‏]‏ الذكور منها على الإناث ملن إلى الباءة والمجامعة، والرجل إذا سمع من يفعل مع المردان والنساء ورأى ذلك أو تخيله فى نفسه دعاه ذلك إلى الفعل، وإذا ذكر للإنسان طعام اشتهاه ومال إليه، وإن وصف له ما يشتهيه من لباس أو امرأة أو مسكن أو غيره مالت نفسه إليه، والغريب عن وطنه متى ذكر بالوطن حَنَّّ إليه، وكل ما فى نفس الإنسان محبته إذا تصوره تحركت المحبة والطلب إلى ذلك المحبوب المطلوب؛ إما إلى وصفه، وإما إلى مشاهدته، وكلاهما يحصل به تخيل فى النفس، وقد يحصل التخيل بالسماع أو الرؤية أو الفكر فى بعض الأمور المتعلقة به، فإذا تخيلت النفس تلك الأمور المتعلقة انقلبت إلى ما تخيلته فتحركت داعية المحبة سواء كانت محبة محمودة أو مذمومة‏.‏
    ولهذا تتحرك النفوس إلى الحج إذا ذكر الحجاز، أو كان أوان الحج، أو رأى من يذهب إلى الحج من أهله وأقاربه، أو أصحابه أو غيرهم، ولو لم يسمع ذلك ويراه لما تحرك ولا حدث منه داعية قوته إلى ذلك، فتتحرك بذكر الأبْرَق والأجْرَع والعُلىَ ونحو ذلك؛ لأنه رأى تلك المنازل لما كان ذاهباً إلى محبوبه، فصار ذكرها يذكره بالمحبوب‏.‏
    وكذلك أصحاب المتاجر والأموال، إذا سمع أحدهم بالمكاسب تحركت داعيته إلى ذلك، وكذلك أهل الفرج والتنزه، إذا رأوا من يقصد ذلك تحركوا إليه، وهذه الدواعي كلها مركوزة في نفوس بنى آدم، والإنسان ظلوم جهول‏.‏
    وكذلك ذِكْر آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم تُذَكٍّر به وتحرك محبته، فالمبتلى بالفاحشة والعشق إذا ذكر ما به لغيره تحركت نفس ذلك الغير إلى جنس ذلك؛ لأن النفوس مجبولة على حب الصور الجميلة؛ فإذا تصورت جنساً تحرك إليها المحبوب‏.‏
    ولهذا نهي الله ـ تعالى ـ عن إشاعة الفاحشة، وكذلك أمر بستر الفواحش، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏من ابتلى من هذه القاذورات بشيء فليستتر ‏[‏فى المطبوعة‏:‏ فاليستتر ـ وهو خطأ‏]‏ بستر اللّه؛ فإنه من يُبَدِ لنا صَفْحَتَه نُقِمْ عليه كتاب الله‏)‏، وقال‏:‏‏(‏كل أمتى مُعَافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يبيت الرجل على الذنب قد ستره الله فيصبح يتحدث به‏)‏، فما دام الذنب مستوراً فعقوبته على صاحبه خاصة، وإذا ظهر ولم ينكر كان ضرره عاماً، فكيف إذا كان في ظهوره تحريك لغيره إليه‏.‏
    ولهذا كره الإمام أحمد وغيره إنشاد الأشعار ـ الغزل الرقيق ـ لأنه يحرك النفوس إلى الفواحش؛ فلهذا أمر من يبتلى بالعشق أن يعف ويكتم ويصبر، فيكون حينئذ ممن قال الله فيه‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏90‏]‏‏.‏
    والمقصود أنه يثاب على هذه المجاهدة، والمجاهد من جاهد نفسه في اللّه، وأما المبتدعون فى الزهد والعبادة، السالكون طريق الرهبان، فإنهم قد يزهدون فى النكاح، وفضول الطعام، والمال ونحو ذلك‏.‏ وهذا محمود، لكن عامة هؤلاء لابد أن يقعوا فى ذنوب من هذا الجنس، كما نجد كثيراً منهم يبتلى بصحبة الأحداث، وإرفاق النساء؛ فيبتلون بالميل إلى الصور المحرمة من النساء والصبيان ما لا يبتلى به أهل السنة المتبعون للشريعة المحمدية‏.‏
    وحكايتهم في هذا أكثر من أن يحكى بسطها فى كتاب، وعندهم من الفواحش الباطنة والظاهرة ما لا يوجد عند غيرهم، وخيار من فيهم يميل إلى الأحداث والغناء والسماع؛ لما يجدون في ذلك من راحة النفوس، ولو اتبعوا السُّنَّة لاستراحوا من ذلك‏.‏
    قال أبو سعيد الخراز لما قال له الشيطان فى المنام‏:‏ لي فيكم لطيفتان‏:‏ السماع وصحبة الأحداث‏.‏ قال أبو سعيد‏:‏ قَلَّ من ينجو منها من أصحابنا، حتى لقوة محبة نفوسهم صار ذلك ممتزجاً بطريقهم إلى الله؛ فإن أحدهم يجد فى نفسه عند مشاهدة الشاهد من الرغبة فيما اعتاده مـن العبادة والزهادة مـا لا يجدها بدون ذلك، وعنده فـي نفسه عند سماع القصائد من الشوق والرغبة والنشاط ما لا يجده عند سماع القرآن، فصاروا في شبهة وشهوة، لم يكتف الشيطان منهم بوقوعهم فى الأمور المحرمة، التى تفتنهم، حتى جعلهم يعتبرون ذلك عبادة، كالذين قـال الله فيهم‏:‏ ‏{‏وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا‏}‏الآية ‏[‏الأعراف‏:‏ 28‏]‏، وهؤلاء الذين أضاعوا الصلاة واتَّبَعُوا الشهوات‏.‏
    وإذا وقعوا فى السماع وقعوا فيه بشوق ورغبة قوية، ومحبة تامة، وبذلوا فيه أنفسهم وأموالهم، فقد يبذلون فيه نساءهم وأبناءهم، ويدخلون في الدياثة لأغراضهم، فيأتي أحدهم بولده فيهبه للشيخ يفعل ما أراد هو ومن يلوذ به، ويسمونه حواراً، وإن كان حسن الصورة استأثر به الشيخ دونهم، ويعد أهله ذلك بركة حصلت له من الشيخ، ويرتفع الحياء بين أم الصبى وأبيه وبين الفقراء‏.‏
    وإذا صَلُّوا صَلُّوا صلاة المنافقين، يقومون إليها وهم كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا، فقد أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، ومع هذا فهم قد يزهدون فى بعض الطيبات التى أحلها الله لهم، ويجتهدون فى عبادات وأذكار، لكن مع بدعة وأفعال لا تجوز، مما تقدم ذكره، فتلك البدعة هي التى أوقعتهم فى اتباع الشهوات، وإضاعة الصلوات؛ لأن الشريعة مثالها مثال سفينة نوح؛ من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، وهؤلاء تخلفوا عنها فغرقوا بحبهم، ويتوب اللّه على من تاب‏.‏
    والسالكون للشريعة المحمدية، إذا ابتلوا بالذنوب لم تكن التوبة عليهم من الآصار والأغلال، بل من الحنيفية السمحة، وأما أهل البدع فقد تكون التوبة عليهم آصاراً وأغلالا، كما كانت على من قبلنا من الرهبان؛ فإنهم إذا وقع أحدهم في الذنب لم يخلص من شره إلا ببلاء شديد، من أجل خروجه عن السنة‏.‏
    وهؤلاء قد يظن أحدهم أنه لا يمكنه السلوك إلى اللّه ـ تعالى ـ إلا ببدعة‏.‏
    وكذلك أهل الفجور المترفين، قد يظن أحدهم أنه لا يمكنه فعل الواجبات إلا بما يفعله من الذنوب، ولا يمكنه ترك المحرمات إلا بذلك، وهذا يقع لبشر كثير من الناس‏.‏
    منهم من يقول‏:‏إنه لا يمكن أداء الصلوات واجتناب الكلام المحرم ـ من الغيبة وغيرها ـ إلا بأكل الحشيشة‏.‏
    ويقول الآخر‏:‏ إنّ أكْلَها يعينه على استنباط العلوم وتصفية الذهن، حتى يسميها بعضهم معدن الفكر والذكر، ومحركة العزم الساكن، وكل هذا من خدع النفس ومكر الشيطان بهؤلاء وغيرهم، وإنها لعمى الذهن، ويصير آكلها أبكم مجنوناً لا يَعِي ما يقول‏.‏
    وكذلك في هؤلاء من يقول‏:‏إن محبته لله ورغبته فى العبادة، وحركته ووجده وشوقه وغير ذلك لا يتم إلا بسماع القصائد، ومعاشرة الشاهد من الصبيان وغيرهم، وسماع الأصوات والنغمات، ويزعمون أنهم بسماع هذه الأصوات ورؤية الصور المحركات تتحرك عندهم من دواعي الزهد والعبادة ما لا تتحرك بدون ذلك، وأنهم بدون ذلك قد يتركون الصلوات، ويفعلون المحرمات الكبار، كقطع الطريق، وقتل النفوس، ويظنون أنهم بهذا ترتاض نفوسهم، وتلتذ بذلك لذة تصدها عن ارتكاب المحارم والكبائر، وتحملها على الصلاة والصوم والحج‏.‏
    وهذا مستند كثير من الشيوخ الذين يدعون الناس إلى طريقهم بالسماع المبتدع على اختلاف ألوانه وأنواعه، منهم من يدعو إليه بالدف والرقص، ومنهم من يضيف إلى ذلك الشبابات، ومنهم من يعمله بالنساء والصبيان، ومنهم من يعمله بالدف والكف، ومنهم من يعمله بأذكار واجتماع، وتسبيحات وقيام، وإنشاد أشعار، وغير ذلك من سائر أنواعه وألوانه‏.‏
    وربما ضموا إليه من معاشرة النساء والمردان ونحو ذلك، ويقولون‏:‏ هؤلاء الذين تَوَّبْنَاهم وقد كانوا لا يصلون، ولا يحجون، ولا يصومون، بل كانوا يقطعون الطريق، ويقتلون النفس، ويزنون، فتوبناهم عن ذلك بهذا السماع‏.‏ وما أمكن أحدهم استتابتهم بغير هذا‏.‏
    وقد يعترفون أن ما فعلوه بدعة منهي عنها أو محرمة، ولكن يقولون‏:‏ ما أمكننا إلا هذا، وإن لم نفعل هذا القليل من المحرم حصل الوقوع فيما هو أشد منه تحريماً، وفى ترك الواجبات ما يزيد إثمه على إثم هذا المحرم القليل فى جنب ما كانوا فيه من المحرم الكثير‏.‏
    ويقولون‏:‏ إن الإنسان يجد في نفسه نشاطاً وقوة في كثير من الطاعات إذا حصل له ما يحبه، وإن كان مكروهاً حراماً، وأما بدون ذلك فلا يجد شيئاً، ولا يفعله‏.‏ وهو أيضاً يمتنع عن المحرمات، إذا عوض بما يحبه وإن كان مكروهاً، وإلا لم يمتنع، وهذه الشبهة واقعة لكثير من الناس، وجوابها مبنى على ثلاث مقامات‏:‏
    أحدها‏:‏ أن المحرمات قسمان‏:‏
    أحدهما‏:‏ما يقطع بأن الشرع لم يبح منه شيئاً لا لضرورة ولا لغير ضرورة؛ كالشرك، والفواحش، والقول على اللّه بغير علم، والظلم المحض، وهى الأربعة المذكورة فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏33‏]‏‏.‏
    فهذه الأشياء محرمة فى جميع الشرائع، وبتحريمها بعث الله جميع الرسل، ولم يبح منها شيئاً قط، ولا فى حال من الأحوال؛ ولهذا أنزلت في هذه السورة المكية، ونفى التحريم عما سواها؛ فإنما حرمه بعدها كالدم والميتة ولحم الخنزير، حرمه فى حال دون حال، وليس تحريمه مطلقاً‏.‏
    وكذلك الخمر، يباح لدفع الغُصَّة بالاتفاق، ويباح لدفع العطش في أحد قولي العلماء، ومن لم يبحها قال‏:‏ إنها لا تدفع العطش، وهذا مأخذ أحمد‏.‏ فحينئذ، فالأمر موقوف على دفع العطش بها؛ فإن علم أنها تدفعه أبيحت بلا ريب، كما يباح لحم الخنزير لدفع المجاعة، وضرورة العطش الذي يرى أنه يهلكه أعظم من ضرورة الجوع؛ ولهذا يباح شرب النجاسات عند العطش بلا نزاع؛ فإن اندفع العطش وإلا فلا إباحة فى شيء من ذلك‏.‏
    وكذلك الميسر، فإن الشارع أباح السبق فيه بمعنى الميسر للحاجة فى مصلحة الجهاد‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنه ليس منه، وهو قول من لم يبح العوض من الجانبين مطلقاً إلا المحلل‏.‏ ولا ريب أن الميسر أخف من أمر الخمر، وإذا أبيحت الخمر للحاجة فالميسر أولى‏.‏ والميسر لم يحرم لذاته إلا لأنه يصد عن ذكر اللّه وعن الصلاة، ويوقع العداوة والبغضاء، فإذا كان فيه تعاون على الرمي الذي هو من جنس الصلاة، وعلى الجهاد الذي فيه تعاون، وتتألف به القلوب على الجهاد، زالت هذه المفسدة‏.‏
    وكذلك بيع الغرر، هو من جنس الميسر، ويباح منه أنواع عند الحاجة ورجحان المصلحة‏.‏
    وكذلك الربا، حرم لما فيه من الظلم، وأوجب ألا يباع الشيء إلا بمثله، ثم أبيح بيعه بجنسه خرصاً عند الحاجة، بخلاف غيرها من المحرمات؛ فإنها تحرم فى حال دون حال؛ ولهذا - والله أعلم - نفي التحريم عما سواها، وهو التحريم المطلق العام؛ فإن المنفي من جنس المثبت، فلما أثبت فيها التحريم العام المطلق نفاه عما سواها‏.‏
    المقام الثاني‏:‏ أن يفرق بين ما يفعل فى الإنسان، ويأمر به ويبيحه، وبين ما يسكت عن نهي غيره عنه وتحريمه عليه، فإذا كان من المحرمات ما لو نهى عنه حصل ما هو أشد تحريماً منه لم ينه عنه، ولم يبحه أيضاً‏.‏
    ولهذا لا يجوز إنكار المنكر بما هو أنكر منه؛ ولهذا حرم الخروج على ولاة الأمر بالسيف؛ لأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن ما يحصل بذلك من فعل المحرمات، وترك واجب أعظم مما يحصل بفعلهم المنكر والذنوب، وإذا كان قوم على بدعة أو فجور، ولو نهوا عن ذلك وقع بسبب ذلك شر أعظم مما هم عليه من ذلك، ولم يمكن منعهم منه، ولم يحصل بالنهي مصلحة راجحة لم ينهوا عنه‏.‏
    بخلاف ما أمر اللّه به الأنبياء وأتباعهم من دعوة الخلق؛ فإن دعوتهم يحصل بها مصلحة راجحة على مفسدتها، كدعوة موسى لفرعون، ونوح لقومه، فإنه حصل لموسى من الجهاد وطاعة الله، وحصل لقومه من الصبر والاستعانة باللّه ما كانت عاقبتهم به حميدة، وحصل ـ أيضاً ـ من تفريق فرعون وقومه ما كانت مصلحته عظيمة‏.‏
    وكذلك نوح حصل له ما أوجب أن يكون ذريته هم الباقين، وأهلك اللّه قومه أجمعين، فكان هلاكهم مصلحة‏.‏
    فالنهي عنه إذا زاد شره بالنهي، وكان النهي مصلحة راجحة كان حسناً، وأما إذا زاد شره وعظم وليس فى مقابلته خير يفوته لم يشرع، إلا أن يكون فى مقابلته مصلحة زائدة؛ فإن أدى ذلك إلى شر أعظم منه لم يشرع، مثل أن يكون الآمر لا صبر له، فيؤذى فيجزع جزعا شديداً يصير به مذنباً، وينتقص به إيمانه ودينه‏.‏
    فهذا لم يحصل به خير لا له ولا لأولئك، بخلاف ما إذا صبر واتقى اللّه وجاهد، ولم يتعد حدود اللّه، بل استعمل التقوى والصبر؛ فإن هذا تكون عاقبته حميدة‏.‏
    وأولئك قد يتوبون فيتوب الله عليهم ببركته، وقد يهلكهم ببغيهم ويكون ذلك مصلحة، كما قال تعالى‏:‏‏{‏فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 54‏]‏‏.‏
    وأما الإنسان فى نفسه فلا يحل له أن يفعل، الذي يعلم أنه محرم لظنه أنه يعينه على طاعة الله؛ فإن هذا لا يكون إلا مفسدة، أو مفسدته راجحة على مصلحته،وقد تنقلب تلك الطاعة مفسدة؛ فإن الشارع حكيم، فلو علم أن فى ذلك مصلحة لم يحرمه، لكن قد يفعل الإنسان المحرم ثم يتوب، وتكون مصلحته أنه يتوب منه، ويحصل له بالتوبة خشوع ورقة، وإنابة إلى اللّه ـ تعالى ـ فإن الذنوب قد يكون فيها مصلحة مع التوبة منها، فإن الإنسان قد يحصل له ‏[‏بعدم‏]‏ الذنوب كبر وعجب وقسوة، فإذا وقع فى ذنب أذله ذلك وكسر قلبه، ولين قلبه بما يحصل له من التوبة‏.‏
    ولهذا قال سعيد بن جبير‏:‏ إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار، ويفعل السيئة فيدخل بها الجنة‏.‏ وهذا هو الحكمة فى ابتلاء من ابتلى بالذنوب من الأنبياء والصالحين، وأما بدون التوبة فلا يكون المحرم إلا مفسدته راجحة، فليس للإنسان أن يعتقد حـل مـا يعلم أن اللّه حرمه قطعاً، وليس له أن يفعله قطعاً، فإن غلبته نفسه وشيطانه فوقع فيه تاب منه، فإن تاب فصار بالتوبة خيراً مما كان قبله، فهذا من رحمة اللّه به حين تاب عليه، وإلا فلو لم يتب لفسد حاله بالذنب، وليس له أن يقول‏:‏ أنا أفعل ثم أتوب، ولا يبيح الشارع له ذلك، لأنه بمنزلة من يقول‏:‏ أنا أطعم نفسي ما يمرضني ثم أتداوى، أو آكل السم ثم أشرب التِّرْيَاق ‏[‏هو دواء مركب ‏.‏ انظر‏:‏ القاموس، مادة‏:‏ ترق‏]‏‏.‏
    والشارع حكيم؛ فإنه لا يدري هل يتمكن من التوبة أم لا‏؟‏ وهل يحصل الدواء بالترياق وغيره أم لا‏؟‏ وهل يتمكن من الشرب أم لا‏؟‏ لكن لو وقع هذا وكانت آخرته إلى التوبة النصوح كان الله قد أحسن إليه بالتوبة، وبالعفو عما سلف من ذنوبه، وقد يكون مثل هذا ليس صلاحه إلا فى أن يذنب ويتوب، ولو لم يفعل ذلك كان شراً منه لو لم يذنب ويتوب؛ لكن هذا أمر يتعلق بخلق الله وقدره وحكمته، لا يمكن أحد أن يأمر به الإنسان؛ لأنه لا يدري أن ذلك خير له، وليس ما يفعله خلقاً ـ لعلمه وحكمته ـ يجوز للرسل وللعباد أن يفعلوه، ويأمروا به‏.‏
    وقصة الخِضْر مع موسى لم تكن مخالفة لشرع اللّه وأمره، ولا فعل الخضر ما فعله لكونه مقدراً كما يظنه بعض الناس، بل ما فعله الخضر هو مأمور به فى الشرع، بشرط أن يعلم من مصلحته ما علمه الخضر؛ فإنه لم يفعل محرماً مطلقاً، ولكن خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار؛ فإن إتلاف بعض المال لصلاح أكثره هو أمر مشروع دائما، وكذلك قتل الإنسان الصائل ‏[‏هو الذى يقتل الناس، ويعدو عليهم‏.‏ انظر‏:‏ القاموس، مادة‏:‏ صؤل‏]‏ لحفظ دين غيره أمر مشروع، وصبر الإنسان على الجوع مع إحسانه إلى غيره أمر مشروع‏.‏
    فهذه القضية تدل على أنه يكون من الأمور ما ظاهره فساد، فيحرمه من لم يعرف الحكمة التى لأجلها فعل، وهو مباح فى الشرع باطناً وظاهراً لمن علم ما فيه من الحكمة التى توجب حسنه وإباحته‏.‏
    وهذا لا يجىء فى الأنواع الأربعة؛ فإن الشرك والقول على الله بلا علم، والفواحش ما ظهر منها وما بطن، والظلم، لا يكون فيها شىء من المصلحة، وقتل النفس، أبيح فى حال دون حال، فليس من الأربعة‏.‏ كذلك إتلاف المال يباح فى حال دون حال، وكذلك الصبر على المجاعة؛ ولذلك قال‏:‏ ‏{‏قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏29‏]‏‏.‏
    فإخلاص الدين له والعدل واجب مطلقاً فى كل حال، وفى كل شرع،فعلى العبد أن يعبد اللّه مخلصاً له الدين، ويدعوه مخلصاً له، لا يسقط هذا عنه بحال، ولا يدخل الجنة إلا أهل التوحيد، وهم أهل ‏(‏لا إله إلا الله‏)‏‏.‏
    فهذا حق الله على كل عبد من عباده، كما فى الصحيحين من حديث معاذ أن النبى صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ ‏(‏يا معاذ، أتدرى ما حق الله على عباده‏؟‏‏)‏ قلت‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏حقه عليهم أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا‏)‏ الحديث‏.‏
    فلا ينجون من عذاب اللّه إلا من أخلص للّه دينه وعبادته، ودعاه مخلصًا له الدين، ومن لم يشرك به ولم يعبده فهو معطل عن عبادته وعبادة غيره؛ كفرعون وأمثاله، فهو أسوأ حالا من المشرك، فلابد من عبادة الله وحده، وهذا واجب على كل أحد، فلا يسقط عن أحد البتة، وهو الإسلام العام الذى لا يقبل الله دينا غيره‏.‏
    ولكن لا يعذب الله أحداً حتى يبعث إليه رسولا، وكما أنه لا يعذبه فلا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة مؤمنة، ولا يدخلها مشرك ولا مستكبر عن عبادة ربه، فمن لم تبلغه الدعوة فى الدنيا امتحن فى الآخرة، ولا يدخل النار إلا من اتبع الشيطان، فمن لا ذنب له لا يدخل النار، ولا يعذب اللّه بالنار أحداً إلا بعد أن يبعث إليه رسولا، فمن لم تبلغه دعوة رسول إليه كالصغير والمجنون، والميت في الفترة المحضة، فهذا يمتحن في الآخرة كما جاءت بذلك الآثار‏.‏
    فيجب الفرق في الواجبات والمحرمات ـ والتمييز بينهما هو اللازم لكل أحد على كل حال، وهو العدل فى حق الله وحق عباده بأن يعبدوا الله مخلصا له الدين، ولا يظلم الناس شيئاً، وما هو محرم على كل أحد فى كل حال لا يباح منه شىء، وهو الفواحش والظلم والشرك، والقول على الله بلا علم ــ وبين ما سوى ذلك‏.‏
    قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏، فهذا محرم مطلقاً لا يجوز منه شىء، ‏{‏وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا‏}‏، فهذا فيه تقييد؛ فإن الوالد إذا دعا الولد إلى الشرك ليس لـه أن يطيعه بل لـه أن يأمره وينهاه، وهـذا الأمر والنهى للوالد هو من الإحسان إليه، وإذا كان مشركا جاز للولد قتله، وفي كراهته نزاع بين العلماء‏.‏
    قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ‏}‏ فهذا تحريم خاص،‏{‏وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ‏}‏ ‏[‏الأنعا م‏:‏ 151‏]‏، هذا مطلق، ‏{‏وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏152‏]‏ هذا مقيد؛ فإن يتامى المشركين أهل الحرب يجوز غنيمة أموالهم، لكن قد يقال‏:‏ هذا أخذ وقربان بالتى هى أحسن، إذا فسر الأحسن بأمر الله ورسوله، ‏{‏وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏152‏]‏، هذا مقيد بمن يستحق ذلك ‏{‏وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏152‏]‏، هذا مطلق‏.‏
    ‏{‏وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏152‏]‏، فالوفاء واجب، لكن يميز بين عهد الله وغيره، ويفرق بين ما يسكت عنه الإنسان وبين ما يلفظ به، ويفعله ويأمر به، ويفرق بين ما قدره اللّه، فحصل بسببه خير، وبين ما يؤمر به العبد، فيحصل بسببه خير‏.‏
    وقَال شَيخ الإسْلام ـ رَحمه اللّه ‏:‏
    فصــل
    قوله ـ تعالى علواً كبيراً‏:‏ ‏{‏عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 105‏]‏، لا يقتضى ترك الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، لا نهياً ولا إذناً، كما في الحديث المشهور فى السنن عن أبى بكر الصديق ـ رضى اللّه عنه ـ أنه خطب على منبر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها فى غير موضعها، وإني سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه، أوشك أن يَعُمَّهُم اللّه بعقاب منه‏)‏‏.‏
    وكذلك فى حديث أبى ثعلبة الخشنى ـ مرفوعا ـ في تأويلها‏:‏ ‏(‏إذا رأيت شُحّا مُطاعا، وهَوًى متبعًا، وإعجاب كل ذى رأى برأيه، فعليك بخويْصة نفسك‏)‏‏.‏ وهذا يفسره حديث أبى سعيد فى مسلم‏:‏ ‏(‏من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان‏)‏‏.‏ فإذا قوى أهل الفجور حتى لا يبقي لهم إصغاء إلى البر، بل يؤذون الناهي لغلبة الشح والهوى والعجب سقط التغيير باللسان فى هذه الحال، وبقى بالقلب‏.‏
    والشح هو شدة الحرص التى توجب البخل والظلم، وهو منع الخير وكراهته، و‏(‏الهوى المتبع‏)‏ فى إرادة الشر ومحبته و‏(‏الإعجاب بالرأى‏)‏ فى العقل والعلم، فذكر فساد القوى الثلاث التى هي العلم والحب والبغض، كما فى الحديث الآخر‏:‏‏(‏ثلاث مهلكات، شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه‏)‏، وبإزائها الثلاث المنجيات‏:‏ ‏(‏خشية اللّه فى السر والعلانية، والقصد في الفقر والغنى، وكلمة الحق فى الغضب والرضا‏)‏، وهي التى سألها في الحديث الآخر‏:‏‏(‏اللهم إني أسألك خشيتك فى السر والعلانية، وأسألك كلمة الحق فى الغضب والرضا، وأسألك القصد فى الفقر والغنى‏)‏‏.‏
    فخشية اللّه بإزاء اتباع الهوى؛ فإن الخشية تمنع ذلك، كما قال‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏40‏]‏، والقصد فـي الفقـر والغنى بإزاء الشح المطاع، وكلمة الحق فى الغضب والرضا بإزاء إعجاب المرء بنفسه، وما ذكره الصديق ظاهر؛ فإن اللّه تعالى قال‏:‏ ‏{‏عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ الزموها وأقبلوا عليها، ومن مصالح النفس فعل ما أمرت به من الأمر والنهي، وقال‏:‏ ‏{‏لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ‏}‏ وإنما يتم الاهتداء إذا أطيع الله وأدى الواجب من الأمر النهي وغيرهما، ولكن فى الآية فوائد عظيمة‏:‏
    أحدها‏:‏ ألا يخاف المؤمن من الكفار والمنافقين فإنهم لن يضروه إذا كان مهتديا‏.‏
    الثاني‏:‏ ألا يحزن عليهم ولا يجزع عليهم؛ فإن معاصيهم لا تضره إذا اهتدى، والحزن على ما لا يضر عبث، وهذان المعنيان مذكوران فى قوله‏:‏ ‏{‏وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 127‏]‏‏.‏
    الثالث‏:‏ ألا يركن إليهم، ولا يمد عينه إلى ما أوتوه من السلطان والمال والشهوات، كقوله‏:‏ ‏{‏لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏88‏]‏، فنهاه عن الحزن عليهم والرغبة فيما عندهم فى آية، ونهاه عن الحزن عليهم والرهبة منهم فى آية، فإن الإنسان قد يتألم عليهم ومنهم، إما راغبا وإما راهباً‏.‏
    الرابع‏:‏ ألا يعتدى على أهل المعاصي بزيادة على المشروع فى بغضهم أو ذمهم، أو نهيهم أو هجرهم، أو عقوبتهم، بل يقال لمن اعتدى عليهم‏:‏ عليك نفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت، كما قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏8‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏190‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏193‏]‏، فإن كثيراً من الآمرين الناهين قد يتعدى ‏[‏فى المطبوعة‏:‏يعتدى‏:‏ والصواب ما أثبتناه‏]‏ حدود اللّه، إما بجهل وإما بظلم، وهذا باب يجب التثبت فيه، وسواء في ذلك الإنكار على الكفار والمنافقين والفاسقين والعاصين‏.‏
    الخامس‏:‏ أن يقوم بالأمر والنهي على الوجه المشروع، من العلم والرفق، والصبر، وحسن القصد، وسلوك السبيل القصد؛ فإن ذلك داخل في قوله‏:‏ ‏{‏عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ وفى قوله‏:‏ ‏{‏إِذَا اهْتَدَيْتُمْ‏}‏‏.‏
    فهذه خمسة أوجه تستفاد من الآية لمن هو مأمور بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيها المعنى الآخر، وهو إقبال المرء على مصلحة نفسه علما وعملا، وإعراضه عما لا يعنيه، كما قال صاحب الشريعة‏:‏ ‏(‏من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه‏)‏، ولاسيما كثرة الفضول فيما ليس بالمرء إليه حاجة من أمر دين غيره ودنياه،لاسيما إن كان التكلم لحسد أو رئاسة‏.‏
    وكذلك العمل، فصاحبه إما معتد ظالم، وإما سفيه عابث، وما أكثر ما يصور الشيطان ذلك بصورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل اللّه، ويكون من باب الظلم والعدوان‏.‏
    فَتَأمُّل الآية فى هذه الأمور من أنفع الأشياء للمرء، وأنت إذا تأملت ما يقع من الاختلاف بين هذه الأمة ـ علمائها وعبادها وأمرائها ورؤسائها ـ وجدت أكثره من هذا الضرب الذي هو البغي بتأويل أو بغير تأويل، كما بغت الجهمية على المستنة فى محنة الصفات والقرآن؛ محنة أحمد وغيره، وكما بغت الرافضة على المستنة مرات متعددة، وكما بغت الناصبة عَلَى عِليّ وأهل بيته، وكما قد تبغى المشبهة على المنزهة، وكما قد يبغى بعض المستنة إما على بعضهم وإما على نوع من المبتدعة، بزيادة على ما أمر اللّه به، وهو الإسراف المذكور فى قولهم‏:‏ ‏{‏ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 147‏]‏‏.‏
    وبإزاء هذا العدوان تقصير آخرين فيما أمروا به من الحق، أو فيما أمروا به من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر فى هذه الأمور كلها، فما أحسن ما قال بعض السلف‏:‏ ما أمر الله بأمر إلا اعترض الشيطان فيه بأمرين ـ لا يبالي بأيهما ظفر ـ غلو أو تقصير‏.‏
    فالمعين على الإثم والعدوان بإزائه تارك الإعانة على البر والتقوى، وفاعل المأمور به وزيادة منهى عنها بإزائه تارك المنهى عنه وبعض المأمور به، واللّه يهدينا الصراط المستقيم، ولا حول ولا قوة إلا باللّه‏.‏
    قال شيخ الإِسلام ـ رَحِمهُ اللَّه‏:‏
    فصــل
    الذي يدل عليه القرآن فى سورة المائدة فى آية الشهادة فى قوله‏:‏ ‏{‏فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏106‏]‏ أي‏:‏ بقولنا‏:‏ ‏{‏وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى‏}‏، حذف ضمير كان لظهوره، أي‏:‏ ولو كان المشهود له، كما فى قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى‏}‏‏[‏ الأنعام‏:‏152‏]‏، وكما فـى قـوله‏:‏ ‏{‏كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ‏}‏ إلـى قوله‏:‏ ‏{‏إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏135‏]‏، أي‏:‏ المشهود عليه ونحو ذلك؛ لأن العادة أن الشهادة المزورة يعتاض عليها، وإلا فليس أحد يشهد شهادة مزورة بلا عوض ـ ولو مدح ـ أو اتخاذ يد‏.‏ وآفة الشهادة‏:‏ إما اللَّيُّ، وإما الإعراض؛ الكذب والكتمان، فيحلفان‏:‏ لا نشتري بقولنا ثمناً، أي‏:‏ لا نكذب ولا نكتم شهادة اللّه، أو‏:‏ لا نشتري بعهد اللّه ثمناً؛ لأنهما كانا مؤتمنين، فعليهما عهد بتسليم المال إلى مستحقه؛ فإن الوصية عهد من العهود‏.‏
    وقوله بعد ذلك‏:‏ ‏{‏فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏107‏]‏، أعم من أن يكون في الشهادة أو الأمانة‏.‏ وسبب نزول الآية يقتضي أنه كان في الأمانة؛ فإنهما استشهدا وائتمنا؛ لكن ائتمانهما ليس خارجا عن القياس، بل حكمه ظاهر، فلم يحتج فيه إلى تنزيل، بخلاف استشهادهما، والمعثور على استحقاق الإثم ظهور بعض الوصية عند من اشتراها منهما بعد أن وجد ذكرها في الوصية، وسئلا عنها فأنكراها‏.‏
    وقوله‏:‏ ‏{‏مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ‏}‏ يحتمل أن يكون مضمناً معنى بغى عليهم، وعدى ‏{‏عَلَيْهِمُ‏}‏ كما يقال في الغصب‏:‏ غصبت علي مالي؛ ولهذا قيل‏:‏ ‏{‏لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا‏}‏ أي‏:‏ كما اعتدوا، ثم قوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 108‏]‏‏.‏
    وحديث ابن عباس فـى البخاري صريح فـى أن النبى صلى الله عليه وسلم حكم بمعنى مـا فـى القرآن، فرد اليمين على المدعيين بعد أن استحلف المدعى عليهم لما عثر على أنهما استحقا إثما، وهو إخبار المشترين أنهم اشتروا ‏(‏الجام‏)‏ ‏[‏هو إناء من فضة‏.‏ انظر‏:‏ القاموس، مادة‏:‏ جوم‏]‏ منهما بعد قولهما ما رأيناه، فحلف النبى صلى الله عليه وسلم اثنين من المدعيين الأوليان، وأخذ ‏(‏الجام‏)‏ من المشتري، وسلم إلى المدعي، وبطل البيع، وهذا لا يكون مع إقرارهما بأنهما باعا الجام؛ فإنه لم يكن يحتاج إلى يمين المدعيين لو اعترفا بأنه جام الموصى، وأنهما غصباه وباعاه، بل بقوا على إنكار قبضه مع بيعه، أو ادعوا مع ذلك أنه أوصى لهما به وهذا بعيد‏.‏
    فظاهر الآية أن المدعى عليه المتهم بخيانة ونحوها ـ كما اتهم هؤلاء ـ إذا ظهر كذبه وخيانته كان ذلك لوثا يوجب رجحان جانب المدعي، فيحلف ويأخذ، كما قلنا فى الدماء سواء، والحكمة فيهما واحدة، وذلك أنه لما كانت العادة أن القتل لا يفعل علانية بل سراً، فيتعذر إقامة البينة، ولا يمكن أن يؤخذ بقول المدعي مطلقا، أخذ بقول من يترجح جانبه، فمع عدم اللوث جانب المنكر راجح، أما إذا كان قتل ولوث قوي جانب المدعي فيحلف‏.‏
    وكذلك الخيانة والسرقة يتعذر إقامة البينة عليهما فى العادة، ومن يستحل أن يسرق فقد لا يتورع عن الكذب، فإذا لم يكن لوث فالأصل براءة الذمة، أما إذا ظهر لوث بأن يوجد بعض المسروق عنده فيحلف المدعي ويأخذ، وكذلك لو حلف المدعى عليه ابتداء ثم ظهر بعض المسروق عند من اشتراه أو انتهبه أو أخذه منه؛ فإن هذا اللوث في تغليب الظن أقوى، لكن فى الدم قد يتيقن القتل ويشك فى عين القاتل، فالدعوى إنما هي بالتعيين‏.‏
    وأما فى الأموال، فتارة يتيقن ذهاب المال وقدره، مثل أن يكون معلوما في مكان معروف، وتارة يتيقن ذهاب مال لا قدره، بأن يعلم أنه كان هناك مال وذهب، وتارة يتيقن هتك الحرز ولا يدرى أذهب بشيء أم لا‏؟‏ هذا فى دعوى السرقة، وأما فى دعوى الخيانة فلا تعلم الخيانة، فإذا ظهر بعض المال المتهم به عند المدعي عليه أو من قبضه منه ظهر اللوث بترجيح جانب المدعى، فإن تحليف المدعى عليه حينئذ بعيد‏.‏
    وقول النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏لو يعطى الناس بدعواهم لادَّعَى قوم دماء قوم وأموالهم، ولكن اليمين على المدَّعى عليه‏)‏‏.‏ جمع فيه الدماء والأموال، فكما أن الدماء إذا كان مع المدعى لوث حلف فكذلك الأموال، كما حلفناه مع شاهده، فكل ما يغلب على الظن صدقه فهو بمنزلة شاهده، كما جعلنا فى الدماء الشهادة المزورة لنقص نصابها أو صفاتها لوثا، وكذلك فى الأموال جعل الشاهد مع اليمين، فالشاهد المزور مع لوث وهو ‏.‏‏.‏‏.‏‏[‏بياض بالأصل‏]‏ لكن ينبغي أن تعتبر فى هذا حال المدعى والمدعى عليه فى الصدق والكذب؛ فإن باب السرقة والخيانة لا يفعله إلا فاسق، فإن كان من أهل ذلك لم يكن‏.‏‏.‏‏.‏‏[‏خرم بالأصل‏]‏ إذا لم يكن إلا عدلا، وكذلك المدعى قد يكذب، فاعتبار العدالة والفسق فى هذا يدل عليه قول الأنصاري‏:‏ كيف نرضى بأيمان قوم كفار‏؟‏ فعلم أن المتهم إذا كان فاجرا فللمدعى ألا يرضى بيمينه؛ لأنه من يستحل أن يسرق، يستحل أن يحلف‏.‏
    سُورَة الأنْعَام
    سُئِلَ ـ رَضي اللَّه عَنهُ ـ عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 2‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 11‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ‏}‏ ‏[‏ الرعد‏:‏39‏]‏‏:‏ هل المحو والإثبات فى اللوح المحفوظ والكتاب الذي جاء فى الصحيح‏:‏ ‏(‏إن اللّه تعالى كتب كتاباً فهو عنده على عرشه‏)‏ الحديث، وقد جاء‏:‏ ‏(‏جَفَّ القلم‏)‏ ، فما معنى ذلك فى المحو والإثبات‏؟‏
    وهل شرع في الدعاء أن يقول‏:‏‏(‏اللهم إن كنت كتبتني كذا فامحني واكتبني كذا، فإنك قلت‏:‏ ‏{‏يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ‏}‏‏؟‏ وهل صح أن عمر كان يدعو بمثل هذا‏؟‏ وهل الصحيح عندكم أن العمر يزيد بصلة الرحم، كما جاء في الحديث‏؟‏ أفتونا مأجورين‏.‏
    فأجاب ـ رضي اللّه عنه‏:‏
    الحمد للّه رب العالمين‏.‏ أما قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ‏}‏ فالأجل الأول هو‏:‏ أجل كل عبد؛ الذي ينقضي به عمره، والأجل المسمى عنده هو‏:‏ أجل القيامة العامة؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏مُّسمًّى عِندَهُ‏}‏ فإن وقت الساعة لا يعلمه ملك مقرب ولا نبى مرسل، كما قال‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏187‏]‏‏.‏ بخلاف ما إذا قال‏:‏ ‏{‏مُّسمًّى‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏282‏]‏، إذ لم يقيد بأنه مسمى عنده، فقد يعرفه العباد‏.‏
    وأما أجل الموت فهذا تعرفه الملائكة الذين يكتبون رزق العبد، وأجله وعمله، وشقى أو سعيد، كما قال فى الصحيحين عن ابن مسعود قال‏:‏ حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو الصادق المصدوق ـ‏:‏ ‏(‏إن أحدكم يُجمَع خلقه فى بطن أمه أربعين يوما نُطْفَة، ثم يكون عَلَقَة مثل ذلك، ثم يكون مُضْغَة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك، فيؤمر بأربع كلمات، فيقال‏:‏ اكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقى أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح‏)‏، فهذا الأجل الذي هو أجل الموت قد يعلمه الله لمن شاء من عباده‏.‏
    وأما أجل القيامة المسمى عنده فلا يعلمه إلا هو‏.‏
    وأما قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 11‏]‏، فقد قيل‏:‏ إن المراد الجنس، أي ما يعمر من عمر إنسان، ولا ينقص من عمر إنسان، ثم التعمير والتقصير يراد به شيئان‏:‏
    أحدهما‏:‏ أن هذا يطول عمره، وهذا يقصر عمره، فيكون تقصيره نقصاً له بالنسبة إلى غيره، كما أن المعمر يطول عمره، وهذا يقصر عمره، فيكون تقصيره نقصاً له بالنسبة إلى غيره، كما أن التعمير زيادة بالنسبة إلى آخر‏.‏
    وقد يراد بالنقص النقص من العمر المكتوب، كما يراد بالزيادة الزيادة في العمر المكتوب، وفى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من سَرَّه أن يُبْسَط له في رزقه، ويُنْسَأ له فى أثره فلْيَصِلْ رَحِمَه‏)‏، وقد قال بعض الناس‏:‏ إن المراد به البركة فى العمر، بأن يعمل فى الزمن القصير ما لا يعمله غيره إلا فى الكثير، قالوا‏:‏ لأن الرزق والأجل مقدران مكتوبان‏.‏
    فيقال لهؤلاء‏:‏ تلك البركة ـ وهي الزيادة فى العمل، والنفع ـ هي أيضاً مقدرة مكتوبة، وتتناول لجميع الأشياء‏.‏
    والجواب المحقق‏:‏ أن الله يكتب للعبد أجلا فى صحف الملائكة، فإذا وصل رحمه زاد فى ذلك المكتوب، وإن عمل ما يوجب النقص نقص من ذلك المكتوب‏.‏
    ونظير هذا ما فى الترمذي وغيره عن النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن آدم لما طلب من اللّه أن يريه صورة الأنبياء من ذريته فأراه إياهم، فرأى فيهم رجلا له بَصِيص، فقال‏:‏ من هذا يارب‏؟‏ فقال‏:‏ ابنك داود ‏.‏قال‏:‏ فكم عمره‏؟‏ قال‏:‏ أربعون سنة‏.‏ قال‏:‏ وكم عمري‏؟‏ قال‏:‏ ألف سنة‏.‏ قال‏:‏ فقد وهبت له من عمري ستين سنة‏.‏ فكتب عليه كتاب، وشهدت عليه الملائكة، فلما حضرته الوفاة قال‏:‏ قد بقي من عمري ستون سنة‏.‏ قالوا‏:‏ وهبتها لابنك داود، فأنكر ذلك، فأخرجوا الكتاب‏)‏‏.‏ قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏فنَسِيَ آدم فنسيت ذريته، وجَحَد آدم فجحدت ذريته‏)‏ وروى أنه كمل لآدم عمره، ولداود عمره‏.‏
    فهذا داود كان عمره المكتوب أربعين سنة، ثم جعله ستين، وهذا معنى ما روى عن عمر أنه قال‏:‏ اللهم إن كنت كتبتني شقياً فامحنى واكتبنى سعيداً، فإنك تمحوا ما تشاء وتثبت‏.‏
    واللّه ـ سبحانه ـ عالم بما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فهو يعلم ما كتبه له وما يزيده إياه بعد ذلك، والملائكة لا علم لهم إلا ما علمهم اللّه، والله يعلم الأشياء قبل كونها وبعد كونها؛ فلهذا قال العلماء‏:‏ إن المحو والإثبات فى صحف الملائكة، وأما علم اللّه ـ سبحانه ـ فلا يختلف ولا يبدو له ما لم يكن عالماً به، فلا محو فيه ولا إثبات‏.‏
    وأما اللوح المحفوظ، فهل فيه محو وإثبات‏؟‏ على قولين،والله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم‏.‏
    وقَال أيضـاً‏:‏
    فصــل
    ذكر اللّه أنه يرفع درجات من يشاء فى قصة مناظرة إبراهيم وفى قصة احتيال يوسف؛ ولهذا قال السلف‏:‏ بالعلم؛ فإن سياق الآيات يدل عليه، فقصة إبراهيم فى العلم بالحجة، والمناظرة لدفع ضرر الخصم عن الدين، وقصة يوسف فى العلم بالسياسة والتدبير لتحصل منفعة المطلوب، فالأول علم بما يدفع المضار فى الدين، والثانى علم بما يجلب المنافع، أو يقال‏:‏ الأول هو العلم الذى يدفع المضرة عن الدين ويجلب منفعته، والثانى علم بما يدفع المضرة عن الدنيا ويجلب منفعتها، أو يقال قصة إبراهيم فى علم الأقوال النافعة عند الحاجة إليها، وقصة يوسف فى علم الأفعال النافعة عند الحاجة إليها، فالحاجة جلب المنفعة ودفع المضرة قد تكون إلى القول، وقد تكون‏.‏‏.‏‏.‏‏[‏خرم بالأصل‏]‏‏.‏
    ولهذا كان المقصرون عن علم الحجج والدلالات، وعلم السياسة والإمارات، مقهورين مع هذين الصنفين، تارة بالاحتياج إليهم إذا هجم عدو يفسد الدين بالجدل أو الدنيا بالظلم، وتارة بالاحتياج إليهم إذا هجم على أنفسهم من أنفسهم ذلك، وتارة بالاحتياج إليهم لتخليص بعضهم من شر بعض فى الدين والدنيا، وتارة يعيشون فى ظلهم فى مكان ليس فيه مبتدع يستطيل عليهم، ولا وال يظلمهم وما ذاك إلا لوجود علماء الحجج الدامغة لأهل البدع والسياسة الدافعة للظلم‏.‏
    ولهذا قيل‏:‏ صنفان إذا صلحوا صلح الناس‏:‏ العلماء والأمراء، وكما أن المنفعة فيهما فالمضرة منهما؛ فإن البدع والظلم لا تكون إلا فيهما؛ أهل الرياسة العلمية، وأهل الرياسة القدرية؛ ولهذا قال طائفة من السلف ـ كالثورى وابن عيينة وغيرهما ـ ما معناه‏:‏ أن من نجا من فتنة البدع وفتنة السلطان فقد نجا من الشر كله، وقد بسطت القول في هذا فى الصراط المستقيم عند قوله‏:‏ ‏{‏فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 69‏]‏‏.‏
    قال شيخ الإسلام ـ رَحِمهُ اللَّه ‏:‏
    هذه تفسير آيات أشكلت حتى لا يوجد فى طائفة من كتب التفسير إلا ما هو خطأ‏.‏
    منها قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏109‏]‏، والآية بعدها‏.‏ أشكلت قراءة الفتح على كثير بسبب أنهم ظنوا أن الآية بعدها جملة مبتدأة، وليس كذلك، لكنها داخلة فى خبر أن‏.‏ والمعنى‏:‏ إذا كنتم لا تشعرون أنها إذا جاءت لا يؤمنون وأنا أفعل بهم هذا، لم يكن قسمهم صدقا، بل قد يكون كذبا، وهو ظاهر الكلام المعروف أنها ‏(‏أن‏)‏ المصدرية، ولو كان‏{‏وَنُقَلِّبُ‏}‏ إلخ ‏.‏كلاماً مبتدأ لزم أن كل من جاءته آية قلب فؤاده، وليس كذلك، بل قد يؤمن كثير منهم‏.‏
    قال شيخ الإسلاَم ـ رَحِمهُ اللَّه ‏:‏
    فصــل
    قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏ ذكر هذا بعد قوله‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 112-115‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 27‏]‏‏.‏
    فأخبر فى هاتين الآيتين أنه لا مبدل لكلمات الله، وأخبر في الأولى أنها تمت صدقاً وعدلا، وقد تواتر عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه كان يستعيذ ويأمر بالاستعاذة بكلمات اللّه التامات، وفى بعض الأحاديث ‏(‏التى لا يجاوزهن بَرٌّ ولا فاجر‏)‏‏.‏
    وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 62-64‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 34‏]‏، فأخبر في هذه الآية أيضاً أنه لا مبدل لكلمات اللّه، عقب قوله‏:‏ ‏{‏فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا‏}‏، وذلك بيان أن وعد اللّه الذي وعده رسله من كلماته التى لا مبدل لها، لما قال فى أوليائه‏:‏ ‏{‏لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ‏}‏ فإنه ذكر أنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأن لهم البشرى فى الحياة الدنيا وفى الآخرة، فوعدهم بنفي المخافة والحزن، وبالبشرى في الدارين‏.‏
    وقال بعد ذلك‏:‏ ‏{‏وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ‏}‏، فكان فى هذا تحقيق كلام اللّه الذي هو وعده، كما قال‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏47‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏6‏]‏، وقال المؤمنون‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏194‏]‏‏.‏ فإخلاف ميعاده تبديل لكلماته، وهو ـ سبحانه ـ لا مبدل لكلماته‏.‏
    يبين ذلك قوله تعالى‏:‏‏{‏لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏28، 29‏]‏،فأخبر ـ سبحانه ـ أنه قدم إليهم بالوعيد،وقال‏:‏ ‏{‏مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ‏}‏ وهذا يقتضي أنه صادق في وعيده ـ أيضاً ـ وأن وعيده لا يبدل‏.‏
    وهذا مما احتج به القائلون بأن فساق الملة لا يخرجون من النار‏.‏ وقد تكلمنا عليهم فى غير هذا الموضع، لكن هذه الآية تضعف جواب من يقول‏:‏ إن إخلاف الوعيد جائز‏:‏ فإن قوله‏:‏ ‏{‏مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ‏}‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ‏}‏ دليل على أن وعيده لا يبدل، كما لا يبدل وعده‏.‏
    لكن التحقيق الجمع بين نصوص الوعد والوعيد، وتفسير بعضها ببعض من غير تبديل شيء منها، كما يجمع بين نصوص الأمر والنهي من غير تبديل شيء منها، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّه‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏15‏]‏، واللّه أعلم‏.‏ 
      =============

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

معاني

فهرس معاني الكلمات 001 الفاتحة ► 002 البقرة ► 003 آل عمران ► 004 النساء ► 005 المائدة ► 006 الأنعام ► 007 الأعراف ► 008 الأنفال ► 009 التوب...